نور العترة

حديث عن السيدة الزهراء …

عندما ننطلق لنتحدّث عن الزهراء (عليها السلام) الحاملة للقب سيدة نساء العالمين …. فهذا يعني لسنا في مقام الكلام عن شخصية نسائية متعارفة وشائعة، وإنّما نتحدّث عن نموذج إنساني رفيع إستطاع أن يكون مثلاً وقدوة لا لخصوص المشتركين مع ذلك النموذج في الصورة والشكل وإنّما للإنسان كلّه وللأزمان كلّها، وقيمة هذا النموذج أنّه ينطلق من حيث ينطلق الآخرون في هذه الحياة الدنيا بأجسادهم وأرواحهم وأفكارهم، لأنّهم استطاعوا أن يجسّدوا الفكر الإلهي الخاتم الذي نطلق عليه إسم الإسلام بأروع ما يكون التجسيد وعلى مستوى كلّ القضايا المعاشة في الواقع الحركي، الكبيرة منها المتعلّقة بالمصير العام، أو الصغيرة التي لا تتعدّى حدود العائلة، ولهذا نضع الزهراء(عليها السلام) كما هي في واقعها الذي حققته في مساق النماذج التي تمكّنت أن تتجاوز عصرها والجغرافيا التي كانت تتحرك فيها، لتصبح حقيقة على مستوى تطبيق الفكر والسلوك بحيث يسعى كلّ إنسان وفي كلّ زمان لكي يكون في أقرب حالةٍ ممكنة من تلك النماذج لأنّها الحجة الكبرى على قدرة الإسلام على صنع مثل أولئك الأفراد الذين فرضوا صورتهم وحضورهم الفاعل في كلّ زمانٍ ومكان.
وكيف لا تكون في ذلك المقام الرفيع وهي التي شكلت واسطة العقد والرابط ما بين من (تشرّفت به الإمامة) وبين السلسلة الطاهرة المعصومة من الأئمة(عليهم السلام) أليست بنت النبوة، وزوج الولاية، وأم من لهم مع الله حالات لا يدرك أسرارها ولا يستوعب مقدارها إلا الذي جعل الأجساد المادية موطناً للأرواح الشريفة العلوية بشرط أن ننفي عنهم الربوبية؟
فمنذ صغرها في السن كانت كبيرة وعظيمة على مستوى المحتوى والمضمون والكمال الفكري والجمال السلوكي فإذا بها في تلك السن هي (أم أبيها) مع ما يعنيه هذا اللقب من الدفء الوافر والعاطفة التي كانت تفيض منها على النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا ممّا يوحي بأنّها قامت بدور الأم بما يمثل من تضحيات ومعان تجاه الأبناء وفلذات الأكباد الذين يخرجون من صلبها إلى الحياة الدنيا.
وننتقل معها في رحلة الحياة القصيرة التي عاشتها في وضعية (الزوجة) التي اقترنت فيها مع من كان كفؤاً لها وهو (أمير المؤمنين) (عليه السلام) لنرى مدى التكامل بين الأدوار الناتج عن التقارب الإيماني والفكري والعملي بحيث تجد نفسك أمام نموذج للحياة الزوجية يمثل لوحة فنية رائعة من أيّ جهةٍ نظرت إليها أو حدّقت فيها، فهي تحمل هموم الزوج ومتاعبه،وتشعر بألآمه والضغوطات المفروضة عليه فتعمل على تهيئة كلّ أجواء الأمان والراحة والهدوء بما يخدم المصلحة العامة من خلال تحقيق هذا الجو للزوج المجاهد والمضحّي معاً، وهو يحسّ معها ويشعر بتعبها في حمل مسؤولية المنزل والأسرة فلا يغضّ الطرف عن ذلك،وإنّما يسعى لتخفيف ما أمكنه من الأعباء عنها مع إحساس باللذة الروحية المتبادلة ما بين الطرفين عندما يوفّر كلٌ منهما للآخر ما يجعله قابلاً ذاتاً للذوبان في الآخر بلا إثنينة في المقام إلا من حيث الوجود المادي الخارجي دون الروحي والمعنوي، لأنّ كلاً منهما يعيش مع الآخر في كلّ التفاصيل وفي عمق الأحاسيس والمشاعر.
ونعرّج على دور الأم في تلك الشخصية لنرى ذلك الكيان يسخّر كلّ قدراته وطاقاته للتربية الصالحة الرشيدة التي تزرع في نفوس الأبناء كلّ بذور الإيمان والصلاح والتقوى من جهة، وتفيض عليهم رقة وعذوبة وحناناً لغرس المعاني الإنسانية الرفيعة التي تكبر وتنضج مع الرعاية والعناية من جهةٍ ثانية،وتفتح الآفاق أمام الأبناء على مستوى الأمة والمجتمع من خلال الإيثار وتقديم الآخرين على النفس ولو أصابها السقم والألم والضمور بسبب الجوع والعطش، أو من خلال الدعاء بظهر الغيب ونسيان الذات وإهمالها لإشباع حسّ المسؤولية الرسالية والإنسانيةعندهم تجاه العقيدة والنهج والأمة أيضاً.
وننعطف إلى الدور الجهادي للزهراء (عليها السلام) عندما اضطربت الأموربرحيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسارت في غير الإتجاه حيث نرى الروح الرسالية الصادقة تنتفض فتحوّل المدينة المنورة إلى ما يشبه مأتم العزاء أو مراسيم الدفن فتضجّ الناس وتلتهب النفوس المتأثّرة بإحساسات الزهراء (عليها السلام) وآلامها النفسانية التي سبّبتها لها تلك الأحداث الخطيرة على مستوى النهج والمسير، وتنطلق حاملةً معها كلّ ذلك لتواجه الذين لم يتركوا الأمور تسير كما كان التصوّر النبوي بالحجة والبرهان الساطع والدليل القاطع ويتظاهر أولئك أمام الناس لامتصاص النقمة ويحاولون التلطّي خلف كلامٍ منسوب إلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ولم ينسبه إليه غيرهم للردّ على تلك الحجج النورانية الفاطمية.
وأبت أن ترحل عن الدنيا إلا بالطريقة التي تعبّر فيها عن عدم رضاها على المجريات والقضايا الواقعة، لأنّ عدم رضاها يكشف عن الغضب النبوي والإلهي على من أغضبها لأنّها معلمٌ من معالم الحق ونورٌ من أنوار النبوة، فلا تنجذب نحو العاطفة لتأخذ منها ستاراً لموقف أو عطاءً لنهج إلا إذا كان يخدم كلّ ذلك مصلحة الإسلام والأمة. والحمد لله ربّ العالمين1.

  • 1. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد حفظه الله.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى