تهدف هذه الورقة إلى تقديم مقترح جادّ، تستدعيه ــ في نظر الكاتب على الأقل ــ حاجات ملحّة وضرورية، وسأحاول أن أوجز النقاط وأكثف النص؛ ليكون مادةً للتدارس فيما آمله، وورقة أولية يمكن أن تتلوها أوراق، وإنني أدعو ــ سلفاً ــ كلّ العلماء والباحثين والناقدين للتعليق على هذه الورقة بمختلف أشكاله، ضمن حدود البحث العلمي والأخلاقي وضوابطه.
وأشير سلفاً إلى نقاط:
أولاً: إذا كانت الورقة توحي أنها خاصّة بالمشهد الشيعي، فهي لا تريد هذه الخصوصية، وإنما تطمح لدائرة أوسع، والسبب في الخصوصية الشيعية أنها تريد أن تنطلق من الدوائر الضيقة بعيداً عن الانفلاش، فإذا نجحت كان بالإمكان توسيع الدائرة، أو تلاقي الدوائر.
ثانياً: لا تنكر الورقة جهد أحد، ولا تفترض ــ سلفاً ــ عبثية الآخرين، بل تسعى لظهور مناخ جديد؛ انطلاقاً من ملاحظاتها الخاصّة على الوضع القائم.
ثالثاً: الورقة معنيّة ــ بالدرجة الأولى ــ بالملفّين: الثقافي والاجتماعي؛ لذا فهي لا تستهدف الحياة السياسية، لكنها لا تنفصل عنها.
رابعاً: الورقة غير خاصّة بالمؤسّسات الدينية، بل توجّه خطابها إلى شرائح المجتمع بأقطابه: رجال الدين، المثقفين، رجال الإعلام، رجال النفوذ الاجتماعي، رجال المال…
خامساً: تتركّز الورقة على الوضع العربي؛ لهذا لا تعنيها ــ فعلاً ــ الساحات: الإيرانية، الأفغانية، الهندية…
أ ــ لا شك في وجود خارطة للمشهد الشيعي المعاصر سواء في شقه العربي وغير العربي، وهناك قوى وجماعات ذات نفوذ، تتقاسم المجتمع الشيعي، وتختلف بدورها في الأفكار والتصوّرات اختلافاً كبيراً تارةً ومحدوداً أخرى، كما تتنوّع أسباب الاختلاف من فكرية، وسياسية، واجتماعية و..
وداخل هذا الوضع ثمة تيار ثالث يتمثل في عناصر ممزقة متفرّقة مشتتة ــ طبعاً بحسب تقييمنا لها ــ لا يجمعها سوى اللقاء الفكري، تدعو للتغيير المجتمعي والنهوض بالحياة الشيعية نحو الأفضل، والتغيير لا يعني قلب الصورة بنسف ما مضى، بل إن المراكمة عليها وإضافة أجزاء ناقصة يمكنه أن يحقق مطلباً كبيراً، ويتمثل هذا الفريق بمجموعة من رجال الدين والمثقفين والجامعيين وبعض رجال النفوذ الاجتماعي وأصحاب المال والإعلام و..، ولهذه الفئة شيء من الحضور النخبوي في المنتديات الفكرية، وفي الإصدارات الدورية الثقافية، كما لديها بعض الارتباط العضوي المحدود، وقد برز من بينها بعض الشخصيات الدينية وغيرها، لكنها ــ رغم حضورها ــ لا تبدو تياراً ثالثاً قادراً على إيجاد تماسك داخله؛ للنهوض بمشروع كبير.
دعوتنا هنا هي: أين أنتم أيها الناقدون لمحيطكم؟ أين حضوركم؟ إلى متى سنبقى في ظلّ حركات نقدية نخبوية ممزّقة لا تستطيع التأثير في المجتمع؟ لماذا هذا الغياب الاجتماعي أو بتعبير أدق: الموت الاجتماعي، إن دعوتنا تقوم على تلاقي، دعونا نتلاقى في مؤتمر، في لقاء، في تجمّع، علني أو غير علني، كيفما شئتم، وضمن أيّ صيغة ارتأيتم، نعصف أفكارنا للوصول إلى تكوين خطاب هادر، قادر على أن يثبت ذاته، ويتحوّل بالفعل إلى تيار ثالث، لا تحكمه عقلية حزبية أو أفق ضيّق، بل تهيمن عليه هموم العصر وحاجات النهوض، ويؤرّقه التساؤل التالي: أين هو الدين في عصرنا؟ وكيف يجب أن يُمارس؟…
إذن، دعوتنا الأساسية في مؤتمر كبير تجتمع فيه الأطراف المستنيرة الناقدة لواقعها، لكي يكون خلاصاً لها من عقدة النقد الصرف، فيدخلها دائرةَ تحمّل المسؤوليات، والإحساس بالذات والكيان الجمعي أكثر من الإحساس بالآخر، وهو لقاء لا يحصل مرةً ثم يموت، بل يفترض أن يتواصل على الدوام دورياً؛ لتبادل الآراء، ونقد الذات، وتقويم الأداء.
2 ــ ولكي ينجح هذا الملتقى ــ بأيّ شكل سهّل أمره ــ لابد من ورقة أساسية يقوم عليها، ويفترض بهذه الورقة أن تركّز على بناء الذات لا هدم الآخر، أي أنّ ملتقى الإصلاح الشيعي لا يريد تدمير تيارات قائمة، بل يريد أن يصبح كياناً من بينها، له وجوده كجبهة موحّدة، لا مجرّد أفراد مهما كثُروا وبرزوا لن يخرجوا ــ غالباً ــ عن أطر الشخصانيات، سيما داخل المؤسّسات الدينية الكبرى، فالموضوع موضوع جبهة تعمل ضمن خطّة مدروسة، وعلى أكثر من صعيد، فبين التغييريين الشيعة اليوم، علماء دين، ورجال مال، ورجال إعلام، وكتّاب، ورجال سياسة، ورجال فكر وثقافة، ورجال أدب وفن… لكنهم لم يلتئموا ليشعروا بأنهم قوّة واحدة متماسكة لها مشروعها الفكري والاجتماعي والتربوي والإعلامي، هذا الإحساس الهامّ، حسّ الجماعة، أساس لخلق مشاريع لا يمكن أن توجد دونه مهما كثر عدد الأفراد وعظمت إمكاناتهم، هذا الشعور ضروريّ للغاية لتكوين جبهة قوية تأخذ بزمام الأمور ما أمكنها، فإذاً نريد أن نبدي ذاتنا في الاجتماع السياسي والثقافي و.. فنحن موجودون، لكننا غير بادين بالشكل المطلوب، وليس من الضروري أن نكون خارج الجماعات كافّة، بل من المنطقي ــ وفق طرائقنا التعدّدية في التفكير ــ أن نتواشج معها، فلسنا تنظيما حزبياً ولا مشروع سلطة سياسية، بل كيان من الرؤى والأفكار الناهضة التي تجمعها مقولة التغيير نحو الأحسن وفق ما تراه.
3 ــ ومن أهمّ خطوات هذا المشروع ــ كي لا يبقى في إطار نخبوي، ذاك الإطار الذي قتل الإصلاح الديني في الشرق ــ تأسيس مشاريع إعلامية، تصنع الرأي العام، فهناك حاجة كبيرة جدّاً لفضائية تغييرية، ما تزال مفقودة حتى اليوم، تخرج عن أشكال الرتابة القاتلة في الإعلام الديني، وتضع ثقافةً جديدة من الرأي والرأي الآخر داخل الحياة الشيعية، إن الجميع يعرف أن ظهور الفضائيات العربية منذ تسعينات القرن الماضي أحدث تحوّلاً في الثقافة العامة، فالكثير من المسلمين لم يكونوا ليسمعوا سوى صوت السلطة وإعلامها، إن ظهور الرأي الآخر ــ وسط جدل ــ يمكنه أن يغيرّ نمطية العقل الديني في الوسط الشيعي، ويدخله في سياق جديد، يثير فيه كلّ المعطيات الحديثة، ويعمل على إعادة إنتاج الفكر من جديد، بعيداً عن أجواء الرتابة والخطاب الإيقاعي المكرور دينياً.
ليست الفضائية ضرورةً فحسب، بل الصحيفة، فثمّة العديد من المجلات ــ مع الكتب ــ التي تخاطب النخب والمثقّف، لكنها محدودة الانتشار على أيّ حال، متباعدة الفترة، لا تصنع رأياً عاماً، بل تكوّن نخباً مثقفة، وهذا عمل طيّب وجدير بالشكر والتقدير، إلاّ أن الصحافة أمر آخر، مختلف تمام الاختلاف، لماذا لا يملك الإعلامي الديني حتى اليوم صحيفة يومية في العالم العربي ــ إلاّ ما شذّ وندر في بعض المناطق ــ تُعنى بالفكر والفنّ والأدب والسياسة، ويكون لها رأي في هموم الناس، وإذا كنا لا نحبّذ لحركة الإصلاح أن تتحوّل إلى حزب أو منظمة، فإن الصحيفة بإمكانها تشكيل ما هو في قوّة حزب أو منظمة، بمعنى أن بإمكانها صنع جمهور خاصّ بها، ولا أجد نفسي بحاجة إلى تضييع الوقت في شرح تاريخ الصحافة وتأثيرها في الرأي العام، لكي أؤكد على مدى أهمية هذا المشروع في بلادنا العربية.
4 ــ وإذا كانت الصحافة والفضائية والإذاعة و.. باهظة الأثمان والتكاليف، فإن هذا ما يستصرخنا لتكوين (لوبي) مال متدين قادر ــ بتعاضده ــ على دعم مشاريع من هذا النوع، إن هذا الموضوع من أكبر الموضوعات حساسيةً وأهمية، يجب أن لا نتناسى أننا نعيش في عالم تلعب القوّة المالية فيه دوراً بارزاً؛ لهذا يفترض تأسيس صندوق، أو خلايا، أو كتل مالية متعاونة، لدعم مشاريع نهضوية، كتلك التي أشرنا لها آنفاً، وما لم يتدارس أصحاب رؤوس الأموال في هذا الأمر ويضعوا خطّةً تنسجم مع أحوالهم المادية الخاصّة، بدل هدر الأموال الشرعية على بعض الصعد ــ مع الإقرار بالدور الإيجابي الهائل على صعدٍ أخرى ــ فلن يمكن القيام بأيّ مشروع للتغيير.
5 ــ ومن منطلق الحرب الاقتصادية يأتي دور الدعم المادي المتبادل، فعلى جماعات التغيير ــ بما عندها من رؤوس أموال ومواقع اقتصادية ــ أن تفكّر جيداً في موضوع الدعم الذي يفترض أن يطال أولئك المستفرَدين من أبناء هذه الطائفة، بجُرم الرأي والفكر والعقيدة، فعندما يشعر أبناء هذه الطائفة من أصحاب الرأي أنهم محميّون في حياتهم المادية فإن بإمكانهم الانطلاق، يجب أن لا نستخفّ بهذا الأمر، ففي حدود اطلاعي ثمة أعداد كبيرة ذت رؤى، لكنها مقموعة داخل هذا الوضع المادي الضاغط، والتفكير معها في صيغةٍ أمر ضروري.
6 ــ وليس مطلوباً أن تكون الصيغة صدقةً أو حسنة والعياذ بالله، بل تكوين مراكز أبحاث، ومؤسسات علمية وتربوية وخيرية، ومعاهد تحقيقات، وجامعات دينية، يمكنها أن تجمع كلّ هذا الشتات المغلوب على أمره، فيعيش من كدّه، بدل ثقافة السؤال والتذلّل للأغنياء، أو الوقوف على أبواب أصحاب المال.
7 ــ ولا يقف الدعم المتبادل عند الحدود المادية، فعلى كلّ واحد أن يدعم ــ إعلامياً وفكرياً ــ الآخر، بغية تكوين رجال نافذين، ووجوه لامعة في الأوساط الدينية الجديدة، إن غياب الوجوه البارزة، وفقدان كاريزمات الكبار يشتّت العمل، شريطة أن لا نتورّط في صنع أصنام جديدة، فنكرّر أخطاء من مضى.
يمكن للصحفي أن يغدو جسراً لكاتب، ويمكن لرئيس تحرير مجلّة أن يغدو معبراً لصنع كتّاب ومنظرين ــ إعلامياً ــ هذه الخدمات المتبادلة يمكن أن تقوّي الأطراف كافّة، وتصنع وجوهاً جديدةً في الساحة، وكلّي إيمان أن هناك الكثير من الطاقات المستعدّة القادرة على فعل شيء في أوساطنا الدينية، كلّ ما في الأمر أنها تحتاج لتأمين معابر لها؛ كي تستطيع ــ من خلالها ــ أن تقدّم ما يمكنها من خدمات، وعلى أصحاب القدرة والاستعداد تقديم خدماتهم للجهات الأخرى القادرة على أن تستفيد منهم لصنع واقع جديد.
8 ــ وإذا أرادت الحركة التغييرية أن تعيد صنع العقول وتكوين الرأي العام، فيجب أن تخرج عن منطق الوصاية والتلقين، ومن ثم نحن بحاجة إلى رموز رسالية تعيش مع الناس وتعاني همومهم، إن علماء الدين ــ والحمد لله ــ أثبتوا بمرور الزمن جدارةً عالية على هذا الصعيد ــ طبعاً فريق منهم ولا أزعم جميعهم ــ فعلينا أن لا نجحف أحداً حقه، فالإنصاف سيّد المواقف، ومعنى ذلك أن من المفترض النزول من أبراج الثقافة العالية، وصالونات الفكر المخملية؛ للتواصل مع الناس قدر الإمكان، لا أقلّ من تنويع الأدوار، وعدم الإصابة بمرض الغرور والنرجسية الذي ابتلي به مثقفنا الديني غالباً، فظلّ يتهم مجتمعه بالتخلّف والرجعية و… لماذا لا يوجد فيما بيننا خطباء ورجال منبر وكاريزمات مؤثرة في الرأي العام إلا قليلاً، ولماذا تعالينا عن هذا الملفّ الحسّاس زاعمين ــ كما زعم بعضُ من كان قبلنا ــ أنه دون شأن المثقف الحصيف، أو تفكيره وطموحاته.
9 ــ وإذا لم تكن فئات التغيير متحدة الرأي والاتجاه، وهذا شيء طبيعي، فلا أقلّ من قاسم مشترك، يمنح الأطراف كافّة قدرة صنع القرار على أساس من الشورى أو أغلبية الآراء، والمهمّ بالنسبة إلينا ــ في ورقتنا هذه ــ هو التغييريّ الديني مهما كان انتماؤه الفكري.
هذه هي رسالتنا ــ سيما لشباب التغيير الصاعد ــ الذي نطالبه بالثقة بنفسه ووضع برامج لعمله وأن لا يترك الزمن يسير به كيفما أراد محبطاً يائساً من صنع شيء، حيث أدّى الشيوخ قسطهم، وجزاهم الله خير جزاء المحسنين، فذهب بعضهم ــ كالصدر الأول والثاني مع الإمام موسى الصدر، والمطهري والبهشتي ومغنية و.. وفي مقدّمتهم الإمام الخميني ــ وظل العبء على كاهل أمثالنا أن يتحمّلوا المسؤولية، فكلّ الحركات الكبيرة في تاريخ الإنسانية بدأت قرارات صغيرة ومحدودة.
واليوم آن الأوان للتغييريين أن يخرجوا من مرحلة الدفاع والخوف على الذات إلى مرحلة الهجوم (العلمي الأخلاقي)، أن يبرزوا كقوى ضغط، تساهم في صنع الواقع إن شاء الله تعالى، بدل أن يظلّوا ملاحقين في قفص الاتهام داخل مجتمعهم الديني.
كانت هذه خلاصة لأساسيات الورقة، والأفكار والمقترحات هنا كثيرة جداً، نوكل تفصيلها إلى مجال آخر.
﴿ … إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ 1 2.
- 1. القران الكريم: سورة هود (11)، الآية: 88، الصفحة: 231.
- 2. نشر هذا المقال في العدد الرابع من مجلة نصوص معاصرة، في بيروت، خريف عام 2005م.