للحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء استنصاران واستغاثة :
الاستنصار الأوّل يوم عاشوراء :
دعا الحسين (عليه السلام) براحلته يوم عاشوراء فركِبها ونادى بصوتٍ عال يسمعه جُلُّهم :
أيّها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتّى أعِظكم بما هو حقّ لكم عليّ وحتّى اعتذر إليكم من مقْدمي عليكم فإن قبلتم عذري وصدّقتم قولي وأعطيتموني النَصف من أنفسكم كنتم بذلك أسعد ولم يكن لكم عليّ سبيل وإن لم تقبلوا منّي العذر ولم تعطوا النَصف مِن أنفسكم فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ
وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمّةً ثُمّ اقْضُوا إِلَيّ وَلاَ تُنظِرُونِ , إِنّ وَلِيّيَ اللّهُ الّذِي نَزّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلّى الصّالِحِينَ.
فلمّا سمعْنَ النساء هذا منه صحْنَ وبَكين وارتفعت أصواتهم فأرسل إليهنّ أخاه العباس وابنه عليّ الأكبر وقال لهما : سكّتاهن فلَعمري ليكثُر بكاؤهنّ .
ولمّا سكتْنَ حمَد الله وأثنى عليه وصلّى على محمّد وعلى الملائكة والأنبياء وقال في ذلك ما لا يُحصى ذِكره ولم يُسمَع متكلّم قبله ولا بعده أبلَغ منه في منْطقه .
ثمّ قال : الحمد لله الذي خلَق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال فالمغرور مَن غرّته والشقيّ مَن فتنته فلا تغرّنكم هذه الدنيا فإنّها تقطع رجاء مَن ركن إليها وتُخيّب طمَع مَن طمع فيها وأراكم قد اجتمعتم على أمرٍ قد أسخطتُم الله فيه عليكم وأعرَض بوجهه الكريم عنكم وأحلّ بكم نقمته وجنّبكم رحمته فنِعم الربّ ربّنا وبئس العبيد أنتم أقررتُم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله) ثمّ إنّكم زحفتم إلى ذرّيته وعترته تريدون قتْلهم وقد استحوَذ عليكم الشيطان فأنساكم ذِكر لله العظيم فتبّاً لكم ولِما تريدون إنّا لله وإنّا إليه راجعون هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبُعداً للقوم الظالمين .
أيّها الناس انسبوني مَن أنا ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها وانظروا هل يحلّ لكم قتْلي وانتهاك حُرمتي ؟ ألستُ ابن بنت نبيّكم وابن وصيّة وابن عمّه وأوّل المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء مِن عند ربّه ؟ أوَ ليس حمزة سيد الشهداء عمّ أبي أو ليس جعفر الطيّار عمّي أوَ لم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي : هذان سيّدا شباب أهل الجنّة ؟
فإن صدّقتموني بما أقول وهو الحقّ فوَ الله ما تعمّدت الكذِب منذ علِمتُ أنّ الله يمْقت عليه أهله ويضرّ به مَن اختلقـه وإن كذّبتموني فإنّ فيكم مَن إن سألتموه عن ذلك أخبركم سلوا جابر بن عبدالله الأنصاري وأبا سعيد الخدري وسهل بن سعد الساعدي وزيد بن أرقم وأنس ابن مالك يخبرونكم إنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله لي ولأخي أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي.
فقال الشمر : هو يعبُد الله على حرْف إن كان يدري ما يقول .
فقال له حبيب بن مظاهر : والله إنّي أراك تعبُد الله على سبعين حرفاً وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول قد طبَع الله على قلبك .
ثمّ قال الحسين (عليه السلام) : فإن كنتم في شكٍّ مِن هذا القول أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم ؟ فوَ الله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيٍّ غيري فيكم ولا في غيركم ويْحَكم ! أتطلبوني بقتيل منكم قتلته أو مالٍ لكم استهلكته أو بقصاص جراحة ؟) فأخذوا لا يكلّمونه .
فنادى : ياشبث بن ربعي ويا حجار بن أبجر ويا قيس بن الأشعث ويا زيد ابن الحارث ألم تكتبوا إليّ أن أقدِم قد أينع الثمار واخضرّ الجناب وإنما تقدِم على جُندٍ لك مجنّدة .
