مناوراتُ عسكرية واستعراضاتُ حربية
الهدفُ من هذا الفصل هو شرحُ وبيان الأسرار الكامنة وراء سلسلة الاستعراضات الحربية، والمناورات العسكرية، التي قام وأمر بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.
فقد بدأت هذه المناورات منذ الشهر الثامن من الهجرة واستمرت حتى شهر رمضان من السنة الثانية، وتعد في الحقيقة أول مناورات عسكرية، وعروض حربيّة قام بها المسلمون.
إن التفسير الصحيح لهذه الوقائع، وبيان رموزها وأسرارها انما يتيسرَّ اذا طالعنا نص ما كُتِبَ حول هذه الوقائع في المصادر التاريخية من دون زيادة أو نقصان ثم نعرض على القارئ الكريم رأي المحققين من المؤرخين فيها.
واليك فيما يأتي خلاصة هذه الحوادث
1-لم يكد يمضي على إِقامة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في المدينة أكثر من ثمانية أشهر عندما عقد النبيّ أوّل لواءٍ لقائدٍ عسكريّ شجاع هو “حمزة بن عبد المطلب” وقد أمّره على ثلاثين رجلاً من المهاجرين بعثهم الى سواحل البحر الأحمر حيث الطرق التجارية التي تمر فيها قافلة قريش التجارية، فالتقوا قافلة قريش في “العيص” فيها أبو جهل في ثلاثمائة رجل من أهل مكة، فاصطفّوا ىللقتال، ولكنهما تفرقا ولم يقع قتال لوساطة قام بها “مجديّ بن عمرو” الذي كان حليفاً للفريقين، فانصرف حمزة راجعاً الى المدينة، وتوجّه أبو جهل في عيره وأصحابه إِلى مكة 1.
تهديد خطوط قريش التجارية
غزوة بدر
إنقضت السنة الاُولى من الهجرة بكل حوادثها الحلوة والمرة، والمسّرة والمحزنة، ودخل النبيّ و أصحابهُ العامَ الثاني من الهجرة.والسنة الثانية من الهجرة تتضمن حوادث عظيمة وباهرة، ومن أبرزها حادثتان تحظيان بمزيد من الاهميه احداهما:تغيير القبلة والاخرى وقعة بدر الكبرى.ولكي تتضح أسباب وعلل معركة بدر نذكر سلسلةً من الوقائع التي وقعت قبلها، اذ بتحليلها ودراستها تتضح أسباب معركة بدر.
لقد كان من الحوادث التي وقعت في أواخر السنة الاُولى وبدايات السنة الثانية من الهجرة:بعث “الدوريات العسكرية” الى خطوط قريش التجارية 2 والآن يجب أن نرى ما هو هدف الحكومة الاسلامية من هذه البعوث وقد كان ينبغي طبقاً للترتيب الموضوعي والتسلسل التاريخي – أن نذكر بعض السرايا مثل سرية حمزة وسرية عبيدة بن الحارث في فصل وقائع السنة الاولى للهجرة، بيد أنه لوجود مناسبة بينها وبين حوادث السنة الثانية ذكرناها في أحداث السنة الثانية.
هذا مضافاً الى أن ابن هشام تبعاً لابن اسحاق يرى وقوع هذه الحوادث في السنة الثانية من الهجرة وان كان الواقدي يعتبر بعضها من حوادث السنة الاُولى العسكرية.
هناك مصطلحان رائجان في كتابات المؤرخين وكُتّاب السيرة أكثر من أي مصطلح آخر وهما لفظة:”الغزوة” و”السرّية”3.
والمقصود من “الغزوة” تلك العمليات العسكرية التي كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه واله يشارك فيها بنفسه، ويتولى قيادتها بشخصه.على حين يكون المقصود من “السريّة” إرسال مجموعات عسكرية وفرق وكتائب نظاميّة لا يشترك فيها رسول اللّه بنفسه بل يؤمِّرُ عليها أحدَ قادته العسكريّين ويوجّهها إِلى الوجهة التي يريدُها.
وقد اُحصيت غزواتُ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله فكانت (27) أو (26) غزوة.ويعود الاختلاف في العدد الى أن بعض المؤرخين يعتبر غزوة “خيبر” وغزوة “وادي القرى” اللتين حدثتا تباعاً ومن دون فاصلة غزوتين والبعض الآخر عدَّهما غزوة واحدة 4.
