مقدمة حول التقوى
التقوى لغة من الوقاية، والوقاية هي حفظ الشيء ممّا يؤذيه و يضره.
ورد في مفردات الراغب الأصفهاني أن التقوى هي ” جعل النفس في وقاية مما تخاف. ثم يسمّى الخوف تارة تقوى، والتقوى خوفا حسب تسمية مقتضى الشيء بمقتضيه والمقتضي بمقتضاه . وصار التقوى في تعارف الشرع حفظ النفس عما
يقول تعالى :” فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون “ (الأعراف 35)
” إن الله مع الذين اتقوا و الّذين هم محسنون”(النخل 128)
وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنّة زمرا” (الزمر 73)”
التقوى إذن هي الحذر من الله سبحانه وتعالى، و تنبع من الإيمان به و الشعور بحضوره ومراقبته.
والتّقي هو من يراقب الله في جميع تصرفاته وأفعاله . ودرجة التقوى تتناسب طردا مع الإيمان فتزداد بازدياده.
و تعد التقوى حالة صحيّة يمر بها الإنسان المؤمن عندما يقوى إيمانه ويشتد ويصل إلى مرحلة يصبح معها شعورا قويا بحضور الله عز وجلّ وبأنه ينبغي أن لا يعصى لعظمته وجبروته.
وعندما يعزم السالك على بلوغ مقام التقوى فأن عليه التعرف أولا على مواردها. وهذه الموارد ليست سوى الطاعات و المعاصي.. ومن أجل ذلك ينبغي له تحصيل بعض المقدمات ومنها التفقه في الدين.. حتى يكون عمله عن وعي وبصيرة ولكي لا تزيده سرعة المسير بعدا عن الهدف (كما ورد في الحديث الشريف).
إن الحديث عن التقوى يحتاج إلى أكثرمن هذه السطور البسيطة لكن، ولغرض عدم الإطالة، فإني أكتفي بذكر
بعض الملاحظات المنهجية الهامة و الضرورية:
(1) إن الإسلام كما أكد على البعد الروحي للوجود الإنساني اعتبر الجسد أيضا أحد أبعاد هذا الوجود..
فينبغي عدم إهماله لكي لا يطغى على التوجهات الروحية للإنسان.. لكن مع مراعاة الحكم وتوخي الحذر فإن إعطاء
الجسد أكثر من نصيبه عادة ما يؤدي إلى القضاء على تلك التوجهات..
(2) إن الطاعات لا تنحصر في البعد الفردي بل إن هناك واجبات اجتماعية لا تقل أهمية وخطورة عن الواجبات الفردية إن لم تكن أهم وأخطر.. ومما يدل على ذلك ما ورد في بعض النصوص أن كتاب الأمة يقدّم عند الحساب على كتاب
الفرد. بل أن هذا الأخير يتأثر بالأول وليس العكس..
(3) إن اكتساب حالة التقوى يعد مقدمة ضرورية لتهذيب النفس، الذي يعتبر شرطا لبلوغ المقامات المعنوية..
(4) إن الوصول إلى مقام التقوى يؤدي إلى نشوء حالة من الصفاء الباطني يتمكن معها المؤمن من الكشف عن
أمراضه الأخلاقية ..
(5) هناك فرق بين المعاصي (أو الذنوب الظاهرية) وبين الأمراض الأخلاقية (أو القلبية).
فهذه الأخيرة قد تظهر في عمل الإنسان على شكل أفعال أو معاص وقد لا تظهر بل تبقى في حالة كمون..
ومثال ذلك:( الحسد) وهو من الأمراض القلبية فقد يتجسد بشكل عملي ويدفع الحاسد إلى الغيبة والنميمة و الكذب
بل وحتى الاعتداء على المحسود. و قد يبقى كامنا في القلب دون أن يظهر..
(6) توجد بعض الحالات المرضية الباطنية التي لا يمكن تصنيفها ضمن الذنوب الظاهرية والأمراض الأخلاقية، بل
هي أقرب إلى الكفر أو الشرك الخفي مثل النفاق و الرياء وسوء الظن بالله.
(7) كما نحتاج إلى الطبيب في معالجة الأمراض الجسمية، فإننا نحتاج إلى من يساعدنا في تشخيص أمراضنا
القلبية وتقديم العلاج لها.
و إذا كانت عاقبة ترك معالجة الأمراض الجسدية هي موت الجسد (ولو بعد حين )، فان نتيجة إهمال الأمراض القلبية
هو موت القلب وما ينجر عنه من خيبة وخسران في الدنيا و الآخرة. وشتان ما بين الموتتين.
(8) بعد الانتهاء من تشخيص الأمراض القلبية فإننا نحتاج إلى الشعور بقبحها وخطرها وأثرها السلبي وذلك
كمقدمة لإزالتها أو معالجتها.
(9) لئن كان تهذيب النفس و تزكيتها من أشق الأمور وأصعبها فإن ما يسهل الأمر ويهونه أن المولى عز وجل قد
تكفل بان يأخذ بادي السائرين إليه و المجاهدين فيه.
” والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا”(العنكبوت 69)
إذ لولا ذلك التسديد الإلهي لما توفق الإنسان في تزكية نفسه أو في إصلاحها:
” ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم” (النور 21)
وإنّ الاعتراف بالعجز في هدا المقام (بل وفي كل مقام ) والتوكل التام على الله في هذا المجال ،شرط من شروط
الموفقية وإحراز النجاح.
” ولولا إحسانك إلي و سبوغ نعمائك علي ما بلغت إحراز حظي ولا إصلاح نفسي..” (الصحيفة السجادية )
(10) إن المعاصي و الذنوب كما تعدّ أثرا من آثار الأمراض الأخلاقية وأعراضها تعتبر أيضا رافدا لها.
فهي (أي المعاصي) بمثابة الماء الذي يروي أشجار هذه الأمراض وينميها..
(11) إن أنجع الوسائل وأقرب السبل لمعالجة الأمراض الأخلاقية و القلبية هي التقوى فهي مفتاح كل علاج وأساس
كل خير وصلاح وفلاح ونجاح في الدنيا والآخرة.
(12) للحصول على مقام التقوى ينبغي التدرج من الأهم إلى الأهم. ففي البداية يجب ترك المحرمات و الإتيان
بالواجبات .
ثم في المرحلة الثانية يبدأ السالك باجتناب المكروهات لينتهي بفعل المستحبات.