نهض عمر بن سعد إلى الحسين (عليه السّلام) عشية يوم الخميس لتسع مضين من المحّرم، وجاء شمر حتّى وقف على أصحاب الحسين (عليه السّلام) فقال: أين بنو اُختنا؟ -يعني العباس وجعفر وعبد الله وعثمان أبناء عليّ (عليه السّلام)-. فقال الحسين (عليه السّلام): “أجيبوه وإن كان فاسقاً؛ فإنّه بعض أخوالكم”. وذلك أنّ اُمّهم اُمّ البنين كانت من بني كلاب وشمر بن ذي الجوشن من بني كلاب أيضاً.
فقالوا له: ما تريد؟
فقال لهم: أنتم يا بني اُختي آمنون فلا تقتلوا أنفسكم مع أخيكم الحسين والزموا طاعة يزيد.
فقالوا له: لعنك الله ولعن أمانك! أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له؟
وناداه العباس ابن أمير المؤمنين: تبّت يداك، ولعن ما جئتنا به من أمانك يا عدوّ الله! أتأمرنا أن نترك أخانا وسيّدنا الحسين بن فاطمة وندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء؟!
ثمّ نادى عمر بن سعد: يا خيل الله اركبي وبالجنّة أبشري. فركب النّاس ثمّ زحف ابن سعد نحوهم بعد العصر والحسين (عليه السّلام) جالس أمام بيته محتبٍ بسيفه، إذ خفق برأسه على ركبتيه، فسمعت اُخته زينب الصّيحة، فدنت من أخيها وقالت: يا أخي، أما تسمع هذه الأصوات قد اقتربت؟
فرفع الحسين (عليه السّلام) رأسه فقال: “إنّي رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) السّاعة في المنام فقال: إنّك تروح إلينا”.
فلطمت اُخته وجهها، ونادت بالويل، فقال لها الحسين (عليه السّلام): “ليس لكِ الويل يا اُخيّة، اسكتي رحمك الله”.
وقال له العباس: يا أخي، أتاك القوم.
فنهض، ثمّ قال: “يا عباس، اركب -بنفسي يا أخي أنت- حتّى تلقاهم وتقول لهم: ما بالكم، وما بدا لكم؟ وتسألهم عمّا جاء بهم”.
فأتاهم في نحو من عشرين فارساً، منهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر، فسألهم، فقالوا: قد جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو نناجزكم.
قال: فلا تعجلوا حتّى أرجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم.
فوقفوا ورجع العباس إليه بالخبر، ووقف أصحابه يخاطبون القوم ويعظونهم، ويكفّونهم عن قتال الحسين (عليه السّلام).
فلمّا أخبره العباس بقولهم قال له: “ارجع إليهم، فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة، وتدفعهم عنّا العشية؛ لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة، وندعوه ونستغفره؛ فهو يعلم أنّي كنت اُحبّ الصّلاة له، وتلاوة كتابه، وكثرة الدعاء والاستغفار”.
فسألهم العباس ذلك، فتوقف ابن سعد، فقال له عمرو بن الحجّاج الزبيدي: سبحان الله! والله لو أنّهم من الترك أو الديلم وسألونا مثل ذلك لأجبناهم، فكيف وهم آل محمّد؟!
وقال له قيس بن الأشعث بن قيس: أجبهم، لعمري ليصبحنّك بالقتال. فأجابوهم إلى ذلك.
وجمع الحسين (عليه السّلام) أصحابه عند قرب المساء. قال الإمام زين العابدين (عليه السّلام): “فدنوت منه لأسمع ما يقول لهم، وأنا إذ ذاك مريض، فسمعت أبي يقول لأصحابه: اُثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السرّاء والضرّاء، اللهمّ إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوّة، وعلّمتنا القرآن، وفقّهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة فاجعلنا لك من الشّاكرين.
أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي خيراً، ألا وإنّي لأظنّ أنّه آخر يوم لنا من هؤلاء، ألا وإنّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم منّي ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً، وليأخذ كلّ واحد منكم بيد رجل من أهل بيتي، وتفرّقوا في سواد هذا الليل وذروني وهؤلاء القوم ؛ فإنّهم لا يُريدون غيري.
فقال له إخوته وأبناؤه، وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر: ولِمَ نفعل ذلك؟! لنبقى بعدك؟! لا أرانا الله ذلك أبداً. بدأهم بهذا القول أخوه العباس ابن أمير المؤمنين واتّبعه الجماعة عليه فتكلموا بمثله ونحوه.
ثمّ نظر إلى بني عقيل فقال: حسبكم من القتل بصاحبكم مسلم اذهبوا قد أذنت لكم.
قالوا: سبحان الله! فما يقول النّاس لنا، وما نقول لهم؟! إنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام، ولم نرم معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرِب معهم بسيف، ولا ندري ما صنعوا! لا والله ما نفعل ذلك، ولكنّنا نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا، ونقاتل معك حتّى نردَ موردك؛ فقبّح الله العيش بعدك.
وقام إليه مسلم بن عوسجة الأسدي فقال: أنحن نخلّي عنك وقد أحاط بك هذا العدّو؟! وبِمَ نعتذر إلى الله في أداء حقّك؟! لا والله لا يراني الله أبداً وأنا أفعل ذلك حتّى أكسر في صدورهم رمحي، وأضاربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، ولو لم يكن معي سلاح اُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ولم اُفارقك أو أموت معك.
وقام سعيد بن عبد الله الحنفي فقال: لا والله يابن رسول الله، لا نخلّيك أبداً حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا فيك وصيّة رسوله محمّد (صلّى الله عليه وآله)، والله لو علمت أنّي اُقتل فيك ثمّ أُحيا ثمّ اُحرق ثمّ اُذرّى يُفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حِمامي دونَك، وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ثمّ أنال الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً؟
وقام زهير بن القين وقال: والله يابن رسول الله، لوددت أنّي قُتلت ثمّ نُشرت ألف مرّة وأنّ الله تعالى يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن نفس هؤلاء الفتيان من إخوانك وولدك وأهل بيتك.
وتكلّم بقيّة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً وقالوا: أنفسنا لك الفداء، نقيك بأيدينا ووجوهنا، فإذا نحن قُتلنا بين يديك نكون قد وفينا لربّنا، وقضينا ما علينا”1.
وأمر الحسين (عليه السّلام) أصحابه أن يُقرّبوا بين بيوتهم، ويُدخلوا الأطناب بعضها في بعض، ويكونوا بين يدي البيوت؛ كي يستقبلوا القوم من وجه واحد، والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم قد حفّت بهم إلاّ الوجه الذي يأتيهم منه عدوّهم.
وقام الحسين (عليه السّلام) وأصحابه الّليل كلّه يُصلّون ويستغفرون ويدعون، وباتوا ولهم دويّ كدويّ النحل ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد، فعبر إليهم في تلك الليلة من عسكر ابن سعد اثنان وثلاثون رجلاً.
قال بعض أصحاب الحسين (عليه السّلام): مرّت بنا خيل لابن سعد تحرسنا، وكان الحسين (عليه السّلام) يقرأ:﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ … ﴾ 2، فسمعها رجل من تلك الخيل يُقال له: عبد الله بن سمير، فقال: نحن وربّ الكعبة الطيّبون ميّزنا منكم.
فقال له برير بن خضير: يا فاسق، أنت يجعلك الله من الطيبين؟!
فقال له: مَنْ أنت ويلك؟!
قال: أنا برير بن خضير. فتسابّا، فلمّا كان وقت السّحر خفق الحسين (عليه السّلام) برأسه خفقة ثمّ استيقظ، فقال: “رأيت كأنّ كلاباً قد جهدت تنهشني، وفيها كلب أبقع رأيته أشدّها عليّ، وأظنّ أنّ الذي يتولّى قتلي رجلٌ أبرص”3.
يوم عاشوراء
انقضت ليلة الهدنة، وطلع ذلك اليوم الرهيب يوم عاشوراء، يوم الدم والجهاد والشّهادة، وطلعت معه رؤوس الأسنّة والرماح والأحقاد وهي مشرعة لتلتهم جسد الحسين (عليه السّلام)، وتفتك بدعاة الحقّ والثوّار من أجل الرسالة والمبدأ.
نظر الحسين (عليه السّلام) إلى الجيش الزاحف، ولم يزل (عليه السّلام) كالطود الشّامخ، قد اطمأنت نفسه، وهانت دنيا الباطل في عينه، وتصاغر جيش الباطل أمامه، ورفع يديه متضرّعاً إلى الله تعالى قائلاً: “اللهمّ أنت ثقتي في كلّ كَرْب، وأنت رَجائي في كلّ شِدّة، وأنت لي في كلّ أمر نَزَلَ بي ثقةٌ وعدَّةٌ، كم مِنْ همٍّ يَضْعَفُ فيه الفؤاد، وتقلّ فيه الحيلة، ويخذُلُ فيه الصّديق، ويشمت فيه العدوّ، أنزلته بك وشكوته إليك؛ رغبة منّي إليك عمّن سواك ففرّجته عنّي وكشفته، فأنت وليّ كلّ نعمة، وصاحب كلّ حسنة، ومنتهى كلّ رغبة”4.
خطاب الإمام (عليه السّلام) في جيش الكوفة
أخذ جيش عمر بن سعد يشدِّد الحصار على الإمام (عليه السّلام)، ولمّا رأى الحسين (عليه السّلام) كثرتهم وتصميمهم على قتاله إذا لم يستسلم ليزيد بن معاوية، تعمّم بعمامة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وركب ناقته، وأَخذ سلاحه، ثمّ دنا من معسكرهم بحيث يسمعون صوته وراح يقول: “يا أهل العراق -وجُلُّهُمْ يسمعون- فقال: أيّها النّاس، اسمعوا قولي ولا تعجلوا؛ حتّى أعظَكم بما يحقّ لكم عليَّ، وحتى أُعْذَرَ إليكم، فإن أعطيتموني النّصف كنتم بذلك أسعد، وإن لم تعطوني النّصف من أنفسكم فاجمعوا رأيكم ثمّ لا يكن أمركم عليكم غُمَّةً، ثمّ اْقضوا إليَّ ولا تُنظِرونِ﴿ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ﴾ 5”.
ثمّ حمد الله وأثنى عليه، وذكر الله تعالى بما هو أهله، وصلّى على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وعلى ملائكته وأنبيائه، فَلَمْ يُسْمَعْ متكلمٌ قطّ قبلَه ولا بعدَه أبلغُ في منطق منه.
ثمّ قال: “أمّا بعد، فانسبوني فانظروا مَنْ أنا، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاكُ حُرمتي؟! ألَسْتُ ابنَ بنتِ نبيّكم وابنَ وصيِّه وابن عمّه، وأوّل المؤمنين المصدّق لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) بما جاء به من عند ربّه؟! أوَ ليس حمزةُ سيدُ الشهداء [عمّ أبي]؟! أوَ ليس جعفر الطيار في الجّنة بجناحين عَمّي؟! أو لم يبلغكم ما قال رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله) لي ولأخي: هذانِ سيّدا شباب أهل الجّنة؟ فإنْ صدقتموني بما أقول -وهو الحق- فوالله ما تعمدتُ كذباً منذ علمت أن الله يَمْقُتُ عليه أهله، وإنْ كذبتموني فإنَّ فيكم مَنْ إذا سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبا سعيد الخِدْري، وسهل بنَ سعد السّاعدي، وزيد بن أرقم، وأنسَ بن مالك يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟!”
ثمّ قال لهم الإمام الحسين (عليه السّلام): “فإن كنتم في شكّ من هذا فتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم؟! فوالله ليس ما بين المشرق والمغرب ابنُ بنتِ نبيّ غيري فيكم ولا في غيركم. ويحكم! أتطلبونني بقتيل منكم قَتَلْتُه، أو مال لكم استهلكته، أو بقصاص جراحة؟!”
فأخذوا لا يكلمونه، فنادى: “يا شبث بن ربعي، ويا حجّار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا يزيد بن الحارث، ألَمْ تكتبوا إليَّ أنْ قد أينعت الثمار، واْخضرّ الجَنابُ، وإنما تقدِم على جند لك مجندة؟!”.
فقال له قيس بن الأشعث: ما ندري ما تقول، ولكن اِنزل على حكم بني عمّك. فقال له الحسين (عليه السّلام): “لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرُّ فِرار العبيد”.
ثمّ نادى: “يا عبادَ الله، إنّي عذْتُ بربّي ورَبِّكم أنْ ترجمُونِ. أعوذ بربّي وربّكم من كلّ متكبر لا يؤمن بيوم الحساب”6.
لقد أبى القوم إلاّ الإصرار على حربه والتمادي في باطلهم، وأجابوه بمثل ما أجاب به أهل مدين نبيَّهم كما حكى الله (عزّ وجلّ) عنهم في كتابه الكريم:﴿ … مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا … ﴾ 7.
الحرّ يُخيّر نفسه بين الجّنة والنّار
وتأثر الحرّ بن يزيد الرياحي بكلمات الإمام الحسين (عليه السّلام) وندم على ما سبق منه معه، وراح يدنو بفرسه من معسكر الحسين تارة ويعود إلى موقفه أخرى، وبدا عليه القلق والاضطراب. وعند ما سُئل عن السّبب في ذلك قال: والله، إنّي أُخيِّرُ نفسي بين الجّنة والنّار، وبين الدنيا والآخرة، ولا ينبغي لعاقل أن يختار على الآخرة والجنّة شيئاً.
ثمّ ضرب فرسه والتحق بالحسين (عليه السّلام)، ووقف على باب فسطاطه، فخرج إليه الحسين (عليه السّلام)، فانكبَّ عليه الحرّ يُقبّل يديه ويسأله العفو والصّفح، فقال له الحسين (عليه السّلام): “نعم، يتوب الله عليك وهو التّواب الرحيم”.
فقال له الحرّ: والله لا أرى لنفسي توبة إلاّ بالقتال بين يديك حتّى أموتَ دونك.
وخطب الحرّ في أهل الكوفة، فوعظهم وذكّرهم موقفهم من الإمام (عليه السّلام)، ودعوتهم له، وحثّهم على عدم مقاتلة الإمام (عليه السّلام)، ثمّ مضى إلى الحرب فتحاماه النّاس، ثمّ تكاثروا عليه حتّى استشهد 8.
المعركة الخالدة
حصّن الإمام (عليه السّلام) مخيّمه، وأحاط ظهره بخندق أوْقَد فيه النار؛ ليمنع المباغتة والالتفاف عليه من الخلف، وليحميَ النساء والأطفال من العدوان المحقّق.
نظر شمر بن ذي الجوشن إلى النار في الخندق فصاح: يا حسينُ، تعجّلت النار قبل يوم القيامة.
فردّ عليه: “أنت أولى بها صِلِيّاً”9.
وحاول صاحب الحسين (عليه السّلام) مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم، فاعترضه الإمام ومنعه قائلاً: “لا ترمه؛ فإنّي أكره أن أبدأهم”10.
ويقول المؤرخون: إنّ بعض أصحاب الإمام خطب بالقوم بعد خطبة الإمام الاُولى، وإنّ الإمام (عليه السّلام) أخذ مصحفاً ونشره على رأسه ووقف بإزاء القوم، فخاطبهم للمرّة الثانية بقوله: “يا قوم، إنّ بيني وبينكم كتاب الله، وسنّة جدّي الحسين (عليه السّلام)، والإمام الحسين (عليه السّلام) يحاور وينصح ويدفع القوم بالتي هي أحسن. ولمّا لم يجدِ النصح مجدياً قال لا ابن سعد: “أيْ عمر، أتزعم أنّك تقتلني ويولّيك الدعيّ بلاد الرّيّ وجرجان؟ والله لا تتهنّأ بذلك، عهد معهود، فاصنع ما أنت صانع؛ فإنّك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة، وكأنّي برأسك على قصبة يتراماه الصبيان بالكوفة، ويتخذونه غرضاً بينهم”.
فصرف ابن سعد وجهه عنه مغضباً18.
واستحوذَ الشّيطان على ابن سعد فوضع سهمه في كبد قوسه ثمّ رمى باتجاه معسكر الحسين (عليه السّلام) وقال: اشهدوا أنّي أوّلُ مَنْ رمى. ثمّ ارتمى النّاس وتبارزوا19.
فخاطب الإمام (عليه السّلام) أصحابه قائلاً: “قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لا بدّ منه؛ فإنّ هذه السّهام رسل القوم إليكم”20.
فتوجهوا إلى القتال كالأُسود الضارية لا يبالون بالموت، مستبشرين بلقاء الله (جلّ جلاله)، وكأنّهم رأوا منازلهم مع النّبيين والصّديقين وعباده الصّالحين، وكان لا يُقتل منهم أحد حتّى يقول: السّلام عليك يا أبا عبد الله، ويوصي أصحابه بأن يفدوا الإمام بالمهج والأرواح، واحتدمت المعركة بين الطرفين، (فكان لا يُقْتَلُ الرجل من أنصار الحسين (عليه السّلام) حتّى يَقْتل العشرة والعشرين)21.
استمرت رحى الحرب تدور في ساحة كربلاء، واستمر معه شلاّل الدم المقدّس يجري ليتّخذ طريقه عبر نهر الخلود، وأصحابُ الحسين (عليه السّلام) يتساقطون الواحد تلو الآخر، وقد أثخنوا جيش العدو بالجراح، وأرهقوه بالقتل، فتصايح رجال عمر بن سعد: لو استمرت الحرب برازاً بيننا وبينهم لأتوا على آخِرنا، لنهجم عليهم مرّة واحدة، ولنرشقهم بالنّبال والحجارة.
فبدأ الهجوم والزحف نحو مَنْ بقي مع الحسين (عليه السّلام)، وأحاطوا بهم من جهات متعدّدة، مستخدمين كلّ أدوات القتل وأساليبه الدنيئة حتّى قتلوا أكثر جنود المعسكر الحسيني من الصحابة.
وزالت الشّمس وحضر وقت الصّلاة، وها هو الحسين (عليه السّلام) ينادي للصّلاة، وقد تحوّل الميدان عنده محراباً للجهاد والعبادة، ولم يكن في مقدور السّيوف والأسنّة أن تحول بينه وبين الحضور في ساحة المناجاة والعروج إلى حظائر القدس وعوالم الجمال والجلال.
ولم يزل يتقدّم رجل رجل من أصحابه فيقتل حتّى لم يبقَ مع الحسين (عليه السّلام) إِلاّ أهل بيته خاصّةً؛ فتقدّم ابنه عليّ بن الحسين (عليه السّلام) -واُمّه ليلى بنت أبي مرّة بن عروة بن مسعود الثّقفيّ- وكان من أصبح النّاس وجهاً،
فشدَّ على النّاس وهو يقول:
أنا عليُّ بن الحسين بن علي *** نحن وبيت الله أولى بالنَّبي
تالله لا يحكم فينا ابنُ الدَّعي
ففعل ذلك مراراً وأهل الكوفة يتَّقون قتله، فبصر به مرّة بن منقذ العبديّ فقال: عليَّ إثم العرب إن مرَّ بي يفعل مثل ذلك إن لم أثكل أباه. فمرَّ يشدُّ على النّاس كما مرَّ في الأوّل، فاعترضه مرّة بن منقذ فطعنه فصُرع، واحتوشه القومُ فقطّعوه بأسيافهم، فجاء الحسين (عليه السّلام) حتّى وقف عليه فقال: “قتل الله قوماً قتلوك يا بُنيَّ، ما أجرأَهم على الرّحمن وعلى انتهاك حرمة الرّسول!”. وانهملت عيناه بالدُّموع، ثمّ قال: “على الدُّنيا بعدك العفا!”.
وخرجت زينب أخت الحسين مسرعةً تنادي: يا أُخيّاه وابن أُخيّاه، وجاءت حتّى أكبّت عليه، فأخذ الحسينُ برأسها فردَّها إلى الفسطاط، وأمر فتيانه فقال: “احملوا أخاكم”. فحملوه حتّى وضعوه بين يدي الفسطاط الّذي كانوا يقاتلون أمامه.
ثمّ رمى رجلٌ من أصحاب عمر بن سعد يُقال له: عمرو بن صبيح عبد الله بن مسلم بن عقيل (رحمه الله) بسهم، فوضع عبد الله يده على جبهته يتّقيه، فأصاب السّهم كفَّه ونفذ إلى جبهته فسمّرها به فلم يستطع تحريكها، ثمّ انتحى عليه آخر برمحه فطعنه في قلبه فقتله.
وحمل عبد الله بن قُطبة الطائي على عون بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه) فقتله.
وحمل عامر بن نهشل التّيميّ على محمّد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه) فقتله.
وشدَّ عثمان بن خالد الهمدانيّ على عبد الرّحمن بن عقيل بن أبي طالب (رضي الله عنه) فقتله.
قال حميد بن مسلم: فإنّا لكذلك إذ خرج علينا غلام كأنَّ وجهه شقَّة قمر، في يده سيف وعليه قميص وإزار ونعلان قد انقطع شسع إحداهما، فقال لي عمر بن سعيد بن نفيل الأزديّ: والله لأشدَّنَّ عليه. فقلت: سبحان الله! وما تريد بذلك؟! دعه يكفيكه هؤلاء القوم الّذين ما يبقون على أحد منهم. فقال: والله لأشدَّنَّ عليه، فشدَّ عليه فما ولّى حتّى ضرب رأسه بالسّيف ففلقه، ووقع الغلام لوجهه فقال: يا عمّاه، فجلى22 الحسين (عليه السّلام) كما يجلي الصقر، ثمّ شدَّ شدّة ليث أُغضب، فضرب عمر بن سعيد بن نفيل بالسّيف فاتّقاها بالسّاعد فأطنَّها من لدن المرفق، فصاح صيحة سمعها أهل العسكر، ثمّ تنحّى عنه الحسين (عليه السّلام)، وحملت خيل الكوفة لتستنقذه فوطأته بأرجلها حتّى مات.
وانجلت الغبرة فرأيت الحسين (عليه السّلام) قائماً على رأس الغلام وهو يفحص برجله، والحسين يقول: “بُعداً لقوم قتلوك، ومَنْ خصمهم يوم القيامة فيك جدُّك”. ثمّ قال: “عزَّ -والله- على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك فلا ينفعك، صوت -والله- كثرَ واتروه، وقلَّ ناصروه”.
ثمّ حمله على صدره، فكأنِّي أنظر إلى رجلي الغلام تخطّان الأرض، فجاء به حتّى ألقاه مع ابنه عليِّ بن الحسين والقتلى من أهل بيته، فسألت عنه فقيل لي: هو القاسم بن الحسن بن عليِّ بن أبي طالب (عليهم السّلام).
ثمّ جلس الحسين (عليه السّلام) أمام الفسطاط، فاُتي بابنه عبد الله بن الحسين وهو طفل فأجلسه في حجره، فرماه رجل من بني أسد بسهم فذبحه، فتلقّى الحسين (عليه السّلام) دمه، فلمّا ملأ كفَّه صبَّه في الأرض ثمّ قال: “ربّ إن تكن حبست عنّا النّصر من السّماء فاجعل ذلك لما هو خير، وانتقم لنا من هؤلاء القوم الظّالمين”.
ثمّ حمله حتّى وضعه مع قتلى أهله. ورمى عبد الله بن عقبة الغنويّ أبابكر بن الحسن بن عليِّ بن أبي طالب (عليهم السّلام) فقتله.
فلمّا رأى العبّاس بن عليّ (رحمة الله عليه) كثرة القتلى في أهله قال لإخوته من اُمِّه، وهم عبد الله وجعفر وعثمان: يا بني اُمِّي، تقدّموا حتّى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله…
فتقدّم عبد الله فقاتل قتالاً شديداً، فاختلف هو وهانئ بن ثبيت الحضرميّ ضربتين فقتله هانئ (لعنه الله). وتقدّم بعده جعفر بن عليّ (عليه السّلام) فقتله أيضاً هانئ. وتعمّد خوليُّ بن يزيد الأصبحيّ عثمان بن عليّ (عليه السّلام) وقد قام مقام إخوته، فرماه بسهم فصرعه، وشدَّ عليه رجل من بني دارم فاحتزَّ رأسه.