وقد وقع نظير هذا الخلاف في تعداد سرايا النبيّ صلّى اللّه عليه وآله أيضاً فأحصى المؤرخون (35)، (36)، (48)، وحتى (66) سرية.ويعود هذا الاختلاف إِلى بعض أن السرايا لم يُحسب لها حساب لقلّة أفرادها، ولهذا حدث هذا الاختلاف في العدد.من هنا كلّما ذكرنا لفظَ السّرية قصدنا منه ما لم يشارك فيه النبيّ، وكلما ذكرنا لفظَ الغزوة قصدنا منه ما شارك فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بنفسه.وقد أحجمنا عن ذكر السرايا إِلا سرايا السنوات الاُولى من الهجرة لأن في بيان هذه الطائفة من السرايا أثراً مهماً في تفسير بعض الغزوات مثل غزوة “بدر”.
وإِليك بيان هذه السرايا والغزوات وشرح تفاصيلها.
2-في نفس الوقت الذي بعث فيه رسولُ اللّه سريّة حمزة، عقد لواءً آخر لعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، وبعثه في ستين راكباً من المهاجرين بهدف التعرض لقافلة قريش التجارية، فسار حتى بلغ ماءً بالحجاز بأسفل “ثنية المُرة“5.
فلقي بها جمعاً عظيماً من قريش يبلغ مائتين بقيادة أبي سفيان، ولكن لم يكن بينهم قتال إلا أن ” سعد بن أبي وقاص” رمى يومئذٍ بسهم، كما أنه التحق رجلان مسلمان كانا في صفوف أبي سفيان بالمسلمين وقد خرجا مع الكفار وجعلا ذلك وسيلة للوصول الى المسلمين والالتحاق بهم6.
3 – بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في شهر ذي القعدة في السنة الاُولى من الهجرة سرّية اُخرى بقيادة “سعد بن أبي وقاص” على رأس ثمانية أشخاص آخرين من المهاجرين للتحقيق في تنقلات قريش ورصد تحرّكاتها خارج المدينة، فخرجوا حتى بلغوا منطقة “الخرّار” ولكنهم لم يجدوا أحداً فعادوا إِلى المدينة7.
النبي صلّى الله عليه وآله يلاحق قريشاً بنفسه
4-في شهر صفر من السنة الثانية للهجرة استعمل رسول الله صلّى اللّه عليه وآله على المدينة “سعد بن عبادة” وأناط إليه ادارة اُمورها الدينية وخرج بنفسه مع جماعة من المهاجرين والأنصار، لملاحقة ركب قريش التجاري واعتراضه، وعقد معاهدة موادعة مع “بني ضمرة” حتى بلغ الابواء، ولكنه لم يلق أحداً من قريش، فرجع صلى الله عليه وآله هو ومن معه إلى المدينة8.
5-وفي شهر ربيع الأول من السنة الثانية للهجرة استعمل صلّى الله عليه وآله مرة اُخرى على المدينة: “السائب بن عثمان” أو “سعد بن معاذ” وخرج خو على مائتين من الرجال يريد قريشاً حتى بلغ بَواط (وهو جبل من جبال بقرب ينبع على بُعد 90 كيلومتراً من المدينة تقريباً) ولكنه لم يظفر بقافلة قريش التي كان يقودُها “اُمية بن خلف” وعلى رأس مائة رجل من قريش، فرجع الى المدينة.
6-وفي منتصف شهر جمادى الاُولى من السنة الثانية للهجرة جاءَ الخبر أن قافلة قريش التجارية تخرج من مكة بقيادة أبي سفيان تريد الشام للتجارة، وقد جمعت قريش كل أموالها في تلك القافلة، فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في جمع من أصحابه لاعتراضها حتي بلغ “ذات العشيرة” وقد استعمل على مكة هذه المرّة “أبا سلمة بن عبد الأسد”، وبقي صلّى اللّه عليه وآله في ذات العشيرة إِلى أوائل شهر جمادى الآخرة ينتظر قافلة قريش، ولكنه لم يظفر بها، ثم وادَعَ فيها بني مدلج وعقد معاهدةَ عدم اعتداء ذكرتها المصادر التاريخية بالنص9.
وقال ابن الأثير:في هذه الغزوة (والمكان) نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وجماعته في بواط عند عين فنام علي وعمّار فوجدهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله نائمين في رقعاء من التراب فايقظهما، وحرّك عليّاً فقال: قم يا أبا تراب ألا اخبرك بأشقى الناس: اُحيمر ثمود عاقر الناقة، والذي يضربك على هذه (يعني قرنه) فيخضِب هذه منها ( يعني لحيته)10.
7-بعد أن رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الى المدينة بعد اليأس من قافلة قريش لم يقم بالمدينة الا ليالي قلائل لا تبلغ العشر حتى هاجم “كرز بن جابر الفهري” على ابل أهل المدينة ومواشيهم التي كانت قد سرحت للرعي بالغداة.فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في طلبه وقد استعمل على المدينة زيد بن حارثة حتى بلغ وادياً من ناحية بدر وفاته كرز بن جابر فلم يدركه ثم رجع صلّى اللّه عليه وآله ومن معه الى المدينة فأقام بها بقية جمادى الاخرة ورجباً وشعبان11.
8 – وفي شهر رجب من السنة الثانية للهجرة بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله “عبد اللّه بن جحش” على رأس ثمانية رجال من المهاجرين لملاحقة قافلة قريش التجارية، وقد كتب له كتاباً بالمهمة الّتي يجب ان ينفّذها، وأمره أن لا ينظر فيه قائلاً له:
“قد استَعمَلتُكَ على هؤلاء النَفَر فامضِ حتّى إِذا سرتَ ليلتين فانشُر (أي افتح) كتابي ثم امض (اي نفّذ) لما فيه”.ثم عيّن له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الوجهة التي يجب أن يتوجّه اليها.فانطلق عبدُ اللّه ورفقاؤه وساروا يومين كاملين كما أمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ثم فتح عبد اللّه كتاب النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وقرأ ما فيه، فاذا فيه:”إِذا نَظَرتَ في كتابي هذا فامض حتّى تنزلَ نَخلَة بينَ مَكّة والطائِف على اسم اللّه وبركته فترصَّد بها قريشاً، وتعلّم (أي حّصل) لنا من أخبارِهِم ولاُ تكرهنّ أحداً من أصحابكَ12 وامضَ لأمري فيمن تبعك”.
فلما قرأ الكتاب قال لاصحابه: قد أمرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أن امضيَ إِلى نخلة أرصد بها قافلة قريش حتّى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن استكره أحَداً منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فَلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع فأمّا أنا فماض لأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، ومن أرادَ الرجعة فمن الآن.
فقال أصحابه اجمعون:نحن سامعون مطيعون للّه ولِرسوله ولكَ فِسر على بَرَكة اللّه حيث شئتَ، فسارَ هو ومن معه لم يتخلَّف منهم أحدُ حتى جاء نخلة فوجد قافلةً لقريش يرأسها “عمرو بن الحضرمي” وهو عائدة من الطائف الى مكة، فنزل المسلمون بالقرب منهم، ولكي لا يكتشفهم العدوّ، ولا يعرف بأمرهم ومهمّتهم حلقوا رؤوسهم ليتصوّر العدو أنهم عمّار يعتزمون الذهاب الى مكة للعمرة.
فلما رآهم رجالُ قريش على هذه الحال اطمأنوا وأمنوا جانبهم وقالوا:عُمّارُ لا بأس عليكم منهم.ثم تشاور المسلمون فيما بينهم في جلسة عسكرية للنظر فيما يجب عمله فتبين لهم:أنهم إذا تركوا القوم (أي قريشاً) في تلك الليلة (وكانت آخر ليلة من شهر رجب) لدخلوا الحَرَم، ولم يمكن قتالهم فيه، وان خرج الشهر الحرام.
فأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم، من هنا باغتوا تلك القافلة، ورمى “واقدُ بن عبد اللّه” قائدها “عمرو بن الحضرمي” بسهم فقتله، وفرَّ رجالُه إِلا نفرين هما:”عثمان بن عبد اللّه” و “الحكم بن كيسان” حيث أسرهما المسلمون، وعاد عبد اللّه بن جحش وأصحابه بالقافلة مع ما فيها من أموال قريش والاسيرين إِلى المدينة.ولما قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله المدينة وأخبروه بأنهم قاتلوا القومَ في الشهر الحرام (رجب) انزعج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من تصرف قائد المجموعة وعدم استفساره لما يجب أن يفعله بشدَّة وقال:” ما أمرتُكُم بِقتال في الشهرِ الحرام“.
وقد استخدَمت قريش هذه القضية كسلاحٍ دعائيٍ ضدَّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله واشاعت بأنَّ “محمّداً” وأصحابه قد استحلّوا الشهرَ الحرام وسفكوا فيه الدم وأخذوا الاموال كما أنه تشاءم اليهود بهذه القضية وأرادوا أن يثيروا فتنةً، وعاب المسلمون على “عبد اللّه بن جحش وأصحابه” فعلتهم هذه. هذا من جانب ومن جانب آخر وقّف النبيّ صلّى اللّه عليه وآله الاموالَ والأسيرين وابى أن يأخذ من كل ذلك شيئاً وبقي ينتظر الوحي.
وفجأة نزلَ جبرئيل بهذه الآية:﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحرامِ قِتال فيه قُل قِتال فيهِ كبير وَصَدُّ عَن سبيلِ اللّهِ وَكُفر بِهِ وَالمَسجِدِ الحرامِ وَإِخراجُ أهلِهِ أكبَرُ عِنْدَ اللّهَ وَالفِتنة أكْبرُ مِنَ القَتلِ﴾13.
أَي إِن كُنتم قَتلتُم في الشهر الحرام، فقد صَدّوكم عن سبيل اللّه مع الكفر به وصدّكم عن المسجد الحرام، واخراجُكم منه وأنتم اُهله أكبرُ عند اللّهَِ من قتل من قُتِلَ منهم “وَالفِتنَةُ أكَبرُ مِنَ القَتلِ” أي ما كانوا يرتكبونه من فتنة المسلم في دينِه حتّى يردُّونّه الى الكفر بعد إيمانه أَكبر عند اللّه من القتل.
ولما نزل القرآنُ بهذا الأمر، وفرّج اللّه تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الخوف والحيرة قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الأموالَ، والأسيرين وقسمها بين المسلمين، وكانت أول غنيمة غنمها المسلمون.وبعثت قريشُ الى النبيّ صلّى اللّه عليه وآله في فداء أصحابهم فقال النبيّ صلّى اللّه عليه وآله:”لَن نفديهما حّتى يَقدمَ صاحبانا“.
يعنى رجلين من المسلمين كانا قد اُسرا من قِبَل قريش، قد اشتركا في هذه العمليّة ولكنهما أضلا طريقهما في الصحراء فأسرتهما رجال من قريش.
وهكذا أبى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أن يطلق سراح أسيرَي قريش لقاء فدية إِلا إِذا أطلق المشركون أسيرَي المسلمين. قائلاً لموفدي قريش:”إِنّي أخافُ على صاحِبَيَّ فَإن قَتَلتُم صاحِبّي قَتلتُ صاحِبَيكُم“.
فاصطرت قريشُ إِلى الافراج عن المسلمَين الأسيرَين، ومع وُصولهما الى المدينة أفرجَ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عن أسيرَي قريش.ومن حُسن الحَظ أنَّ أحد ذينِكَ الأسيرَين أسلمَ ورَجَعَ الآخر إِلى مكة 14.
ماذا كان الهدف من المناورات العسكرية؟
لقد كان الهدفُ الاساسي من بعث وتوجيه السرايا، وعقد الاتفاقيات والمعاهدات العسكرية مع القبائل القاطنة على خطوط التجارة المكية هو ايقاف قريش على قوة المسلمين العسكرية، واشتداد ساعِدِهم، وخاصة عندما كان النبيّ صلّى اللّه عليه وآله يشترك بنفسه في العمليات، ويترصّد مع مجموعات كبيرة من أنصاره تحركات قريش الاقتصادية، ويعترض قوافلها التجارية.
لقد كان رسول الاسلام صلّى اللّه عليه وآله يريد بذلك إِفهام حكومة مكة الوثنية بأن جميع طرق التجارة المكية هي في متناول يده، وأنه يستطيع – متى شاء – أن يُشلّ اقتصاد المكيين بتعريض خطوطهم وطرقهم التجارية، للتهديد الجدّي.
ولقد كانت التجارة أمراً حَيَويّاً وحساساً جداً بالنسبة إِلى أهل مكة، وكانت البضائع التي تنقل منها إِلى الطائف والشام تشكّل اساسَ الاقتصاد المكي، فاذا كانت هذه الخطوط تتعرض للتهديد من قِبَل العدوّ وحلفائه مثل “بني ضمرة” و”بني مدلج” فان ذلك كان يعني انهدام وانهيار حياتهم.
لقد كان الهدف من بعث تلك الدوريات العسكرية هو: أن تعرف قريش بأن طريق تجارتها الرئيسية هي الآن تحت رحمة المسلمين، فاذا استمرُّوا في معاداتهم للاسلام وللمسلمين وحالوا دون انتشار الاسلام، والدعوة اليه، واستمروا في ايذاء من تبقّى من المسلمين المستضعفين والعجزة في مكة واضطهادهم، قطع المسلمون شريان اقتصادهم.
والخلاصة أنّ الهدف كان هو أن تعيد قريشُ النظر في مواقفها في ضوء الحالة الجديدة، والتهديد العسكريّ الاسلامي الجدّي، وتترك للمسلمين الحرية في الدّعوة إِلى عقيدتهم، وتفتح الطريقَ لزيارة بيت اللّه الحرام، ونشر التوحيد ليستطيع الاسلام بمنطقه القويّ، والمحكم أن ينفذ في القلوب، ويتجلّى نورُ الاسلام ويشعَّ على جميع نقاط شبه الجزيرة العربية، وربوعها، وبخاصة منطقة الحجاز مركز الجزيرة، وقلبها النابض.
فان المتكلم مهما كان قويَّ المنطق، سديد البرهان وأنَّ المربّي والمرشد مهما كان مخلصاً مجداً فانّه لا يستطيع أن يحرز أي نجاح في تنوير العقول، وتهذيب النفوس وبث الفكر الصحيح إِذا لم تتوفّر له حرية العمل، ولم تتهيأ له البيئةُ المطمئِنّة وأجواءُ الحرّية والديمقراطية.
ولقد كان الاضطهادُ والكبتُ وسلبُ الحريات التي كانت تمارسها قريش هي الموانع الكبرى أمام تقدُّم الاسلام وسرعِة انتشاره ونفوذِه، وكان الطريق الى كسر هذا السدّ، وإِزالة هذا المانع ينحصر في تهديد إِقتصادها وتعريض خطوطِها التجارية، للخطر، وكانت هذه الخطة تتحقق فقط عن طريق القيام بتلك المناورات العسكرية والاستعراضات الحربية، والعمليات الاعتراضية.
نظرية المستشرقين
ولقد وقع المستشرقون عند تحليلهم لهذه العمليّات في خطأ كبير، وتفوّهوا نتيجة ذلك بكلامٍ يخالف القرائن والشواهد الموجودة في التاريخ.فهم يقولون:لقفد كان هدف النبيّ صلّى اللّه عليه وآله من مصادرة أموال قريش، والسيطرة عليها هو تقوية نفسه.في حين أنَّ هذا الرأي لا يلائم نفسيّة أهل يثرب لأنَّ الغارة، وقطع الطريق، واستلاب الأموال، من شيم الاعراب أهل البوادي، البعيدين عن روح الحضارة، وقيم المدنية وأخلاقها، بينما كان مسلمو يثرب عامة، أهل زرع، وفلاحة، ولم يُعهَد منهم أن قطعوا الطرق على القوافل، أو سلبوا أموال القبائل التي كانت تعيش خارج حدودها.
وأما حروب الأوس والخزرج فقد كان لها أسباب وعلل محلّية، وقد كان اليهود هم الذين يؤججون نيرانها، بغية إضعاف القوى والصفوف العربية وتقويه نفسها وموقعها.ومن جانب آخر لم يكن المسلمون المهاجرون الذين كانوا حول الرسول صلّى اللّه عليه وآله ينوون ملافاة ما خسروه، رغم أنَّ ثرواتِهم وممتلكاتهم كانت قد صودِرت من قِبَل المكيين، ويدل على ذلك أنهم لم يتعرضوا بعد معركة “بدر” لأيّة قافلة تجارية لقريش.
كيف لا وقد كان الهدف وراء أكثر هذه البعوث والارساليات العسكرية هو تحصيل وجمع المعلومات، عن العدوّ وتحركاته وخططه، والمجموعات التي لم يكن يتجاوز عدد أفرادها غالباً الثمانية أو الستين أو الثمانين رجلاً لايمكنها قطع الطريق، واستلاب الاموال، ومصادرة القوافل التجارية الكبرى التي كان يقوم بحراستها رجال أكثر عدداً وأقوى عُدّة من تلك السرايا، بأضعاف المرات غالباً.
