مقالات

حق الملكية…

تعني الحرية الإقتصادية

1 ـ حق الإنسان بالملكية و سلطة المالك على ما يملك ، فالتملك غريزة في الإنسان يسعى لإشباعها كما يسعى لحاجته من الطعام و الشراب ، و حياة الإنسان لا تستقيم إذا حُرم من حقه بالتملك ، و سيترك هذا الحرمان آثاره على داخله و يسبب له الإحباط و ينزع منه القدرة على الإبداع و المساهمة بالحياة العامة ، فإشباع حاجة الإنسان بالتملك ضرورة لدفعه إلى المساهمة في تقدم المجتمع .

فحق التملك حق طبيعي بالفطرة و الشرائع و القوانين ، و لا تملك السلطة و لا المجتمع مصادرته و التنكر له ، و مهما جادل المجتمع و السلطة فيه ، فإنهما يسلمان في النهاية بأن الإنسان مالك لثوبه و رغيفه و شربة مائه و حصيرته التي يفترشها .
ثم إن الإعتراف للإنسان بحقه بالتملك يشد ارتباطه بالمجتمع الذي يعيش فيه ، و يخلق عنده الحافز للدفاع عنه ، و قد ثبت هذا بالتجربة ففي حالات الغزو أو الهجوم العسكري على المجتمع يفر الذين لا يملكون لأنه لا لمصلحة لهم في تعريض حياتهم للخطر في مجتمع لا يملكون فيه شيئاً ، أو حرمهم من حق التملك ، أما الذين يملكون ، فيواجهون الغزو و يدافعون و يربطون مصيرهم بمصير مجتمعهم .
و من هنا ندرك سطحية الشيوعية و جهلها بالفطرة الإنسانية و بعواقب الأمور ، عندما تنكرت لحق الإنسان بالتملك ، و اعتبرته مصدر البلاء في المجتمعات !
لقد بلغ المجتمع الشيوعي في الإتحاد السوفيتي غايته بالقوة و القهر ، و وصل إلى القمر ، و صنع القنبلة الذرية ، و الصواريخ العابرة للقارات ، و لاح للناظر غير المتبصر بأنه في ذروة قوته ، لكنه كان يتآكل من الداخل ، بسبب تنكره فطرة الإنسان و منها حاجة الإنسان للتملك ، و لما بلغت عملية التآكل أوْجها انهار المجتمع الذي بناه و النظام الذي أوجده فجأة ، و بدون مقدمات و سقط سقوطاً سريعاً .

2 ـ و تعني الحرية الإقتصادية الإعتراف بحرية الإنسان المطلقة في التصرف في ملكه ، فله أن يبيعه أو يهبه أو يستهلكه و يؤجره و يرهنه و ينتفع به . أو يمارس به أي لون من ألوان التجارة و الصناعة التي يريد . و من واجبات السلطة أن توفر لملكية الإنسان الحفظ من العبث ، عن طريق توفير قيود رسمية عامة تسجل فيها حق الملكية بحيث يمكن الرجوع إليها لإثبات الملكية عند التنازع .

3 ـ و تعني الحرية الاقتصادية أيضاً صيانة حق الملكية و عدم جواز انتزاعها بالقوة و العنف ، و لكن قد تحدث ضرورات بالغة لانتزاع بعض ملكية الإنسان لتحقيق مصلحة عامة لكل أفراد المجتمع ، لا تتحقق إلا بنزع هذه الملكية أو بعضها ، فعندما يضيق الشارع العام بالمارة مثلاً ، و لا يمكن توسيع الشارع إلا إذا اقتطعت أجزاء من أملاك المجاورين للشارع ، ففي هذه الحالة يجب مفاوضة المجاورين و الإتفاق معهم ودياً على هذا الإقتطاع ، و دفع ثمن الأجزاء المقتطعة بسعرها لو بيعت علناً بتاريخ الإقتطاع ، و يؤخذ بعين الإعتبار بأن توسع الشارع يحقق أيضاً مصلحة خاصة لمالكي قطع الأرض المجاورة للشارع حيث يزيد من قيمتها . أما إذا رفض المالكون الإتفاق فمن حق السلطة أن تنزع تلك الملكية بالقوة حسب أحكام الشريعة و القانون .
كما أن مدى حرية الإنسان بالتملك مطلقة فيمكنه أن يملك من الأموال و الأعيان ما استطاع ، لكنه مكلف بأن يؤدي الحقوق التي فرضها الله تعالى على أمواله للمستحقين ، قال الإمام علي ( عليه السلام ) : « إن الله سبحانه و تعالى فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء ، فما جاع فقير إلا بما منع به غني ، و الله سائلهم عن ذلك » 1 . و قال الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) : « و أما حق المال فأن لا تأخذه إلا من حله ، و لا تنفقه إلا في محله . . » .

  1. و بما أن الإنسان لا يعيش وحده على هذه الأرض ، و بما أن تصرفاته قد تؤثر بالغير كما يتأثر هو بتصرفات الغير ، لذلك اقتضت الضرورة أن يضع الشارع الحكيم بعض القيود على حرية الإنسان بالتصرف في ملكه ، و تختلف هذه القيود من قيد الآخر .
  2. فعلى سبيل المثال لا يجوز للإنسان أن يوصي بماله كله ، لأنه يحرم ورثته و يدعهم عالة على غيرهم ، فلذلك أجاز لشرع الحنيف له أن يوصي بثلث ماله فقط ، و ما زاد عن الثلث فهو موقوف على إجازة الورثة فإن أجازوه نفذت الوصية ، و إن لم يجيزوه لم تنفذ إلا في حدود ثلث التركة .
  3. كذلك فإنه لا يجوز للإنسان أن يتعاطى الربا ، لأنه محرم في كل الشرائع الإلهية و بالأخص الشريعة الإسلامية ، لما يلحقه من أذى و غبن للناس .
  4. و لا يجوز للمالك أن يحتكر حاجة معينة يحتاج إليها الناس ، و يمنعهم منها .
  5. كما لا يجوز له أن يستغل حاجة الناس ، فيفرض عليهم شروطاً غير عادلة .
  6. كذلك لا يجوز له أن يغش الناس و يتعسف أو يسيء استعمال حقه ، بشكل يؤدي إلى التعدي أو إلحاق الضرر بالغير .

فهذه الحالات و أمثالها تشكل قيوداً على حرية الإنسان بالتصرف في ملكه تصرفاً يلحق ضرراً عاماً بالغير ، لأن المال بكل أنواعه وظيفة إجتماعية و دينية و أخلاقية على المالك أن يؤديها . قال الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) في معرض بيان حق المال على الإنسان : « و أما حق المال فأن لا تأخذه إلا من حله ، و لا تنفقه إلا في حله ، و لا تحرفه عن مواضعه ، و لا تصرفه عن حقائقه ، و لا تجعله إذا كان من الله إلا إليه ، و سبباً إلى الله ، و لا تؤثر به على نفسك من لعله لا يحمدك ، و بالحري أنه لا يحسن خلافته في تركتك و لا يعمل فيه بطاعة ربه ، فتكون معيناً له على ذلك ، أو بما أحدث في مالك أحسن نظراً لنفسه ، فيعمل بطاعة ربه ، فيذهب بالغنيمة ، و تبوء بالإثم و الحسرة و الندامة مع التبعة » 2 .

1. تعامل الرسول و أهل بيت النبوة مع المال و الملكية

إذا نظرت إلى حق الإنسان بالملكية و مدى احترامه في تاريخ الإسلام ، ستجد أن النبي و أهل بيت النبوة يكادون يكونون الوحيدين الذين احترموا حق الإنسان في التملك و صانوه و دافعوا عنه ، بينما تورط غيرهم بأنواع المخالفات مدفوعين بالطمع البشري ، و رواسب الجاهلية في الغارة و العدوان و النهب !
أما عن السلطة المتغلبة و أعوانها فحدث و لا حرج ، حيث بدأت بمصادرة أموال النبي ( صلى الله عليه و آله ) و ما كان أعطاه لأهل بيته ( عليهم السلام ) ، فصادروا مزرعة فدك من ابنته الوحيدة فاطمة الزهراء ( عليه السلام ) و كانت بيدها ، و وضعوا عليها اليد و طردوا منها وكيلها ، و زعموا أنها للدولة ، ولم يصادروا أي أرض أخرى أعطاها الرسول ( صلى الله عليه و آله ) لآخرين !
و هذا موضوع كبير ، يعنينا منه أن الرسول و العترة مثلوا أعلى درجات الطهارة و التنزه ، و دافعوا عن حق الإنسان و حريته في التملك ، و حمايته من العدوان .

2. حق الملكية في الإعلان العالمي لحقوق الانسان

عالجت المادة 17 حق الملكية للإنسان بالقول :
( 1 ـ لكل شخص حق التملك بمفرده أو بالاشتراك مع غيره .
2 ـ لا يجوز تجريد أحد من ملكه تعسفاً ) .
ولم يتطرق هذا الإعلان للوظائف الأخلاقية و الإجتماعية و الدينية المناطة بمن يملك ، لأن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مستوحى من الحضارة المادية الغربية ، و هي حضارة تقوم علناً على استبعاد الدين و الأخلاق ، و فصلهما فصلاً تاماً عن القانون السائد ، و هي أيضاً حضارة تقوم على التشريع و العمل لما يشبع حاجات الإنسان المادية فقط ، و لا تعني بإشباعها في الحق و الحقيقة ! فهي حضارة تهمل إهمالاً يكاد أن يكون تاماً الجانب الروحي أو المعنوي في الإنسان ، فكان من الطبيعي أن يتأثر حق الملكية ، بهذه البنى الفكرية التي تقوم عليها الحضارة الغربية .

3. التعامل مع الإنسان معاملة تليق بكرامته و بكونه حرا

بعد أن اعترف الإسلام بالحق المطلق و الثابت للإنسان في الحياة ، و أنه أساس كل الحقوق و الحريات الإنسانية ، اعتبر أن قيمة حياة كل إنسان تعادل حياة الناس جميعاً ، فمن يقتل نفساً بغير نفس و لا فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ، و من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً ، و اعتبر أن قتل النفس التي حرم الله من أكبر الكبائر التي تجر على القاتل غضب الله و سخطه في الدنيا و في الآخرة .
و إمعاناً في حماية حياة الإنسان شرَّع مبدأ القصاص ، فمن يستهتر بالحياة الإنسانية و يقتل إنساناً ، يقع عليه القصاص و يقتل ، لأنه لا شيء يعدل الحياة إلا الحياة .
و في ‏ذلك ردع كافٍ للجناة ، فعندما يعرف القاتل أنه إذا قتل أي إنسان سيقتل ، و عندما يسلب أي إنسان حياته فإنه سيفقد حياته حكماً ، يرتدع و يضطر اضطراراً لاحترام حياة الإنسان و كف عدوانه عنها .
و بعد أن رسخ الإسلام حق الإنسان بالحياة و جذَّره و صانه ، رسَّخ أيضاً حق الإنسان بسلامة شخصه و صيانة أعضاء بدنه ، من خلال إبراز أهميتها ، فمن يعتدي على سلامة شخص الإنسان و يلحق الضرر بأي عضو من أعضائه يتحمل من القصاص و الضرر ما يعادل تماماً الضرر الذي أنزله بالضحية ، فإن قطع يده تقطع يده و إن قلع عينه تقلع عينه ! و عندما يرى الجناة ما ينتظرهم من قصاص يضطرون أن يكفوا أذاهم عنه .
كما حمى الإسلام أيضاً ضرورات حياة الإنسان ، فضمن له أن يعيش آمناً بلا خوف و أعد عقوبة رادعة لمن بهدد حياته أو سلامته في بدنه و ماله و مسكنه .
كما حمى عرض الإنسان و كرامته و منع تحويلها إلى سلعة تباع و تشترى ، فمن باع إنساناً حراً قطعت يده . ثم أعطى الإسلام للإنسان حق الدفاع عن نفسه و أوجد نظام التعزيرات لتغطية ما لم يغطه نظام الحدود و القصاص .
و الحرية في الإسلام تعدل الحياة بالقيمة ، فالإنسان بدون حرية لا معنى لحياته ، إذ يتحول إلى متاع يباع و يشترى ، لذا أعلن الإسلام أن المثوبة و العقوبة بكل أشكالها لا تتحقق إلا بالحرية ، فحيث وجدت الحرية توجد المسؤولية فإذا انتفت انتفت .
و بعد أن أحاط الإسلام عالم الإنسان الخاص بشبكة دفاعية فعالة ، بدأ بتجميل هذا العالم و تعميم الإعتراف به ، من ذلك أنه أوجب على المجتمع و السلطة أن يتعاملوا مع هذا الإنسان تعاملاً يتفق مع تكريم الله له و تفضيله على غيره من المخلوقات ، و مع كونه حراً ، فبيَّن أن الإنسان ليس ملكاً معصوماً عن الذنب و الخطأ بل من طبيعته أن يخطئ و يصيب ، فلا ينبغي استغلال خطئه للمس بكرامته ، بل يجب الإكتفاء بتطبيق الحكم الذي يستحقه ذلك الخطأ بدون زيادة و لا نقصان ، فليس من حق المجتمع و لا السلطة أن يزيدوا شعرة فوق الجزاء الذي قرره الشرع أو يلجأوا إلى تعذيب الإنسان ، أو يعاملوه بوحشية و قسوة . و أوضح الأمثلة على ذلك محاولة السلطة انتزاع الإعتراف ممن تظن أنه الجاني بالقوة ، فتبيح لنفسها ضربه و تعذيبه و امتهان كرامته ! و مثل هذه الأساليب همجية منافية لمبادئ الشريعة الإسلامية الإلهية ، لأنها وضعت قاعدة : كل متهم بريئ حتى تثبت إدانته ثبوتاً يقينياً لا شبهه فيه ، فعلى المجتمع و السلطة و المجني عليه أن يثبتوا إثباتاً يقينياً لا شبهة فيه بأن المتهم قد ارتكب ذلك الفعل المحرم، و كل شبهة و شك فهي لمصلحة المتهم ، و يجب على المحكمة إعلان براءته .
كذلك كفلت تشريعات الإسلام الحد الأدنى لمعيشة الإنسان ، و جعلت من واجب المجتمع و أغنيائه و السلطة أن يؤمنوا للإنسان مستوى من المعيشة كافياً لحاجاته التغذية و الملبس و المسكن و التطبيب ، قال الإمام علي ( عليه السلام ) : « إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء ، فما جاع فقير إلا بما منع به غني و إن الله تعالى سائلهم عن ذلك » 3 فمن حق أي إنسان أن يعيش بمستوى معيشة الإمام أو رئيس الدولة ، يأكل و يشرب و يلبس مثله ، و لنا في رسول الله أسوة حسنة ، قال ( صلى الله عليه و آله ) « ما من عرصة بات بها أمرؤ جائعاً إلا و قد برئت من أهلها ذمة الله » . و قال أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) « إن الله فرض على أئمة العدل أن يساووا أنفسهم بضعفة الناس » .

4. التعامل مع الإنسان تعاملاً يليق بكرامته

1 ـ المادة الثانية : « لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق و الحريات الواردة في هذه الإعلان من مادة 30 ـ 1 .
2 ـ المادة الثالثة : « لكل فرد الحق في‏الحياة و الحرية و سلامة شخصه » .
3 ـ المادة الخامسة : « لا يعرض أي إنسان للتعذيب و لا للعقوبات أو المعاملات القاسية أو الوحشية ، أو الحاطة بالكرامة .
4 ـ المادة السادسة « كل إنسان متهم بجريمة يعتبر بريئاً إلى أن تثبت إدانته قانونياً بمحاكمة علنية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه » .
5 ـ المادة 25 « لكل شخص الحق في مستوى من المعيشة كاف للمحافظة على الصحة و الرفاهية له و لأسرته ، و يتضمن ذلك التغذية و الملبس و المسكن و العناية الطبية » .
6ـ المادة 22 « لكل شخص بصفته عضواً في المجتمع الحق في الضمانة الإجتماعية و في أن تحقق بواسطة المجهود القومي و التعاون الدولي و بما يتفق ونظم كل دولة و مواردها ، من الحقوق الاقتصادية و الإجتماعية و التربوية التي لا غنى عنها لكرامته ، و للنمو الحر لشخصيته » .
هذه مبادئ نظرية عامة ، و تطبيق الدول بها ما زال على نطاق ضيق محدود . أما في الإسلام فقد شقّت طريقها إلى الواقع العملي و طبقت في عهد الرسول الأعظم ، و في عهد أمير المؤمنين علي ، بل و طبّق الكثير منها الخلفاء الغاصبون ، لأن تطبيق الرسول و أمير المؤمنين لها ، جعلاها عرفاً ملزماً ، علاوة على أنها مبادئ شرعية 4 .

  • 1. نهج البلاغة ، علي محمد علي دخيل ، مرجع سابق : 715 ، فقرة ، 220 .
  • 2. المصدر رقم 34 .
  • 3. نهج البلاغة فقره 220 / 715 ، مرجع سابق .
  • 4. كتاب حقوق الإنسان عند أهل بيت النبوة و الفكر المعاصر : الفصل الثامن .
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى