قال الشيخ المفيد رحمه اللّه: ثم أقبل الحسين (عليه السلام) من الحاجز يسير نحو الكوفة، فانتهى الى ماء من مياه العرب فاذا عليه عبد اللّه بن مطيع العدوي و هو نازل به، فلما رأى الحسين (عليه السلام) قام إليه فقال: بأبي أنت و أمي يا ابن رسول اللّه ما اقدمك، و احتمله فانزله، فقال له الحسين (عليه السلام): «كان من موت معاوية ما قد بلغك فكتب إليّ أهل العراق يدعونني الى أنفسهم».
له عبد اللّه بن مطيع: أذكرك يا ابن رسول اللّه و حرمة الاسلام أن تنتهك، أنشدك اللّه في حرمة قريش، أنشدك اللّه في حرمة العرب، فو اللّه لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنّك و لئن قتلوك لا يهابوا بعدك أحدا أبدا، و اللّه انّها لحرمة الاسلام تنتهك … فلا تفعل و لا تأت الكوفة و لا تعرض نفسك لبني أميّة.
فأبى الحسين (عليه السلام) الّا أن يمضى و قرأ هذه الآية: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا } [التوبة: 51] و كان عبيد اللّه أمر فأخذ ما بين واقصة (و هي طريق الكوفة) الى طريق الشام الى طريق البصرة فلا يدعون أحدا يلج و لا أحدا يخرج و أقبل الحسين (عليه السلام) لا يعلم بشيء (ظاهرا) حتى لقي الاعراب فسألهم فقالوا: لا و اللّه ما ندري غير انا لا نستطيع ان نلج و لا نخرج فسار تلقاء وجهه.
و حدّث جماعة من فزارة و بجلة قالوا: كنّا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكة، فكنّا نساير الحسين (عليه السلام) فلم يكن شيء أبغض إلينا من أن ننازله في منزل، فاذا سار الحسين (عليه السلام) و نزل منزلا لم نجد بدا من أن ننازله.
فنزل الحسين (عليه السلام) في جانب و نزلنا في جانب فبينا نحن جلوس نتغدى من طعام لنا اذ اقبل رسول الحسين (عليه السلام) حتى سلّم ثم دخل، فقال: يا زهير بن القين انّ ابا عبد اللّه الحسين (عليه السلام) بعثني إليك لتأتيه.
فطرح كل انسان منّا ما في يده حتى كأنّ على رؤوسنا الطير، فقالت له امرأته: سبحان اللّه أ يبعث إليك ابن بنت رسول اللّه ثم لا تأتيه، لو أتيته فسمعت من كلامه ثم انصرفت، فأتاه زهير بن القين فما لبث أن جاء مستبشرا قد أشرق وجهه، فأمر بفسطاطه و ثقله و رحله و متاعه فقوض و حمل الى الحسين (عليه السلام).
ثم قال لامرأته أنت طالق، الحقي بأهلك فانّي لا أحبّ أن يصيبك بسببي الّا خيرا ، (و على روية السيد قال:) و قد عزمت على صحبة الحسين (عليه السلام) لأفديه بنفسي و أقيه بروحي، ثم أعطاها مالها و سلّمها الى بعض بني عمّها ليوصلها الى أهلها.
فقامت إليه و بكت و ودّعته و قالت: كان اللّه عونا و معينا، خار اللّه لك أسألك أن تذكرني
في القيامة عند جدّ الحسين (عليه السلام).
فقال لأصحابه: من أحبّ أن يصحبني و الّا فهو آخر العهد منّي به، فودّعهم و سار نحو الحسين (عليه السلام) ، و قال بعض ارباب السير انّه لحقه ابن عمّه سلمان بن مضارب بن قيس و استشهد في ظهر عاشوراء بكربلاء.
و روى الشيخ المفيد عن عبد اللّه بن سليمان و المنذر بن المشمعل الأسديان قالا: لما قضينا حجنا لم تكن لنا همة الّا اللحاق بالحسين (عليه السلام) في الطريق للنظر ما يكون من أمره، فأقبلنا ترقل بنا ناقتنا مسرعين حتى لحقناه بزرود (موضع يقرب عن الثعلبية) فلما دنونا منه اذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى الحسين (عليه السلام) فوقف الحسين (عليه السلام) كأنّه يريده ثم تركه و مضى، و مضينا نحوه فقال أحدنا لصاحبه: اذهب بنا الى هذا نسأله فانّ عنده خبر الكوفة.
فمضينا حتى انتهينا إليه فقلنا السلام عليك، فقال: و عليكم السلام، قلنا: ممن الرجل؟
قال: أسدي، قلنا له: و نحن أسديان، فمن أنت؟ قال: انا بكر بن فلان، و انتسبنا له، ثم قلنا له:
اخبرنا عن الناس ورائك.
قال: نعم، لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل و هاني بن عروة و رأيتهما يجران بأرجلهما في السوق، فاقبلنا حتى لحقنا الحسين (عليه السلام) فسايرناه حتى نزل الثعلبية ممسيا، فجئناه حين نزل فسلّمنا عليه فردّ علينا السلام، فقلنا له: رحمك اللّه انّ عندنا خبرا ان شئت حدّثناك علانية و ان شئت سرا.
فنظر إلينا و الى اصحابه ثم قال: ما دون هؤلاء ستر، فقلنا له: أ رأيت الراكب الذي استقبلته عشيّ أمس؟ قال: نعم و قد أردت مسألته، فقلنا قد و اللّه استبرأنا لك خبره و كفيناك مسألته و هو امرؤ منّا ذو رأي و صدق و عقل و انّه حدّثنا انّه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم و هاني و رآهما يجران في السوق بأرجلهما.
فقال: «انّا للّه و انّا إليه راجعون» رحمة اللّه عليهما.
يردد ذلك مرارا، فقلنا له: ننشدك اللّه في نفسك و أهل بيتك الّا انصرفت من مكانك هذا فانّه ليس لك بالكوفة ناصر و لا شيعة بل نتخوف أن يكونوا عليك، فنظر الى بني عقيل فقال:
ما ذا ترون؟ فقد قتل مسلم، فقالوا: و اللّه لا نرجع حتى نصيب ثارنا أو نذوق ما ذاق.
فأقبل علينا الحسين و قال: لا خير في العيش بعد هؤلاء، فعلمنا انّه قد عزم رأيه على المسير، فقلنا له: خار اللّه لك، فقال: رحمكما اللّه، فقال له اصحابه: انّك و اللّه ما أنت مثل مسلم بن عقيل و لو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع، فسكت (لعلمه (عليه السلام) بعاقبة الامر) .
و على رواية السيد ابن طاوس انّه: لما بلغ الحسين (عليه السلام) قتل مسلم، استعبر باكيا ثم قال: رحم اللّه مسلما فلقد صار الى روح اللّه و ريحانه و جنّته و رضوانه، امّا انّه قد قضى ما عليه و بقي ما علينا، ثم أنشأ يقول:
فان تكن الدنيا تعدّ نفسية فانّ ثواب اللّه أعلى و انبل
و ان تكن الأبدان للموت انشئت فقتل امرئ بالسيف في اللّه أفضل
و ان تكن الأرزاق قسما مقدرا فقلّة حرص المرء في السعي أجمل
و ان تكن الأموال للترك جمعها فما بال متروك به المرء يبخل
و جاء في بعض كتب التواريخ انّه كان لمسلم بنت عمرها ثلاث عشرة سنة و كانت مع بنات الحسين (عليه السلام) و تصاحبهم ليلا و نهارا فلمّا بلغ الحسين (عليه السلام) مقتل مسلم جاء الى فسطاطه فأخذ ابنته و تلطّف إليها و مسح على رأسها اكثر مما كان يفعل، فقالت ابنة مسلم:
يا ابن رسول اللّه تتعامل معي معاملة الايتام هل استشهد ابي؟ فبكى الحسين (عليه السلام) و قال لها: لا تحزني يا بنيّة ان قتل مسلم فأنا بمنزلة ابيك و أختي بمنزلة أمّك و بناتي بمنزلة أخواتك. فصاحت و علا صوتها بالبكاء و بكى أيضا أولاد مسلم و كشفوا رءوسهم و وافقهم أهل البيت فاشتدّ المجلس بالبكاء و النحيب، و حزن الحسين (عليه السلام) على مسلم حزنا شديدا.
روى الشيخ الكليني قدّس سرّه انّه: لقي رجل الحسين بن عليّ (عليه السلام) بالثعلبية و هو يريد كربلاء، فدخل عليه فسلّم عليه، فقال له الحسين (عليه السلام): من أيّ البلاد أنت؟ قال: من أهل الكوفة، قال: أما و اللّه يا أخا أهل الكوفة لو لقيتك بالمدينة لأريتك أثر جبرئيل (عليه السلام) من دارنا و نزوله بالوحي على جدّي، يا أخا أهل الكوفة أ فمستقى الناس العلم من عندنا، فعلموا و جهلنا؟ هذا ما لا يكون .
و قال ابن طاوس انّه: سار الحسين (عليه السلام) حتى أنزل الثعلبية وقت الظهيرة فوضع رأسه فرقد، ثم استيقظ فقال: قد رأيت هاتفا يقول: انتم تسرعون و المنايا تسرع بكم الى الجنّة، فقال له ابنه عليّ: يا أبة أ فلسنا على الحق، فقال: بلى يا بني و اللّه الذي إليه مرجع العباد، فقال: إذن لا نبالي بالموت، فقال له الحسين (عليه السلام): جزاك اللّه يا بني خير ما جزى والدا عن والد. ثم بات (عليه السلام) في الموضع المذكور، فلمّا اصبح اذا برجل من أهل الكوفة يكنّى أبا هرّة الازدي قد أتاه، فسلّم عليه ثم قال: يا ابن رسول اللّه ما الذي أخرجك عن حرم اللّه و حرم جدّك رسول اللّه؟
فقال الحسين (عليه السلام): ويحك يا أبا هرّة انّ بني اميّة اخذوا مالي فصبرت، و شتموا عرضي فصبرت، و طلبوا دمي فهربت، و أيم اللّه لتقتلني الفئة الباغية و ليلبسنّهم اللّه ذلا شاملا و سيفا قاطعا، و ليسلطنّ اللّه عليهم من يذلّهم حتى يكونوا أذلّ من قوم سبا اذ ملكتهم امرأة فحكمت في اموالهم و دمائهم .
و على رواية الشيخ المفيد و غيره انّه: ثم انتظر (عليه السلام) حتى اذا كان السحر قال لفتيانه و غلمانه: اكثروا من الماء، فاستقوا و اكثروا ثم ارتحلوا، فسار حتى انتهى الى زبالة (اسم موضع) فأتاه خبر مقتل عبد اللّه بن يقطر، فأخرج (عليه السلام) الى الناس كتابا فقرأه عليهم:
بسم اللّه الرحمن الرحيم «اما بعد فانّه قد اتانا خبر فظيع قتل مسلم بن عقيل و هاني بن عروة و عبد اللّه بن يقطر و قد خذلنا شيعتنا فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج ليس معه ذمام».
فتفرق الناس عنه و أخذوا يمينا و شمالا حتى بقي في اصحابه الذين جاءوا معه من المدينة و نفر يسير ممّن انضموا إليه، و إنمّا فعل ذلك لانّه (عليه السلام) علم انّ الاعراب الذين اتبعوه إنمّا اتبعوه و هم يظنون انّه يأتي بلدا قد استقامت له طاعة أهله، فكره أن يسيروا معه الّا و هم يعلمون على ما يقدمون.
فلمّا كان السحر أمر أصحابه فاستقوا ماء و اكثروا، ثم ساروا حتى مرّ ببطن العقبة فنزل عليها، فلقيه شيخ من بني عكرمة يقال له عمرو بن لوذان، فسأله أين تريد؟ فقال له الحسين (عليه السلام): الكوفة، فقال الشيخ: أنشدك لما انصرفت فو اللّه ما تقدم الّا على الاسنة و حد السيوف و انّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مئونة القتال و وطئوا لك الاشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأيا، فأما على هذه الحال التي تذكر فانّي لا أرى لك أن تفعل.
فقال له: يا عبد اللّه ليس يخفى عليّ الرأي و انّ اللّه عز و جل لا يغلب على أمره، ثم قال (عليه السلام): و اللّه لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي فاذا فعلوا سلّط اللّه عليهم من يذلّهم حتى يكونوا أذلّ فرق الامم .