بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
بقلم: زكريَّا بركات
20 أكتوبر 2022
قال الله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) [فاطر: 32] .
تمهيدٌ:
تُعَدُّ هذه الآية الكريمة من الآيات التي ترتبط بالإمامة والولاية، وفيها دلالات مهمَّة جدًّا ينبغي أن يقف عندها الباحثون. وقد أدَّى الاستعجال بكثير من الباحثين إلى الخروج بفهم غير صحيح للآية الكريمة، وربَّما استعملها بعضهم ـ بغير حقٍّ ـ لخدمة انتماءاتهم المذهبيَّة وحمَّلوا كلامَ الله تعالى بعضَ دعاويهم التي لا أساس لها من الصحَّة ولا برهان.
التَّساؤل عن التَّقسيم الثُّلاثي للعباد في الآية الكريمة:
من الغنيِّ عن البيان أنَّ الآية الكريمة بصدد ذكر ثلاثة أقسام:
1 ـ الظالم لنفسه.
2 ـ المقتصد.
3 ـ السابق بالخيرات بإذن الله.
إلَّا أنَّ الأمر الذي يستحقُّ الوقوف والتدبُّر هو مرجع الضمير في كلمة (فمنهم) ، فهل يرجع الضمير إلى (الذين اصطفينا) ؟ أم يرجع إلى (عبادنا) ؟
الإجابة عن هذا السؤال تؤثِّر كثيراً في فهم الآية، فإذا قلنا بأنَّ مرجع الضمير هو (الذين اصطفينا من عبادنا) ، فمعنى ذلك أنَّ التقسيم الثلاثي داخل على الَّذين اصطفاهم الله تعالى، أي إنَّ المصطفين منهم ظالم ومقتصد وسابق.. بينما إذا قلنا بأنَّ مرجع الضمير هو (عبادنا) فسيكون المعنى أنَّ عباد الله ينقسمون إلى الأقسام الثلاثة المذكورة، وليس المصطفون هم المنقسمون، ثم يتَّجه التساؤلُ عن القسم الذي يندرج فيه المصطفون.
والصحيح أنَّ الضمير يرجع إلى العباد، فيكون معنى الآية أنَّ الله تعالى أورث علمَ القرآن الكريم إلى أُناسٍ اصطفاهم من هذه الأمَّة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعباد الله ليسوا كلهم يستحقُّون الاصطفاء وميراث العلم، لأنَّ فيهم الظالم، وفيهم المقتصد، وفيهم السابق بالخيرات، وهذا القسم الأخير هو الحقيق بالاصطفاء والعلم.
وفيما يلي نذكر الأدلَّة التي تثبت صحَّة ما اخترناه من أنَّ التَّقسيم داخل على العباد، وليس على الذين اصطفاهم الله تعالى:
الدَّليلُ الأوَّل: أنَّ متابعة استعمالات القرآن الكريم لكلمة الاصطفاء تؤكِّد أنَّ للكلمة معنى سامياً جداً، حيث استُعملت في حقِّ الأنبياء والرسُل ومريم عليهم السلام، ونظراً إلى ذلك فإنَّ ذكر عنوان المقتصد ـ إذا فُسِّر بمعنى من قارف بعض الذنوب ـ تحت عنوان الاصطفاء غير مناسب، فضلاً عن عنوان الظالم لنفسه.
الدَّليلُ الثَّاني: أنَّه يُفهم من الآية أنَّ هنالك ارتباطاً بين الاصطفاء وبين جعل القرآن الكريم ميراثاً للمصطفين، وهذا يؤكِّد أنَّ عنوان الاصطفاء عنوان سامي الرتبة جدًّا، فجعله مقسماً يندرج فيه المقتصد ـ فضلاً عن الظالم لنفسه ـ أمر مستبعد جدًّا.
الدَّليلُ الثَّالث: الآية وقعت في سياق ذكر مسار علم القرآن ومصير كتاب الله تعالى، فبعد أن كانت الآية التي قبلها (فاطر: 31) تتحدَّث عن تنزيل الكتاب وحياً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أعقبتها هذه الآيةُ (فاطر: 32) تتحدَّث عن جعل كتاب الله ميراثاً للمصطفين، فيُفهم من ذلك أنَّ المصطفين يُمثِّلون امتداداً لرسول الله في رسالة تحمُّل علم القرآن الكريم وبيانه والعمل به، فيلزم أن يكونوا مثله في تماميَّة الاستقامة وسموِّ الصفات، وهذا يؤكِّد أنَّ التقسيم الذي يندرج فيه المقتصد والظالم لا يمكن أن يكون عائداً إلى المصطفين.
الدَّليلُ الرَّابع: أنَّ سياق الآيات نفسها من المصحف الشريف بملاحظة عبارة (فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 37] ، حيث الكلام عن أنَّ الظالمين هم المستحقون لدخول النَّار، يفيد ـ بوضوح ـ أنَّ المقصود من الظالم لنفسه هو المستحقُّ لدخول النار، فكيف يصح مع ذلك ادِّعاء أنَّ الظالم لنفسه قسمٌ من المصطفين؟
الدَّليلُ الخامس: أنَّ التقسيم الثُّلاثيَّ هو نفسه التقسيم الثلاثي في سورة الواقعة حيث عناوين الأقسام: أصحاب اليمين أو الميمنة، وأصحاب الشِّمال أو المشأمة، والسابقون السابقون أولئك المقرَّبون. وقد انتبه قليلٌ من المفسِّرين إلى ذلك، ومن الواضح أنَّ التقسيم في سورة الواقعة ليس للمصطفين من العباد، بل هو للعباد، فهذا يؤيِّد أن التقسيم في آية سورة فاطر ـ أيضاً ـ هو للعباد، وليس للمصطفين منهم.
الدَّليلُ السَّادس: بالمقارنة بين آية سورة فاطر والتقسيم الذي في سورة الواقعة، يتبيَّن أنَّ عنوان (أصحاب الشِّمال والمشأمة) هو العنوان المساوق لعنوان (الظالم لنفسه) في آية فاطر، ونظراً إلى أنَّ أصحاب الشِّمال هم أهل النار، فهذا يعني أنَّ الظالم لنفسه من أهل النَّار، ممَّا يؤكِّد أنَّه لا يمكن أن يكون مندرجاً كقسم من أقسام المصطفى العالم بالكتاب.
الدَّليلُ السَّابع: أنَّ متابعة استعمالات القرآن الكريم لعنوان الظَّالم يجعلنا نفهم أنَّه عنوان مرتبط بالخسران والكفر والشِّرك ودخول النَّار.. وغير ذلك، ممَّا يعني أنَّه غير مناسب أبداً ـ خصوصاً وهو مطلق ـ لعنوان الاصطفاء، فكيف يكون مندرجاً تحته بوصفه قسماً منه؟!
الدَّليلُ الثَّامن: بالرُّجوع إلى الصفحة السابقة من سورة فاطر، نجد ذكراً للعلماء وثناءً عظيماً عليهم ووصفهم بالخشية، حيث يقول الله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28] ، وبالتدبُّر الصحيح نستنتج أنَّ الذين اصطفاهم الله تعالى وأورثهم الكتاب بعد النبي (ص) يمثِّلون مصداق عنوان العلماء الذين يخشون الله تعالى، وهذا شاهد مهمٌّ على أنَّهم السَّابقون بالخيرات، لأنَّ العلم مع الخشية يقتضيان السَّبق، ولا تناسب أبداً بين هذه التعابير السامية وبين المقتصد فضلاً عن الظَّالم لنفسه.
الدَّليلُ التَّاسع: بملاحظة الآية 28 من سورة فاطر، نلاحظ عبارة (من عباده العلماء) فالعلماء قسم من العباد، وهذا يعني أنَّ هناك تقسيماً للعباد، والقسم الثاني هو الأعمى، والقسم الثالث هو البصير غير العالم: (ومايستوي الأعمى والبصير) [فاطر: 19] ، وإنما قيدنا البصير بغير العالم لأنَّ العلماء أصحاب الخشية أخصُّ من البصير كما هو واضح، فليس كل بصير عالم يخشى الله بهذا التعبير المطلق، وإن كان البصير لا يخلو من مستوى من العلم ومستوى من الخشية. وبتدبُّر هذا جيِّداً، ونظراً إلى أنَّ التقسيم في هذا السياق هو للعباد، وليس للعلماء، بل العلماء هم قسم من العباد، يُلقي هذا السياق بالضَّوء على الآية 32 من سورة فاطر، فيرجُح فيها أنَّ التقسيم للعباد، وأنَّ المصطفين هم قسم من العباد، وهم السَّابقون بالخيرت. ويتأكَّد هذا الفهم من خلال ملاحظة العلاقة بين عنوان (العلماء) في الآية 28 وبين عنوان (أورثنا الكتاب) في الآية 32 ؛ فإنَّ كليهما مشير إلى العلم.
الدَّليلُ العاشر: أنَّ البحث عن مصداق المصطفين في هذه الأمَّة من خلال دلالة القرآن الكريم (وهو ما تمَّ إنجازه في بحث سابق تمَّ نشرُه) ينتهي بنا إلى أنَّهم أناسٌ من أهل البيت، الذين هم آل إبراهيم عليه السلام، والذين اجتباهم الله وطهَّرهم تطهيراً، وهذه النتيجة تؤيِّد أنَّ التقسيم ليس للمصطفين، إذْ كيف يكون المطهَّر المعصوم مقتصداً فضلاً عن أن يكون ظالماً لنفسه، فلا يناسبه إلَّا عُنوانُ السَّابق بالخيرات.
الدَّليلُ الحادي عشر: أنَّ الأقرب إلى الضمير في (فمنهم) هي كلمة (عبادنا) ، وهذا مرجِّح لعود الضمير إلى هذه الكلمة دون كلمة (الذين) ، فيكون التقسيم للعباد، وليس للمصطفين.
والحمدُ لله ربِّ العالمين.