فقالوا : لم نفعل .
قال : سبحان الله بلى والله لقد فعلتم . ثمّ قال : أيّها الناس إذا كرهتموني فدَعوني أنصرف عنكم إلى مأمَني مِن الأرض فقال له قيس بن الأشعث : أوَ لا تنزل على حُكم بني عمّك ؟ فإنّهم لن يروك إلاّ ما تحبّ ولن يصل إليك منهم مكـروه .
فقال الحسين (عليه السلام) : أنت أخو أخيك أتُريد أن يطلبك بنو هاشم أكثر مِن دم مسلم بن عقيل ؟ لا والله لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا إفرّ فِرار العبيد عِباد الله إنّي عُذْت بربّي وربِّكم أنْ ترْجِمُونِ أعوذ بربّي وربّكم مِن كلّ متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب .
الاستنصار الثاني في يوم عاشوراء :
ثمّ إنّ الحسين (عليه السلام) ركِبَ فرَسه وأخذ مصحفاً ونشَره على رأسه ووقف بإزاء القوم وقال : يا قوم إنّ بيني وبينكم كتاب الله وسنّة جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .
ثمّ استشهدهم عن نفسه المقدّسة وما عليه من سيف النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ودرعه وعمامته فأجابوه بالتصديق . فسألهم عمّا أقدمهم على قتله قالوا : طاعة للأمير عبيد الله بن زياد فقال (عليه السلام) :
تبّاً لكم أيّها الجماعة وترَحاً ! أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجِفين سللتُم علينا سيفاً لنا في أَيمانكم وحششتُم علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم ؟ فأصبحتم ألباً لأعدائكم على أوليائكم بغير عدْلٍ أفشَوه فيكم ولا أمَل أصبح لكم فيهم فهلاّ لكم الوَيلات تركتمونا والسيف مشيم والجأش طامن والرأي لمّا يُستحصف ولكن أسرعتم كطَيرة الدبا وتداعيتم عليها كتهافت الفَراش ثمّ نفضتموها فسُحقاً لكم يا عبيد الأمَة وشذّاذ الأحزاب ونبَذة الكتاب ومحرّفي الكلِم وعصبة الإثم ونفثة الشيطان ومطفئي السُنن ! وَيحَكم ! أهؤلاء تعضدون وعنّا تتخاذلون ؟ أجَل والله غدرٌ فيكم قديم وشِجَت عليه أُصولكم وتأزّرت فروعكم فكنتم أخبث ثمَر شجىً للناظر وأكْلة للغاصب) .
(ألا وإنّ الدعيَّ ابن الدعيّ قد ركَز بين اثنتين بين السِلّة والذلّة وهيهات منّا الذلّة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنـون وحجورٌ طابت وطهُرَت وأنوفٌ حَمِية ونفوس أبيّة مِن أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام ألا وإنّي زاحف بهذه الأُسرة على قلّة العدد وخذلان الناصر) .
الاستغاثة الأخيرة للحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء :
ولمّا نظر الحسين (عليه السلام) كثرة مَن قُتل مِن أصحابه قبض على شيبته المقدّسة وقال : اشتدّ غضب الله على اليهود إذ جعلوا له ولداً واشتدّ غضبه على النصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة واشتد غضبه على المجوس إذ عبَدوا الشمس والقمر دونه واشتد غضبه على قوم اتّفقت كلمتهم على قتْل ابن بنت نبيّهم أما والله لا أُجيبهم إلى شيءٍ يريدون حتّى ألقى الله وأنا مخضّب بدمي ثمّ صاح : أما مِن مغيث يغيثنا أما مِن ذابٍّ يذبّ عن حُرَم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وسمع الأنصاريّان سعد بن الحارث وأخوه أبو الحتوف استنصار الحسين واستغاثته وبكاء عياله وكانا مع ابن سعد فمالا بسيفهما على أعداء الحسين وقاتلا حتّى قُتلا .
قال السيّد (رضي عنه الله) : ولمّا رأى الحسين (عليه السلام) مصارع فتيانه وأحبّته عزم على لقاء القوم بمُهجته ونادى : هل مِن ذابٍّ يذبّ عن حُرَم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هل مِن موحّد يخاف الله فينا هل مغيث يرجو الله بإغاثتنـا هل مِن معين يرجو ما عند الله في إعانتنا . فارتفعت أصوات النساء بالعويل فتقدّم إلى باب الخيمة وقال لزينب : ناوليني ولَدي الصغير حتّى أودّعه فأخَذه وأومأ إليه ليُقبّله فرماه حرملة بن كاهل الأسدي بسهْمٍ فوقع في نحـره فذبحـه .
فقال (عليه السلام) لزينب : خُذيه ثمّ تلقّى الدم بكفّيه فلمّا امتلأت رمى بالدم نحو السماء ثمّ قال : هوّن عليّ ما نزل بي أنّه بعَين الله .
وحكى السبط في التذكرة عن هشام بن محمّد الكعبي قال : لمّا رآهم الحسين (عليه السلام) مصرّين على قتْله أخذ المصحف ونشره وجعله على رأسه ونادى : (بيني وبينكم كتاب الله وجدّي محمّد رسول الله يا قوم بم تستحلّون دمي ؟) فَساقَ الكلام إلى أن قال : فالتفت الحسين (عليه السلام) فإذا بطفل له يبكي عطشاً ، فأخذه على يده وقال : يا قوم إن لم ترحموني فارحموا هذا الطفل فرماه رجُل منهم بسهْم فذبَحه فجعل الحسين (عليه السلام) يبكي ويقول : اللهم اُحكم بيننا وبين قومٍ دعونا لينصرونا فقتلونا . فنوديَ مِن الهواء : دعْه يا حسين فإنّ له مرضعاً في الجنّة .
ثمّ قال : ورماه حُصَين بن تميم بسَهْم فوقع في شفتَيه فجعل الدم يسيل مِن شفتيه وهو يبكي ويقول : (اللهم أشكو إليك ما يُفعل بي وبإخوَتي وولْدي وأهلي ـ الخ) .
استنصار زهير (رحمه الله) يوم عاشوراء :
وخرج إليهم زهير بن القين على فرَس ذنوب وهو شاكٍ في السلاح فقال : (يا أهل الكوفة نذار لكم مِن عذاب الله نذار إنّ حقّاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم ونحن حتّى الآن إخوة على دينٍ واحد ما لم يقع بيننا وبينكم السيف وأنتم للنصيحة منّا أهل فإذا وقع السيف انقطعت العصمة وكنّا أُمّة وأنتم أُمّة . إن الله ابتلانا وإيّاكم بذرّية نبيّه محمّد (صلّى الله عليه وآله) ؛ لينظر ما نحن وأنتم عاملون إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية يزيد وعبيد الله بن زياد فإنّكم لا تدركون منهما إلاّ سوء عُمر سلطانهما لَيسملان أعْينكم ويقطّعان أيديَكم وأرْجُلِكم ويمثّلان بكم ويرفعانكم على جذوع النخل ويقتلان أماثلكم وقرّاءكم أمثال حجر بن عدي وأصحابه وهاني بن عروة وأشباهه .
فسبّوه وأثنوا على عبيد الله بن زياد ودَعوا له وقالوا : لا نبرح حتّى نقتل صاحبك ومَن معه أو نبعث به وبأصحابه إلى عبيد الله بن زياد سِلـماً .
فقال زهير : عباد الله إنّ وُلد فاطمة أحقّ بالودّ والنصر مِن ابن سميّة فإن لم تنصروهم فأُعيذكم بالله أن تقتلوهم فخلّوا بين هذا الرجُل وبين يزيد فلَعمري إنّه لَيرضى من طاعتكم بدون قتْل الحسين (عليه السلام) .
فرماه الشمر بسهم وقال : اسكُت أسكَت الله نامتك أبرمتنا بكثرة كلامك .
فقال زهير : يابن البوّال على عقِبَيه ما إيّاك أُخاطب إنّما أنت بهيمة والله ما أظنّك تُحكِم من كتاب الله آيتين فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم .
فقال الشمر : إنّ الله قاتِلك وصاحبك عن ساعة .
فقال زهير : أفبالموت تخوّفني ؟ فو الله للموت معه أحبّ إليَّ مِن الخُلد معكم ثمّ أقبل على القوم رافعاً صوته وقال :
عِباد الله لا يغرّنكم عن دينكم هذا الجلَف الجافي وأشباهه فو الله لا تنال شفاعة محمّد (صلّى الله عليه وآله) قوماً هرقوا دماء ذرّيته وأهل بيته وقتلوا مَن نصرَهم وذبّ عن حريمهم .
فناداه رجُل مِن أصحابه أنّ أبا عبدالله يقول لك : أقبِل فلَعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح قومه وأبلغ في الدعاء فلقد نصحت هؤلاء وأبلغت لو نفع النُصح والإبلاغ .
وللخطاب الاستنصار الحسيني أربع دلالات :
1 ـ الدلالة السياسية 2 ـ الدلالة الحركية 3 ـ الدلالة الولائية 4 ـ الدلالة الشمولية .
وفيما يلي توضيح وشرح لهذه الدلالات الأربعة التي يتضمّنها الخطاب الحسيني .
1 ـ المضمون السياسي لخطاب الاستنصار الحسيني
الاستنصار والتعبئة وتحشيد الرأي العام والإعلام ضدّ الطاغية مِن مقوّمات كلّ مواجهة سياسية ضد نظام حاكم يحكم بالظلم .
فإنّ الصراع على الحكم بين الحاكم والمعارضة صراع غير متكافئ من الناحية الميدانية .
ذلك أنّ الحاكم يملك من القوّة والمال والإعلام والسلطان ما لا يتملّكه المعارضة .
ولا غِنى للمعارضة أيّة معارضة في معركة من هذا القبيل مِن أن تعمل كلّ جهدها وتسعى لكسب الرأي العام إلى جانبها وكسب القوّة والاستنصار وتحشيد الرأي العام والتعبئة .
ونحن على يقين أنّ الحسين (عليه السلام) لم يكن يفكّر يوم أقدم على الخروج… في أن يهزم طاغية عصره في مواجهة عسكرية ميدانية ولا نحتاج إلى محاسبات عسكرية وسياسية ؛ لنعرف أنّ الحسين (عليه السلام) لم يكن بصدد إسقاط يزيد وانتزاع السلطان والمُلك والحُكم مِن يده وهو أَولى به مِن غيره .
وإنّما كان الحسين (عليه السلام) يفكّر في أمرين أحدهما سياسي والآخَر حرَكيّ .
أمّا الهدف السياسي مِن حركة الحسين (عليه السلام) : وهو إلغاء شرعية الخلافة الأُمَوية وفضْح يزيد وكسْر هيبته وعزله سياسياً واجتماعياً .
وأمّا الهدف الحرَكي فهو توعية الناس وكسْر حاجز الخوف وتحريك الناس وتثويرهم ؛ لإسقاط نظام الطاغية واستنهاض الأمّة وإعادة إرادتها المسلوبة ووَعيِها المسلوب إليها .
والهدف الأوّل هدف سياسي بالتأكيد والحسين (عليه السلام) يدخل في مواجهة سياسية مع أعْتى نظام سياسي وأشرسه والاستنصار جزء مِن هذه المعركة .
والاستنصار دعوة إلى تطويق النظام الأُمَوي ومحاصرته وعزله وتحجيم دَوره وإلغاء شرعيّته… وهو جزء مِن رسالة الإمام الحسين (عليه السلام) في هذه المعركة الشاملة .
2 ـ المضمون الحركي لخطاب الاستنصار الحسيني
والدلالة الأخرى لخطاب الاستنصار الحسيني هي الدلالة الحركية …
ولتوضيح ذلك لا بدّ أن نرسم الإطار العام لخروج الحسين (عليه السلام) وعناصر هذا الإطار ثلاثة :
1 ـ رفض البيعة ليزيد : وقد أعلن الحسين (عليه السلام) رفضه لبيعة يزيد عندما أرسَل الوليد والي بني أُميّة في المدينة يطالبه بالبيعة بعد هلاك معاوية وكان ذلك بحضور مروان بن الحكم فامتنع الحسين (عليه السلام) مِن البيعة وقال مثْلي لا يبايع سرّاً فإذا دعوت الناس دعوتنا معهم.
فاقتنع الوليد لكن مروان ابتدره قائلاً : إن فارقك الساعة ولم يبايع لم تقدر منه على مثلها حتّى تكثر القتلى بينكم ولكن احبس الرجل حتّى يبايع أو تضرب عُنقه .
فقال الحسين (عليه السلام) : يابن الزرقاء أنت تقتلني أمْ هو كذِبتَ وأثِمْت .
ثمّ أقبل على الوليد وقال : أيّها الأمير إنّا أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا يختم ويزيد رجُل شارب الخمور وقاتل النفس المحترمة معلِن بالفِسق ومثْلي لا يبايع مثْله ولكن نصبح وتصبحون .
وفي كربلاء خطَب الحسين (عليه السلام) وقال : (إنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد خيَّر بين السِلّة والذلّة وهيهات منّا الذلّة يأبى الله لنا ذلك ورسولُه وحجورٌ طابت وطهُرَت) .
2 ـ إعلان الرفض : لم يتكتّم الحسين (عليه السلام) برفضْه البيعة وعرَف الناس جميعاً أنّ الحسين (عليه السلام) ممتنع عن البيعة ونصَحه بعض الناس بالبيعة وآخَرون أن يُخفي نفسه عن الأمصار .
ولكن الحسين (عليه السلام) أعلن أنّه يرفض البيعة ويريد الخروج إلى مكّة وترَك وصيّته إلى بني هاشم وكافّة المسلمين عند أخيه محمّد بن الحنفية وغادر المدينة إلى مكّة سالكاً الطريق العام الذي يسلكه الناس ويراه الناس فيه فقيل له لو تنكّبت الطريق الأعظم كما فعل ابن الزبير قال : لا والله لا أُفارقه حتّى يقضي الله ما هو قاضٍ .
ودخل مكّة وهو يقرأ : وَلَمّا تَوَجّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السّبِيلِ .
ونزل دار العباس بن عبد المطّلب واختلف إليه أهل مكّة ومَن بها مِن المعتمرين وأهل الآفاق وكان ابن الزبير يأتي إلى الحسين (عليه السلام) فيمَن يأتيه .
وكان بإمكان الحسين (عليه السلام) أن يأخذ بنصيحة مَن ينصحه بإخفاء نفسه فيخفي نفسه عن الأنظار ويذهب إلى بعض الثغور ويبتعد عن الأضواء وبذلك يسلَم مِن أذى بني أُمية وكَيدهم وكان لا يخفى هذا الوجه على الحسين (عليه السلام) كما صرّح بذلك لجُملةٍ مِن الذين نصحوه ولكنّه أصرّ أن يرفض البيعة وأصرّ أن يُعلِن رفْضه ويبقى تحت الأضواء ويصارح الناس برأيه في يزيد وبيعته وبأنّه أحقّ بذلك مِن كلّ إنسان آخَر على وجه الأرض .
3 ـ الخروج والثورة : وأصرّ الحسين (عليه السلام) بعد ذلك أن يخرج مِن الحجاز إلى العراق ؛ ليواجه فيه بني أُمية .
وإذا أنعمنا النظر في كلمات أولئك الذين نصحوا الحسين (عليه السلام) بالامتناع عن الخروج إلى العراق نجد أنّ كلامهم يتضمّن ثلاث نقاط .
الأُولى : إنّ خروج الحسين (عليه السلام) إلى العراق بمعنى الثورة والمواجهة بعَينها لنظام بني أُمية .
والثانية : إنّ شيعة الحسين (عليه السلام) في العراق إذا وفَوا للحسين (عليه السلام) بعهودهم ومواثيقهم فلن يستطيعوا أن يدفعوا عن الحسين (عليه السلام) كيد بني أُمية ومكْرهم وشرّهم ولن يغلبوا سلطان بني أُمية على العراق .
والثالثة : وبناءً على ذلك فإنّ الحسين (عليه السلام) إذا خرج إلى العراق فهو مقتول لا محالة.
ولم تكن هذه الحقائق تخفى على الإمام (عليه السلام) ولم يكن يجهل الإمام (عليه السلام) أنّ خروجه إلى العراق بمعنى الخروج على سلطان بني أُمية علانية ولم تكن تخفى على الحسين (عليه السلام) عاقبة هذا الخروج .
ولا يصحّ ما يرويه بعض الناس أنّ الحسين (عليه السلام) طلب منهم أن يُخلوا له الطريق إلى بعض الثغور بعيداً عن الأضواء وبعيداً عن التصدّي والمواجهة فلا يعطيهم يده للبيعة ولا يتصدّى للخروج والمواجهة .
روى الطبري وابن الأثير عن عقبة بن سمعان أنّه قال : صحبت حسيناً فخرجت معه مِن المدينة إلى مكّة ومِن مكّة إلى العراق ولم أُفارقه حتّى قُتِل (عليه السلام) وليس مِن مخاطبته الناس كلمة بالمدينة ولا بمكّة ولا في الطريق ولا بالعراق ولا في معسكرٍ إلى يوم قتله إلاّ وقد سمعتُها . لا والله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس وما يزعمون مِن أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية ولا أن يُسيّروه إلى ثغْر مِن ثغور المسلمين ولكنّه قال : دعوني في هذه الأرض حتّى ننظر ما يصير أمر الناس .
وكان مِن رأي محمّد بن الحنفية أن يُخفي الحسين (عليه السلام) نفسه عن الأنظار ويبتعد عن أجواء المواجهة والتصـدّي ويلتحق بالجبال وشُعَب الجبال ويخرج مِن بلد إلى آخَر حتّى ينظر ما يصير إليه أمر الناس .
فأبى الحسين (عليه السلام) وأصرّ على الخروج .
ونصَحه ابن عباس أن يسير إلى اليمن فإنّ بها حصوناً وشِعاباً وهي أرض عريضة طويلة ولأبيه (عليه السلام) بها شيعة وهو عن الناس في عزلة .
فقال له الحسين (عليه السلام) : (يابن العمّ إنّي والله أعلم إنّك ناصح مشفق وقد أزمعت على المسير) .
إذن فإنّ الحسين (عليه السلام) كان يقصد الخروج ويريده وهو على عِلم بكلّ لوازمه وتبِعاته وعواقبه .
هذا هو الإطار العام لحركة الإمام الحسين (عليه السلام) وموقفه مِن المدينة إلى كربلاء وفي هذا الإطار نستطيع أن نفْهم الاستنصار الحسيني .
إنّ الحسين يعلم أنّه إن خرَج إلى العراق يُقتل لا محالة وكلّ القرائن والدلائل تشير إلى هذه الحقيقة .
إذن فإنّ الحسين (عليه السلام) يطلب النصر بالقتْل والدم . ولم يكن يفطَن يومئذٍ ابنُ عباس وعبدالله بن جعفر الطيّار ومحمّد بن الحنفية لهذه الوسيلة التي اتّخذها الحسين (عليه السلام) يومئذٍ طريقاً إلى النصر .
لقد كان الحسين (عليه السلام) شاهداً لنجاح المؤامرة الأُموية التي قادها آل أبي سفيان للانقلاب على الأعقاب … وقد فقدت الأمّة في عرضها العريض حصانتها تجاه هذه المؤامرة وعاد الضمير الإسلامي لا يملك الدرجة الكافية من المناعة والمقاومة .
ولا يختلف في ذلك أهل العراق عن أهل الشام وأهل مصر عن أهل الحجاز فأراد الحسين (عليه السلام) أن يُحدث هزّة بشهادته وشهادة الثُلّة الطيّبة مِن أهل بيته وأصحابه في الضمير الإسلامي ويُعيد إليهم ما سلَبه منهم آل أبي سفيان مِن ضمائرهم وعزائمهم ورُشدهم .
وقد كان الذي يريده الحسين (عليه السلام) بمصرعه ومصرع أهل بيته وأصحابه والمأساة التي يتناقلها أهل السِيَر فأحدث في الضمير الإسلامي هزّةً عنيفة وصحوة ضميرٍ كانت مبدأ كثير مِن البركات والثورات والوعي واليقظة السياسية في تاريخ الإسلام .
المصدر: http://h-najaf.iq