فاذا كان الهدف هو الحصول على المال والثروة من هذا الطريق فلماذا خُصَّت قريش بذلك، ولم يعترض المسلمون تجارة غيرهم من القبائل المشركة؟ ولماذا لم يمس المسلمون شيئاً من أموال غير قريش؟واذا كان الهدف هو الغارة، وقطع الطريق واستلاب الأموال، فلماذا كان النبيّ صلّى اللّه عيه وآله يبعث المهاجرين فقط، ولا يستعين بأحد من الأنصار في هذا المجال غالباً؟
وربما قال هؤلاء المستشرقون:ان المقصود من هذه العمليات الاعتراضية كان هو الانتقام من قريش، لأن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وأصحابه تعرّضوا على أيدي المكيين لألوان التعذيب والاضطهاد والأذى، فدفعتهم غريزة الانتقام والثأر بعد أن حصلوا على القوة الى تجريد سيوفهم، للانتقام من الذين طالما اضطهدوهم، وليسفكوا منهم دماً!!
ولكن هذا الرأي لا يقل في الضعف والوَهن والسخافة عن سابقه، لأنّ الشواهد والقرائن التاريخية الحيّة العديدة، تكذّبه وتفنّده، وتوضّح – بجلاء – أن الهدف من بعث تلك السرايا والدوريات العسكرية لم يكن أبداً القتال والحرب، والانتقام وسفك الدماء.
واليك ما يدلُّ على بطلان هذه النظرية
أوّلاً:اذا كان هدف النبيّ صلّى اللّه عليه وآله من بعث تلك المجموعات العسكرية هو القتال واستلاب الاموال واخذ المغانم، وجب أن يزيد في عدد أفراد تلك المجموعات، ويبعث كتائب عسكرية مسلَّحة، ومجهزة تجهيزاً قوياً، إِلى سيف البحر، وشواطئه على حين نجد أنه صلّى اللّه عليه وآله بعث مع “حمزة بن أبي طالب” ثلاثين شخصاً، ومع “عُبيدة بن الحارث” ستين شخصاً، ومع “سعد بن أبي وقاص” أفراداً معدودين لايتجاوزون العشرة، بينما كانت قريش قد أناطت حراسة قوافلها إِلى أعداد كبيرة جداً من الفرسان، تفوق عدد أفراد المجموعات العسكرية الاسلامية.
فقد واجه “حمزة” ثلاثمائة، وعبيدة مائتين رجل من قريش، وقد ضاعفت قريش من عدد المحافظين والحرس على قوافلها خاصة بعد أن عرفت بالمعاهدات والتحالفات التي عقدها رسول اللّه صلّى عليه وآله مع القبائل القاطنة على الشريط التجاريّ؟!.هذا مضافاً إِلى أنّه لو كان قادة هذه البعوث والدوريات مكَلَّفين بمقاتلة العدوّ فلماذاً لم يسفك من أحد قطرة دم في أكثر تلك البعوث والعمليات ولماذا انصرف بعضهم لوساطةٍ قامَ بها “مجدي بن عمرو” بين الطرفين؟!
ثانياً:ان كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الذي كتبه لعبد اللّه بن جحش شاهد حيّ على أن الهدف لم يكن هو القتال، والحرب.
فقد جاء في ذلك الكتاب:”إِنزل نَخلَة بين مكة والطائف فترصَّد بها قريشاً وتعلم (اي حصّل) لنا من أخبارهم”.إِن هذه الرسالة توضّح بجلاء أنَّ مهمة عبد اللّه وجماعته لم تكن القتال قط، بل كانت جمع المعلومات حول العدوّ وتنقلاته وتحركاته، أي مهمة استطلاعية حسب.وأما سبب الصِدام في “نخلة” ومصرع عمرو الحضرمي فقد كان القرار الذي أخذته الشورى العسكرية التي عقدتها نفس المجموعة، وليس بقرار وأمر من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.
ومن هنا انزعج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بمجرد سماعه بنبأ هذا الصدام الدموي ولامهم على فعلتهم وقال:”ما أمَرتُكُم بقتال“.
