مقالات

جواب شبهة حول ارتباط العبادة باليقين

بسم الله الرحمن الرحيم

بقلم: زكريا بركات
8 أكتوبر 2023

بيان الشبهة:

من المحاولات المعروفة عن جماعات من المنحرفين عن الدِّين قولُهم بأنَّ العبادة غرضها الحصول على اليقين، بدليل قوله تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقين‏) الحجر: 99. فإذا أصبح العبد من أهل اليقين فلا تكون العبادة مطلوبة منه، وبرَّروا بذلك ترك الصلاة وغيرها من شرائع الإسلام.

فإذا قيل لهم: إن أهل العلم فسَّروا اليقين في الآية بالموت، فيكون معناها أن العبادة مطلوبة من الإنسان حتى يموت، أجابوا بأنَّ كلام أهل العلم ليس حجة عليهم، زاعمين أنهم علموا بمعنى الآية وخفي ذلك على أهل العلم لعدم عصمتهم..!

جواب الشبهة:

أوَّلاً: قال الله تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقين‏) الحجر: 99، وقال الله تعالى ـ حكاية عن لسان أهل النار ـ : (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّين‏، حَتَّى أَتانَا الْيَقين‏) المدثر: 46 ـ 47. نلاحظ وحدة التعبير في الآيتين عن اليقين، ففي كلتا الآيتين ذُكر (إتيان اليقين) بوصفه غايةً لأمر، مع فارق أنَّ إتيان اليقين في الأولى غاية للعبادة المطلوبة، وفي الثانية غاية للتكذيب المنهي عنه. فكيف يُفسِّر أصحاب الشُّبهة اليقينَ في الآية الثانية؟ فإن قالوا بنفس المعنى الذي فسَّروا به اليقين في الآية الأولى، فضحوا أنفسهم، وكان معنى كلامهم أن تكذيب الدين مطلوب حتى يكون الإنسانُ من أهل اليقين..! وهذا ما لا يقول به أقلُّ الناس فهماً وحياءً. وإن اعترفوا أنَّ معنى اليقين في الثانية هو الموت، قيل لهم: فبأيِّ دليل حملتهم اليقين في الآية الأولى على معنى مختلف بالرغم من وحدة التعبير بين الآيتين الدال على وحدة المعنى فيهما؟!

فإن قالوا: لقد ذُكرت لليقين معانٍ أخرى في القرآن الكريم، قيل لهم: كل الآيات التي ذُكر اليقين فيها يختلف تركيبها وسياقها عن آية سورة الحِجْر، فلا دليل على تفسير اليقين فيها باليقين في تلك الآيات، ما عدا آية المدَّثِّر؛ لوحدة التعبير والتركيب الذي لا يخفى على أقل الناس فهماً، مما يدلُّ على وحدة المعنى المراد من اليقين في الآيتين.

وأمَّا قولهم إن العلماء غير معصومين، فيقال لهم: وأنتم جهلة غير معصومين، والعالم غير المعصوم أولى بالاتِّباع ـ لعلمه وتخصُّصه ـ من الجاهل غير المعصوم، والعلم والتخصُّص هما معيار الاتِّباع، وليست العصمة. بل إنَّ ترك هؤلاء الجهلة للصلاة وشعائر الإسلام مما يوجب صدق عنوان الفسق عليهم، والفاسق محروم من الهداية بدليل قوله تعالى ـ في عدة آيات من الذكر الحكيم ـ : )والله لا يهدي القوم الفاسقين) ، فكيف يُصغى إلى كلام فاسق محروم من الهداية، وجاهل محروم من الفهم، ويُترك كلامُ العلماء الصالحين المعروفين بالاستقامة والنزاهة؟!

ثانياً: ألم يبلغ هؤلاء المدَّعين أنَّ أهل البيت (ع) عليهم السلام، وهم سادة أهل اليقين، كانوا يقيمون الصلاة إلى آخر حياتهم؟! ألم يبلغهم أنَّ إمام المتقين وقائد الغُرِّ المحجَّلين ضُرب بالسيف على هامته المقدَّسة وهو يُصلِّي؟! ألم يبلغهم أنَّ الإمام الحسين (ع) وأصحابه أقاموا صلاة الظهر في وسط المعركة وتحت ظلال السيوف يوم عاشوراء واستشهد جماعةٌ من الأصحاب في حمايتهم وهم يُصلُّون؟!

ثالثاً: لو صحَّ ما يقوله هؤلاء، لحقَّ للمنافقين أن يتركوا الصلاة بدعوى بلوغهم مرتبة اليقين، ولأدَّى ذلك إلى ترك فريضة الصلاة من فُسَّاق الأمَّة وفُجَّارها، ولما حقَّ لأحد أن يأمرهم بمعروف ولا ينهاهم عن منكر، ولما كانت لدى رسول الله (ص) حُجَّة في قوله: “إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ صَلَاةٍ أَشَدَّ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ [أي صلاة الفجر] وَالْعِشَاءِ” [تهذيب الأحكام 3 : 25 وسنده صحيح] ، ولا في قوله (ص) : “لَيُوشِكُ قَوْمٌ يَدَعُونَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ أَنْ نَأْمُرَ بِحَطَبٍ فَيُوضَعَ عَلَى أَبْوَابِهِمْ فَتُوقَدَ عَلَيْهِمْ نَارٌ فَتُحْرَقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتُهُمْ” [تهذيب الأحكام 3 : 25 وسنده صحيح] ، ولصحَّ للمنافقين أن يقولوا: لقد بلغنا اليقين فتركنا الصلاة، فلأيِّ شيء تُحرق بيوتنا؟!

رابعاً: هناك نصوص دينية كثيرة ـ قرآناً وسنَّةً ـ أكَّدت على المحافظة على الصلاة، وحرمة التضييع والاستخفاف، منها ما أورده الحرُّ العاملي في الجزء الرابع من “وسائل الشيعة” في الباب السادس بعنوان: باب تحريم الاستخفاف بالصلاة والتهاون بها، والباب الذي يليه بعنوان: باب تحريم إضاعة الصلاة ووجوب المحافظة عليها، وهذه النصوص مطلقة، أي لا يوجد فيها تقييد لتلك البيانات والتأكيدات لغير أهل اليقين، ولو صحَّ ما قاله هؤلاء المدَّعون لوجب تقييدُها وتخصيص البيان فيها لمن لم يبلغ مرتبة أهل اليقين.

نسأل الله تبارك وتعالى الهداية والتوفيق لطاعته وابتغاء مراضيه، وأن يحفظ المؤمنين من شرِّ شبهات المنحرفين وما يبثُّونه من سموم باسم الفكر والدِّين.

والحمدُ لله ربِّ العالمين.

https://chat.whatsapp.com/GaqaJFFGf23GppIuC0IMcm

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى