عندما نتأمل في كلمات الإمام الحسين ومواقفه منذ بداية نهضته المباركة إلى حين استشهاده سلام الله عليه، فإننا نستخلص فوائد كثيرة، سنبين جملة منها في هذه المحاضرة والمحاضرات الآتية إن شاء الله تعالى.
ومن كلماته سلام الله عليه ما قاله لما دعاه والي المدينة الوليد بن عتبة، فأخبره بموت معاوية واستخلاف يزيد، وطلب منه أن يبايع يزيد.<img alt="
فقال الإمام الحسين: إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومحل الرحمة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجل فاسق، شارب للخمر، قاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننتظر وتنتظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة.
وفي هذه الكلمات المباركة بيان لعدة أمور مهمة:
1. بيان مقامات أهل البيت
فإن الإمام الحسين سلام الله عليه أوضح أنه من أهل بيت النبوة، إذ لا خلاف بين أحد من المسلمين إلا من شذ منهم ممن لا يعتنى به أن الإمام الحسين من جملة أهل البيت، الذين هم أحد الثقلين اللذين خلفهما النبي لهذه الأمة، وأمر المسلمين باتباعهما والتمسك بهما، وهم الكتاب وعترته أهل بيته الذين نصَّ الكتاب العزيز على أن الله تعالى أذهب عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً في قوله تعالى: ﴿ … إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ 1.
وقد أوضح الإمام الحسين أن أهل البيت هم معدن الرسالة، ومعدن الشيء هو مستقرّه، ومعدن كل شيء مركزه وقطبه.
فيكون المراد بأن أهل البيت معدن الرسالة هو أن الرسالة وهي النبوة فيهم استقرت؛ لأن النبي هو رأس أهل البيت، والرسالة كانت فيه، أو أن المراد بكونهم معدن الرسالة هو أن أهل البيت هم قطب الرحى للرسالة؛ لأنهم هم الحافظون للشريعة والمبيِّنون لأحكام الله تعالى.
وكلمة الإمام الحسين قد اشتملت على بيان أن أهل البيت هم أيضاً مختلف الملائكة، أي أن بعض ملائكة الله تعالى تختلف إليهم، أي تتردد عليهم، وهذا لا يستلزم القول بنبوّتهم؛ لأنه لا ملازمة بين النبوة وتكليم الملائكة، فليس كل من تردَّدت عليه الملائكة أو كلمته كان نبيًّا، ومن المعلوم أن الملائكة كلمت مريم بنت عمران عليها السلام، كما أخبر بذلك سبحانه حيث قال: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ 2.
وقال تعالى: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ 3. مع أن مريم بنت عمران ليست بنبيّة.
كما أن أهل السنة ذكروا في كتبهم أن بعض الصحابة وهو عمران بن حصين كانت الملائكة تختلف إليه وكان يصافحهم ويصافحونه، فلما اكتوى لم تأت إليه كما روى ذلك مسلم في صحيحه 2/899.
فإذا كان هذا الصحابي تختلف إليه الملائكة، ويصافحهم ويصافحونه، وهو أقل شأناً من أهل البيت، فمن الإجحاف إنكار اختلاف الملائكة على واحد مثل سيد شباب أهل الجنة سلام الله عليه، أو استبعاد حصوله.
وقد بيَّن الإمام الحسين أيضاً في كلمته السابقة أن أهل البيت هم «محل الرحمة»، أي أنهم مظهر رحمة الله تعالى، لأنهم أرحم الناس بهذه الأمة، وقد ضربوا سلام الله عليهم المثل الأعلى في الرحمة حتى رحموا أعداءهم فضلاً عن أوليائهم وشيعتهم.
أو أن المراد هو أنهم سلام الله عليهم بهم يرحم الله تعالى عباده، فقد ورد في الأخبار المروية عن الأئمة الأطهار أنه لولا الإمام لساخت الأرض بأهلها، وفي بعض آخر: لولا الإمام لماجت الأرض بأهلها كما يموج البحر بأهله4.
ثم إن الإمام الحسين سلام الله عليه قال: (بنا فتح الله وبنا ختم)، أي أن الله تعالى فتح الخير على هذه الأمة برسول الله الذي هو رأس أهل البيت، وبه ختم: أي أن الله تعالى جعل نبينا هو خاتم الأنبياء والمرسلين.
أو أن المراد هو أن الله تعالى فتح الخير على هذه الأمة برسول الله، وسيختم الخير بمهدي هذه الأمة الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، ويُرجع الإسلام كما كان غضًّا طريًّا.
2. بيان صفات يزيد وأنه ليس صالحاً للخلافة
بعد أن أوضح الإمام الحسين سلام الله عليه مقام أهل البيت ثنى بالكلام حول يزيد بن معاوية، فوصفه بأنه رجل فاسق.
والفاسق هو كل مكلف فعل محرماً أو ترك واجباً من غير عذر، ولم تحصل منه توبة عن ذلك.
ولكن ربما يُتساءل فيقال: إن يزيد بما أنه نصب العداء لأهل البيت فقد يقال بكفره، فإنه قتل الإمام الحسين، وهدم الكعبة واستباح المدينة، وكل واحد من هذه الأمور كاف للحكم بكفر فاعله.
ولعل السبب في وصفه بالفسق مع كفره هو أن الكافر يصح أن يوصف بأنه فاسق؛ لأنه يرتكب المحرمات ويترك الواجبات، وقد وصف الله تعالى المنافقين الذين هم كفار في الحقيقة بأنهم فاسقون، فقال سبحانه: ﴿ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ 5.
أو لعل يزيد في ذلك الوقت لم يصدر منه بعدُ شيء من تلك الأمور العظيمة المستوجبة للكفر، فلهذا لم يصفه الإمام الحسين بالكفر، وإنما وصفه بالفسق لارتكابه أموراً كثيرة مفسقة، مثل شرب الخمر، وقتل النفس المحرَّمة.
وكلام الإمام الحسين يشعر بأن يزيد بن معاوية كان قد اشتهر عنه في زمان معاوية الفسق والمجون والاستخفاف بأحكام الله تعالى؛ فإنه لم يكن يتستر بأفعاله تلك أو يتكتم بها، ولهذا وصفه بأنه معلن بالفسق.
ومن الكلام السابق الذي قاله الإمام الحسين سلام الله عليه يتبين أنه عقد مقارنة بينه وبين يزيد بن معاوية، وأوضح بتلك المقارنة أنه هو الأولى بالخلافة والأحق بها.
3. بيان أن إمام الحق لا يبايع إمام الضلال
ذكر الإمام الحسين في كلمته التي استفتحنا بها البحث قاعدتين مهمتين مرتبطتين بالخلافة:
القاعدة الأولى: أن إمام الحق لا يبايع إمام الضلال
وهذه القاعدة أوضحها بقوله: (ومثلي لا يبايع مثله)، فإنه لم يقل: (وأنا لا أبايع يزيد)، وإنما أوضح أن من كان مثل الإمام الحسين من أئمة الهدى، لا يصح له أن يبايع إماماً مثل يزيد؛ لأن البيعة هي المعاقدة والمعاهدة على السمع والطاعة والاتباع، وإمام الضلال لا يجوز اتباعه، ولا طاعته؛ لأنه لا يأمر إلا بالظلم والجور، ولا يدعو إلا إلى الباطل والضلال.
وبهذا نفهم أن كل أئمة أهل البيت لو كانوا في زمان الإمام الحسين لما بايعوا يزيد بن معاوية، ولم يثبت صحيحاً أن إماماً من أئمة الهدى بايع واحداً من خلفاء زمانه، ومن بايع واحداً منهم فإنما بايع مكرها لا مختاراً كما ورد في بعض الروايات.
وأما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فإن بعض الأحاديث دلت على أنه لم يبايع في بداية الأمثر، ثم بايع أبا بكر مكرهاً بعد الحوادث العظيمة التي جرت في بدايات الأمر.
مع أن من اطلع على التاريخ يجد أن أمير المؤمنين لم يكن يتبع أبا بكر وعمر وعثمان، وإنما كان أبو بكر وعمر وعثمان يستشيرون أمير المؤمنين ويأخذون بقوله، ويتبعون رأيه، حتى قال عمر بن الخطاب فيما اشتهر عنه في أكثر من سبعين موضعاً كما قيل: «لولا علي لهلك عمر»، وقال: «لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن».
فإذا كان الأمر كذلك فإن السمع والطاعة والاتباع لم تتحقق من أمير المؤمنين للخلفاء السابقين له، فلم تتحقق منه بيعة حقيقية، وإن حصلت بيعة صورية بالإكراه.
القاعدة الثانية: وجوب بيعة الفاضل دون المفضول
وهذه القاعدة أوضحها الإمام الحسين بقوله: (ولكن نصبح وتصبحون، وننتظر وتنتظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة).
وهي قاعدة عقلية، فإنه لا يصح من الحكيم جلَّ وعلا أن يقدّم المفضول على الفاضل؛ لأن ذلك قبيح عقلاً ونقلاً.
وقد ورد في بعض الأخبار المروية عن رسول الله) أنه قال: ما ولت أمّة أمرها رجلاً وفيهم من هو أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا إلى ما تركوا6.
ولهذا فإن الأمة لما تركت اختيار الأفضل انحدرت في مهاوي التخلف والجهل والانحطاط إلى يومنا هذا.
والغريب أن الناس بايعوا يزيد بن معاوية، وتركوا من أمروا ببيعته واتباعه وهو سيد شباب أهل الجنة، بل إن الناس نصروا يزيد بن معاوية المتجاهر بالفسق والفجور، وحاربوا الإمام الحسين الذي لم يكن يدانيه في عصره رجل في فضل ولا منزلة7.
- 1. القران الكريم: سورة الأحزاب (33)، الآية: 33، الصفحة: 422.
- 2. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 42 و 43، الصفحة: 55.
- 3. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 45، الصفحة: 55.
- 4. الكافي 1/179.
- 5. القران الكريم: سورة المنافقون (63)، الآية: 6، الصفحة: 555.
- 6. أمالي الشيخ الطوسي: 560.
- 7. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ علي ال محسن حفظه الله.