مقالات

البداء في التكوين

بسم الله الرحمن الرحيم

توطئة

لمّا كان النسخ في الأحكام و هو في أفق التشريع، و كذا البداء و هو في أفق التكوين.

و بمناسبة خفاء معنى البداء على كثير من علماء المسلمين، و أنهم نسبوا إلى الشيعة ماهم برآء منه، و أنهم لم يحسنوا في الفهم، و لم يحسنوا في النقد!

و ليتهم إذ لم يعرفوا تثبّتوا، أو توقفوا كما تفرضه الأمانة في النقل، وكما تقتضيه الحيطة في الحكم، والورع في الدين.

بمناسبة كل ذلك وجب أن نذكر شيئاً في توضيح معنى البداء.

تمهيد

لا ريب في أن العالم بأجمعه تحت سلطان الله وقدرته، و أن وجود أي شيء من الممكنات منوط بمشيئة الله تعالى، فإن شاء أوجده، وإن لم يشأ لم يوجده.

و لا ريب- أيضاً- في أن علم الله سبحانه قد تعلّق بالأشياء كلّها منذ الأزل، و أن الأشياء بأجمعها كان لها تعين علميّ في علم الله الأزليّ، وهذا التعيّن يعبّر عنه ب”تقديرالله” تارةً، وب”قضائه” تارةً أخرى.

و لكنّ تقدير الله وعلمه سبحانه بالأ شياء منذ الأزل لايزاحم و لا ينافي قدرته تعالى عليهاحين إيجادها، فانّ الممكن لا يزال منوطاً بتعلّق مشيئة الله بوجوده، التي قد يعبّر عنها بالإختيار، و قد يعبر عنها بالإرادة.
 

فإن تعلقت المشيئة به وجد، و إلا لم يوجد.

والعلم الإلهي يتعلق بالأشياء على واقعها من الإناطة بالمشيئة الإلهية، لأن انكشاف الشيء لا يزيد على واقع ذلك الشيء، فإذا كان الواقع منوطاً بمشيئة الله تعالى كان العلم متعلقاً به على هذه الحالة، وإلا لم يكن العلم علماً به على وجهه، و انكشافاً له على واقعه.

فمعنى تقدير الله تعالى للأشياء و قضائه بها:
أن الأشياء- جميعها- كانت متعينة في العلم الإلهي منذ الأزل- على ما هي عليه- من أنّ وجودها معلق على أن تتعلق المشيئة بها، حسب اقتضاء المصالح والمفاسد التي تختلف باختلاف الظروف، والتي يحيط بها العلم الإلهيّ.

موقف اليهود من قدرة الله
و ذهبت اليهود إلى أنّ قلم التقدير و القضاء حينما جرى على الأشياء في الأزل استحال أن تتعلق المشيئة بخلافه، و من أجل ذلك قالوا: يد الله مغلولة عن القبض والبسط والأخذ والإعطاء، فقد جرى فيها قلم التقدير ولا يمكن فيها التغيير. و من الغريب أنهم التزموا بسلب القدرة عن الله، و لم يلتزموا بسلب القدرة عن العبد، مع أنّ الملاك في كليهما واحد، فقد تعلق العلم الأزلي بأفعال الله تعالى، و بأفعال العبيد على حدٍّ ٍسواء.

موقع البداء عند الشيعة
ثم إن البداء الذي تقول به الشيعة الإمامية إنما يقع في القضاء غير المحتوم، أما المحتوم منه فلا يتخلف، و لا بدّ من أن تتعلق المشيئة بما تعلق به القضاء. و توضيح ذلك أنّ القضاء على ثلاثة اقسام: 

أقسام القضاء الألهيّ

الأول:
قضاء الله الذي لم يطّلع عليه أحداً من خلقه، و العلم المخزون الذي استأثره لنفسه. و لا ريب في أنّ البداء لا يقع في هذا القسم، بل ورد في روايا ت كثيرة عن أهل البيت عليهم السلام أنّ البداء إنما ينشأ من هذا العلم. روى الشيخ الصدوق في “العيون” بإسناده عن الحسن ابن محمد النوفلي، أنّ الرضا عليه السلام قال لسليمان المروزي: “رويت عن أبي، عن أبي عبدالله عليه السلام أنّه قال: إنّ لله عزّو جلّ علمين: علماً مخزوناً مكنوناً، لا يعلمه إلا هو، من ذلك يكون البداء، و علماً علّمه ملائكته و رسله، فالعلماء من أهل البيت نبيّك يعلمونه1….

و روى الشيخ محمد بن الحسن الصفار في “بصائر الدرجات” بإسناده عن أبي بصير، عن أبي عبدالله عليه السلام، قال: “إنّ لله علمين: علم مكنون مخزون، لا يعلمه إلا هو، من ذلك يكون البداء، و علم علمه ملائكته و رسله و أنبياءه، و نحن نعلمه2.

الثاني:
قضاء الله الذي أخبر نبيه و ملائكته بأنّه سيقع حتماً. و لا ريب في أنّ هذا القسم- أيضاً- لا يقع فيه البداء، و إن افترق عن القسم الأول بأن البداء لا ينشأ منه. قال الرضا عليه السلام لسليمان المروزي- في الرواية المتقدمة-عن الصدوق:”إنّ علياً عليه السلام كان يقول: العلم علمان: فعلم علمه الله ملائكته و رسله، فما علمه ملائكته و رسله فأنه يكون، و لا يكذب نفسه و لا ملائكته و لا رسله، و علم عنده مخزون لم يطلع عليه أحداً من خلقه، يقدم منه ما يشاء، و يؤخر ما يشاء، ويمحو ما يشاء و يثبت ما يشاء3.

و روى العياشي، عن الفضيل، قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: “من الأمور أمور محومة جائية لا محالة، و من الأمور أمور موقوفة عند الله، يقدّم منها ما يشاء، ويمحو ما يشاء، و يثبت منها ما يشاء، لم يطلع على ذلك أحداً- يعني الموقوفة- فأما ما جاء ت به الرسل فهي كائنة، لا يكذب نفسه، ولا نبيه، و لا ملائكته4.

الثالث:
قضاء الله الذي أخبر نبيه و ملائكته بوقوعه في الخارج، إلا أنه موقوف على أن لا تتعلق مشيئتة الله بخلافه. وهذا القسم هوالذي يقع فيه البداء: ﴿يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ﴾.

و قد دلت على ذلك روايات كثيرة، منها هذه: 
1- ما في “تفسير علي بن إبراهيم” عن عبدالله بن مسكان، عن أبي عبدالله عليه السلام، قال ‎:”إذا كان ليلة القدر نزلت الملائكة و الروح و الكتبة إلى سما‎ء الدنيا، فيكتبون ما يكون من قضاء الله تعالى في تلك السنة، فإذا أراد الله أن يقدم شيئاً، أو يؤخره، أو ينقص شيئا، أمر الملك أن يمحو ما يشاء، ثم أثبت الذي أراده.
قلت: و كلّ شيء هو عند الله مثبت في كتاب؟
قال: نعم.
قلت: فأيّ شيء يكون بعده؟
قال: “سبحان الله! ثمّ يحدث الله أيضاً ما يشاء، تبارك و تعالى5.

2- ما في تفسيرة أيضاً، عن عبدالله بن مسكان، عن أبي جعفر و أبي عبدالله و أبي الحسن عليهم السلام، في تفسير قوله تعالى: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيم6.
أي: يقدر الله كل أمر من اللحق و من الباطل، و ما يكون في تلك السنة، و له فيه البداء و المشيئة، يقدم ما يشاء و يؤخر ما يشاء من الآجال و الأرزاق والبلايا و الأعراض و الأمراض، و يزيد فيها ما يشاء و ينقص ما يشاء...”7.

3- ما في كتاب “الأحتجاج” عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنه قال: “لولا آية في كتاب الله، لأخبرتكم بما كان، و بما يكون، و بما هو كائن إلى يوم القيامة، و هي هذه الآية: ﴿يَمْحُو اللّهُ..8.
و روى الصدوق في “الأمالي” و “التوحيد” بإسناده عن الأصبغ، عن أميرالمؤمنين عليه السلام، مثله9.

4- ما في “تفسير العياشي” عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، قال:”كان علي بن الحسين عليه السلام يقول: لولا آية في كتاب الله لحدثتكم بما يكون إلى يوم القيامة.
فقلت: أية آية؟
قال: قول الله: ﴿يَمْحُو اللّهُ..10.

5- ما في”قرب اللإ سناد” عن البزنطي، عن الرضا عليه السلام قال:”قال أبوعبدالله، و أبوجعفر، و علي بن الحسين، و الحسين بن علي، والحسن بي علي، و علي بن أبي طالب عليهم السلام: و الله لولا آية في كتاب الله لحدثناكم بما يكون إلى أن تقوم الساعة: ﴿يَمْحُو اللّهُ..﴾”11
إلى غيرذلك من الروايات الدالة على وقوع البداء في القضاء الموقوف.

وخلاصة القول
إن القضاء الحتمي المعبّر عنه باللوح المحفوظ، و بأم الكتاب، والعلم المخزون عندالله، يستحيل أن يقع فيه البداء. و كيف يتصوّر فيه البداء ؟! و أنّ الله سبحانه عالم بجميع الأشياء منذ الأزل، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض و لا في السماء. روى الصدوق في “إكمال الدين” بإسناده عن أبي بصير و سماعة، عن أبي عبدالله عليه السلام، قال:”من زعم أنّ الله عزّو جلّ يبدو له في شيءلم يعلمه أمس فابرأوا منه12. وروى العياشي عن ابن سنان، عن أبي عبدالله عليه السلام، يقول:”إن الله يقدّم ما يشاء، ويؤخّر ما يشاء، ويمحو ما يشاء و يثبت ما يشاء، و عنده أم الكتاب.  و قال:” فكلّ أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يصنعه، ليس شيء يبدو له إلا و قد كان في علمه، إن الله لا يبدو له من جهل13. و روى أيضاً عن عمار بن موسى، عن أبي عبدالله عليه السلام:”سئل عن قول الله: ﴿يَمْحُو اللّهُ…﴾. قال: “إن ذلك الكتاب كتاب يمحو الله ما يشاء و يثبت، فمن ذلك الذي يردّ الدعاء القضاء، و ذلك الدعاء مكتوب عليه: الذي يردّ به القضاء، حتى إذا صار إلى أم الكتاب لم يغن الدعاء فيه شيئاً”14.

و روى الشيخ الطوسي في كتاب “الغيبة” بإسناده عن البزنطي، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام، قال: [قال علي بن الحسين، و علي بن أبي طالب قبله، و محمد بن علي، و جعفربن محمد: كيف لنا بالحديث مع هذه الآية: ﴿يَمْحُو اللّهُ..﴾ فأما من قال بأن الله تعالى لا يعلم الشيء إلا بعد كونه، فقد كفر و خرج عن التوحيد”. والروايات الأثورة عن أهل البيت عليهم السلام أن الله لم يزل عالماً قبل أن يخلق الخلق، فهي فوق حدّ الإحصاء، و قد اتّفقت على ذلك كلمة الشيعة الإمامية طبقاً لكتاب الله و سنّة رسوله، جرياً على ما يقتضيه حكم العقل الفطري الصحيح. و روى الشيخ الكليني بإسناده عن عبدالله بن سنان، عن أبي عبدالله عليه السلام، قال: “مابدا لله في شيء إلا كان في علمه قبل أن يبدو له”15.

* بحث حول البداء / الإمام الخوئي قدة.


1-عيون أخبار الرضا عليه السلام 1/181.
2-بصائر الدرجات: 129 ح 2.
3-عيون أخبار الرضا عليه السلام 1/182(باب 13)، و رواه الشيخ الكليني عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر عليه السلام في الكافي 1/114 ح 6 بأختلاف يسير، و عنه في الوافي 1/512 ح 412 (باب البداء ج ص 113).
4-تفسير العياشي 2/217 ح 65 بأختلاف يسير، و عنه في بحار الأنوار4/119 ح 58(باب البداء و النسخ ج 2 ص 133 ط كمباني)- و كان المتن منقولاً من البحار.
5-تفسير القمي 1/366 بأختلاف يسير، و عنه في بحار الأنوار 4/99 ح 9 (باب البداء و النسخ ج 2 ص 133 ط كمباني).
6- الدخان:4.
7-تفسير القمي 1/366، و عنه في بحارالأنوار 4/101 ح 12(باب البداء والنسخ ج2 ص134 ط كمباني).
8-الأحتجاج: 258 (ص 137، المطبعة المرتضويّة، النجف الأشرف).
9-الأمالي: 280ح 1ب 55، التوحيد: 305، و عنهما في بحارالأنوار 4/97 ذح 4.(م).
10-تفسير العياشي 2/215 ح 59، وعنه في بحارالأنوار 4/118 ح 52(باب البداء و النسخ ج2 ص 139 ط كمباني)- و كان المتن منقولاً من البحار.
11-قرب الإسناد: 353 ح 1266، و عنه في بحارالأنوار 4/97 ح 5(باب البداء و النسخ ج 2 ص132 ط كمباني)- و كان المتن منقولاً من البحار.
12-إكمال الدين: 70، وعنه في بحارالأنوار4/111 ح 30(باب البداء و النسخ ج2 ص136)- و كان المتن منقولاً من البحار.
13-تفسير العياشي 2/218 ح 71 وفيه: «لكل» بدل «فكل»، و عنه في بحار الأنوار4/121ح 63 (باب البداء و النسخ ج2 ص 139)- و كان المتن منقولاً من البحار.
14-الغيبة: 430 ح 420، و عنه في بحارالأنوار4/115 ذح40(باب البداء والنسخ ج2 ص136 ط كمباني)- و كان المتن منقولاً من البحار.
15-لكافي _ باب البدا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى