اتّضح بما ذكرنا أنّ التشيّع ظهر منذ عهد الرسالة ، و أنّ هناك الكثير من الصحابة الذين كانوا على وفاق مع الإمام علي (عليه السلام) في الرأي و المنهج فهم كانوا موجودين في عهد الرسالة .
و لقد جاء علماء الشيعة و منهم الشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء بأسماء الشيعة من الصحابة ، و ذكر أنّه قد جمع من كتب تراجم الصحابة كالإصابة و أسد الغابة و الاستيعاب و نظائرها زهاء ثلاثمائة رجل من عظماء رجال النبي كلّهم من شيعة علي ( عليه السلام ) ، و منهم سلمان الفارسي و أبو ذر الغفاري و عمار بن ياسر و المقداد و أبو أيوب الأنصاري و الفضل بن العباس و أخيه الحبر عبد الله و خزيمة ذي الشهادتين و غيرهم كثير 1 .
و إليك ترجمة حياة بعض أركان الشيعة من الصحابة:
سلمان الفارسي
توفّي بالمدائن سنة 35 أو 36 ، و من ألقابه سلمان الخير ، و سلمان المحمّدي ، و سلمان ابن الإسلام ، و عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) عند ما ذكر عنده سلمان الفارسي فقال ( عليه السلام ) : ” مهلاً ، لا تقولوا سلمان الفارسي ، و لكن قولوا سلمان المحمّدي ذلك رجل منّا أهل البيت ” .
و هو من المعمّرين ، ففي تهذيب التهذيب عن العباس بن زياد : أهل العلم يقولون عاش سلمان 350 سنة فأمّا 250 فلا يشكّون فيه ، و كان أدرك وصي عيسى بن مريم (عليه السلام) فيما قيل .
و في الاستيعاب اشتراه رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) من اليهود بكذا و كذا درهماً ، و على أن يغرس لهم كذا و كذا من النخيل يعمل فيه سلمان حتّى تدرك ، فغرس رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) النخل كله إلا نخلة واحدة غرسها عمر فأطعم النخل كلّه إلا تلك النخلة فقال رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) : من غرسها فقالوا : عمر ، فقلعها رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) و غرسها فأطعمت من عامها .
و أوّل مشاهده مع رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) الخندق ولم يتخلّف عن مشهد بعده .
و في الاستيعاب له أخبار حسان و فضائل جمّة ذكر معمر عن رجل من أصحابه : دخل قوم على سلمان و هو أمير على المدائن ، و هو يعمل الخوص فقيل له : تعمل هذا و أنت أمير يجري عليك الرزق ، فقال : إنّي أحب أن آكل من عمل يدي .
و عن عائشة قالت كان لسلمان مجلس من رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) ينفرد به الليل حتّى كاد يغلبنا على رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) .
و روي من حديث ابن بريدة عن أبيه عن النبي أنّه قال : أمرني ربي بحب أربعة ، و أخبرني أنّه سبحانه يحبّهم علي و أبو ذر و المقداد و سلمان . و غيرها كثير .
فمن هنا اتّضح أنّ تشيّع سلمان ليس قائماً على الأحداث السياسية و الثورات الاجتماعية أو الأسباب المادّية 2 .
أبو ذر الغفاري
كان من غفار القبيلة المتحكّمة في طريق قوافل قريش إلى الشام ، و يعدّ أحد أركان الشيعة ، و يتميّز بطابع خاص .
و قد جهر بإسلامه في مكّة ، و تعرّض للضرب فيها ، ولم يشفع له إلا لكونه من قبيلة غفار . رسخت هذه الحادثة في ذهنه ، و أدرك منذ ذلك الوقت أنّ معارضة قريش لدعوة النبي ( صلى الله عليه و آله ) إنّما كانت لخوفهم من زوال المال . و كان يعلم أنّه دين الضعفاء ، و منقذ المستضعفين من سيطرة التجّار القريشيين ، و لذلك عارض سياسية عثمان ؛ لأنّه جعل يتصرّف في أموال المسلمين تصرفاً قصد به خلق طبقة من الأغنياء صارت فيما بعد السبب في الثورة على الخليفة 3 .
و كان من تشيّعه و قربه لعلي أنّه امتنع عن بيعة أبي بكر في بداية الصراع على الخلافة ، و أنّ علياً خرج لوداعه حين نفاه عثمان إلى الربذة ، و أمر أن لا يوادعه أحد ، و أن يصحبه ولداه الحسن و الحسين ، و أخوه عقيل ، و ابن أخيه عبد الله بن جعفر . و كان سبب نفيه هو اندهاشه لتفسير معاوية للآية ﴿ … وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ 4 بأنهّا نزلت في أهل الكتاب ، فاعترض أبو ذر بأنّها نزلت فينا و فيهم ، و بذلك يرى أبو ذر أنّ معاوية قد أوّل القرآن على هواه ، فشعر كحارس للمُثُل الإسلامية أنّ واجبه يدعوه إلى إيضاح الحقيقة للناس ففعل و حقّت عليه كلمة النفي و التشريد ، و قد قبلها أبو ذر راضياً ، و صدق رسوله الكريم إذ أخبره أنّ عيشه سيكون فريداً في آخر عمره ، و أنّ موته فريداً بفلاة من الأرض ، و حضور عصابة على جنازته 5 .
عمّار بن ياسر
هو ركن آخر من أركان التشيّع ، و كان قمّة في الثبات على ما يراه حقاً ، و الاندفاع إلى أقصى غايات الاندفاع ، و تضحية النفس ـ إذا اقتضى الأمرـ في سبيل المبدأ . و كان ممن يعذّب في الله ، و يقال : إنّه أوّل من اتّخذ مسجداً في بيته يتعبّد فيه 6 . و عاد إليه الأذى في عهد عثمان ؛ لأنّه عارض سياسته في الإنعام على الأمويين من أعداء الإسلام الذين لقي هو و أهله منهم ما لاقوه ، و دخل الإسلام ليستظلّ به من عبوديته لهم في الجاهلية .
فقد أقرّ له النبي ( صلى الله عليه و آله ) الحق طول حياته و جعل خصومه الفئة الباغية ، ذكر ابن كثير نقلاً عن الترمذي أنّ رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) قال لعمّار : ” ويحك يا عمّار تقتلك الفئة الباغية ” . و روى أيضاً أنّ رسول الله قال لخالد بن الوليد : ” لا تؤذّ عمّاراً فإنّه من يبغض عمّاراً يبغضه الله و من يعاد عمّاراً يعاده الله ” 7 .
يستفاد من هذا الكلام أنّ رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) أراد أنّ يقرّ أنّ عمّار ابن ياسر و أشباهه لا مصلحة لهم في الإسلام إلا بقائه على ما كان يريده الله و رسوله الكريم . و قد صار عمّار و أشباهه من العبيد السابقين و المستضعفين عظماء في الإسلام . و هو مع علي أقرب الناس إلى مُثُل الإسلام الصحيحة .
قال عمّار يوم بيعة أبي بكر : ” يا معشر قريش و يا معشر المسلمين إنّ أهل نبيّكم أولى به ، فقد علمتم أنّ بني هاشم أولى بهذا الأمر منكم ، و علي أقرب إلى نبيكم ، و هو من بينكم وليكم بعهد الله و رسوله ” .
و من أقواله المشهورة أيام صفين
سيروا إلى الأحزاب أعداء النبي *** سيروا فخير الناس أتبــاع علي 8
و بدى تشيّع عمّار واضحاً على لسان قاتله معاوية الطليق ابن الطليق من بين طلقاء مكّة ، لمناسبة قتل مالك الأشتر : ” لقد كان لعلي يمينان فقطعت إحداهما بصفّين يعني عمّار بن ياسر ، و قطعت الأخرى اليوم يعني الأشتر ” 9 .
انتهت حياته في صفّين فتذكّر قبل وفاته قول النبي بأنّه ستقتله الفئة الباغية ، فعزم أن يضحّي بنفسه في صفّين ليدعم مركز علي بن أبي طالب قدوته و رئيسه ، على أمل أن ينتبه الناس إلى حقّ علي .
هؤلاء كلّهم يمثّلون طائفة ممن جعلت علياً هادياً لها ، و مرشداً و مرجعاً بعد النبي ، و كانت تنظر إليه أيام النبي على أنّه المرشح الوحيد لتولّي المنصب ؛ لقرابته القريبة و علومه الوافرة و ارتباطه بالمستضعفين الذين كان الإسلام درعاً و حامياً لهم من بطش قريش ، و كان مكانهم مع علي لأنّه يمثّل امتداد شخصية النبي ، ثّم إنّ علياً فقير مثلهم .
و غيرهم كثيرون ، فلا غرابة في أن يروي ابن كثير في بدايته أنّه كان في جيش عليّ ثمانون بدرياً و مائة و خمسون ممن بايع تحت الشجرة 10 .
و عليه يتّضح أنّ حركة التشيّع إنّما هي حركة المحافظة على الإسلام ، و مراقبة تطبيقه على الوجه الصحيح ، و أنّ أكثر الذين تمسّكوا بالتشيّع هم أصحاب المصلحة في بقاء الإسلام على ما أراده الله و رسوله ، و كانوا من المستضعفين و العبيد الغرباء الذين لا مصلحة لهم إلا أن يبقى الإسلام كما هو ، و يضاف إلى هؤلاء الأنصار الذين تبنّوا سياسة النبي في خلق مركز تجمّع و قوّة ينافس مركز مكّة القرشية ، و كانوا من أنصار علي إيماناً بالإسلام و إتباعاً لوصايا النبي ( صلى الله عليه و آله ) 11 .
- 1. محمّد الحسين آل كاشف الغطاء ، أصل الشيعة وأصولها : 143 .
- 2. ابن هشام ، السيرة النبوية ، في حديث إسلام سلمان 1 : 251ـ258 .
- 3. على سامي النشار ، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ، دار المعارف : 3 / 90 .
- 4. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 34، الصفحة: 192.
- 5. يوسف السيد هاشم الرفاعي ، أدلة أهل السنة و الجماعة ، الكويت ، الطبعة الأولى ، 1984 : 44 . انظر أيضاً علي سامي النشار ، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام : 3 / 90 .
- 6. أبو الفداء الحافظ ابن كثير الدمشقي ، البداية و النهاية ، دار الفكر ، بيروت : 5 / 418 .
- 7. ابن كثير ، البداية و النهاية : 5 / 418 . أيضاً ابن الأثير ، الكامل في التاريخ : 3 / 157 .
- 8. محمّد جواد مغنية ، الشيعة في الميزان : 100 .
- 9. ابن الأثير ، الكامل في التاريخ : 3 / 178 .
- 10. ابن كثير ، البداية و النهاية : 5 / 353 .
- 11. كتاب مصدر التشريع عند مذهب الجعفرية ، للكاتب محمد باب العلوم : 34 ـ 41 .