ويؤيّد هذا ما ورد في مغازي الواقدي عن سليمان بن سحيم أنه قال: ما أمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بالقتال في الشهر الحرام، ولا غير الشهر الحرام إنما أمرهم أن يتحسسّوا أخبار قريش 15.والعلة في أن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله كان يختار لهذه الدوريات والبعوث رجالاً من المهاجرين دون الأنصار هي أن الانصار قد بايعوا في العقبة على الدفاع، أي أن معاهدتهم مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كانت معاهدة دفاعية تعهّدوا بموجبها بأن يمنعوه من أعدائه ويدافعوا عنه إِذا قصدَه عدوُّ.
من هنا ما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يريد أن يفرضَ عليهم مثل هذه المهمات، ويبقى هو في المدينة، ولكنه عندما خرج فيما بعد بنفسه أخذ معه جماعةً من رجال الانصار تقوية لروابط الاخوة والوحدة بين المهاجرين والأنصار، ولهذا كان رجاله في غزوة “بواط” أو “ذات العشيرة” يتكونون من الأنصار والمهاجرين.
وعلى هذا الاساس يتضح بطلان نظرية المستشرقين حول الهدف من بعث الدوريات العسكرية.كما أنَ بالتأمل والامعان في ما قلناه يتضح أيضاً بطلان ماقالوه في هذا المجال في تلك العمليات التي شارك فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بنفسه، إذ أن الذين خرجوا معه ماكانوا ينحصرون في المهاجرين خاصة بل كانوا خليطاً من المهاجرين والأنصار، والحال أن الأنصار لم يبايعوا النبيّ على القيام بأية عملية هجوميّة ابتدائية، بل كل مابايعوا عليه النبيّ كما قلنا هو: العمل الدفاعي،
فكيف يصح أن يدعوهم النبيّ صلّى اللّه عليه وآله إلى عمليات قتالية إِبتدائية هجوميّة.
وتشهد بما نقول حادثةُ وقعة بدر التي سنشرحها في ما بعد، فما لم يعلن الأنصار عن موافقتهم على قتال قريش لم يقرر النبيّ صلّى اللّه عليه وآله الحرب، في تلك الواقعة.
هذا والسبب في تسمية أصحاب السير والتواريخ هذا النوع من العمليات التي خرج فيها النبيّ بنفسه (غزوة) وان لم يقع فيها قتال وغزو، هو أنّهم أرادوا أن يجمعوا كل الحوادث تحت عنوانٍ واحدٍ، وإِلا لم يكن الهدف الاساسيّ من هذه العمليات هو الحربُ والقتال، أو السيطرة على الأموال وسلبها.
1-السيرة النبوية:ج 2 ص 222 فما بعد، بحار الأنوار: ج 19 ص 186 – 190، امتاع الاسماع: ص 51، الكامل في التاريخ: ج 2 ص 77و 78 والمغازي للواقدي:ج 1 ص 9 – 19.
2-لقد بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله دوريات عسكرية عديدة إِلى ضواحي المدينة وأطرافها لتهديد قوافل قريش التجارية.
3-راجع المحبَّر:ص 110 – 116.
4-مروج الذهب:ج 2 ص 287 و288.
5-المحبر:ص 116.
6-المحبر:ص 116.
7-السيرة النبوية:ج 1 ص 591.
8-تاريخ الخميس:ج 1 ص 363 نقلاً عن ابن اسحاق.
9-السيرة النبوية:ج 1 ص 598، تاريخ الخميس: ج 1 ص 363.
10-الكامل:ج 2 ص 112 والمستدرك على الصحيحين: ج 3 ص 140 و141.
11-السيرة النبوية:ج 1 ص 601، الطبقات الكبرى:ج 2 ص 9، وقد عدّ بعض المؤرخين هذه الحادثة ضمن الغزوة التي عُرفت في التاريخ باسم غزوة صفوان أو غزوة بدر الاُولى.
12-يقال إنه كان الجنود الى حين الحرب العالمية الثانية إذا انتهوا من خدمتهم العسكرية تُسَلَّم اليهم مع وثيقة الانتهاء من الخدمة العسكرية رسالة مغلقة مختومة يؤمرالجندي فيها بالمحافظة عليها كأمانة عسكرية لا يجوز له فتحها إلا عند حالات النفير العام، والعمل بمضمونها وقد سبق النبيّ صلّى اللّه عليه وآله إِلى هذا التكتيك العسكريّ في أعماله النظامية.
13-البقرة:217.
14-المغازي:ج 1 ص 13 – 18، السيرة النبوية: ج 1 ص 603 – 605.
15-المغازي:ج 1 ص 16.
المصدر: http://alrasoul.almaaref.org