وحملت الجماعة على الحسين (عليه السّلام) فغلبوه على عسكره، واشتدَّ به العطش، فركب المسنّاة23 يريد الفرات وبين يديه العبّاس أخوه، فاعترضته خيل ابن سعد، وفيهم رجل من بني دارم، فقال لهم: ويلكم! حولوا بينه وبين الفرات ولا تمكِّنوه من الماء.
فقال الحسين (عليه السّلام): “اللهمّ أظمئه”.
فغضب الدّارميُّ ورماه بسهم فأثبته في حنكه، فانتزع الحسين (عليه السّلام) السّهم وبسط يده تحت حنكه فامتلأت راحتاه بالدَّم، فرمى به ثمّ قال: “اللهمَّ إنِّي أشكو إليك ما يُفعل بابن بنت نبيِّك”. ثمّ رجع إلى مكانه وقد اشتدَّ به العطش.
استشهاد الإمام الحسين (عليه السّلام)
لم يبقَ مع الإمام الحسين (عليه السّلام) سوى أخيه العباس الذي تقدّم إليه يطلب منه الإذن في قتال القوم فبكى الحسين وعانقه، ثمّ أذن له فكان يحمل على أهل الكوفة فينهزمون بين يديه كما تنهزم المعزى من الذئاب الضارية وضجّ أهل الكوفة من كثرة مَنْ قُتل منهم، ولمّا قُتل قال الحسين (عليه السّلام): “الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي، وشمت بي عدوّي”24.
وفي رواية اُخرى: إنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) اتجه إلى نهر الفرات وبين يديه أخوه العباس، فاعترضته خيل ابن سعد (لعنه الله)، وفيهم رجل من بني دارم، فقال لهم: ويلكم! حولوا بينه وبين الفرات ولا تمكّنُوهُ من الماء.
فقال الحسين (عليه السّلام): “اللهمّ أظمئه”.
فغضب الدارمي ورماه بسهم فأثبته في حنكه، فانتزع الحسين (عليه السّلام) السّهم، وبسط يده تحت حنكه فامتلأت راحتاه من الدم، فرمى به ثمّ قال: “اللهمّ إنّي أشكو إليك ما يُفعل بابن بنت نبيّك”.
ثمّ رجع إلى مكانه وقد اشتدّ به العطش، وأحاط القوم بالعبّاس (عليه السّلام) فاقتطعوه عنه، فجعل يقاتلهم وحده حتّى قُتل (رحمة الله عليه)25.
ونظر الحسين (عليه السّلام) إلى ما حوله، ومدّ ببصره إلى أقصى الميدان فلم يرَ أحداً من أصحابه وأهل بيته إلاّ وهو يسبح بدم الشهادة، مقطّعَ الأوصال والأعضاء.
وهكذا بقي الإمام (عليه السّلام) وحده يحمل سيف رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وبين جنبيه قلب علي (عليه السّلام)، وبيده راية الحقّ البيضاء، وعلى لسانه كلمة التقوى.
الحسين (عليه السّلام) وحيداً في الميدان
حينما التفت أبو عبد الله الحسين (عليه السّلام) يميناً وشمالاً ولم يرَ أحداً يذبّ عن حرم رسول الله أخذ ينادي: “هل من ذابٍّ يذبّ عنا؟” فخرج الإمام زين العابدين(عليه السّلام) من الفسطاط، وكان مريضاً لا يقدر أن يحمل سيفه واُمّ كلثوم تنادي خلفه: يا بُني ارجع. فقال: “يا عمّتاه، ذريني اُقاتل بين يدي ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)”.
وإذا بالحسين (عليه السّلام) ينادي: “يا اُمّ كلثوم، خذيه لئلاّ تبقى الأرض خالية من نسل آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)”26.
ويقول المؤرخون: إنّه لما رجع الحسين (عليه السّلام) من المسنّاة إلى فسطاطه تقدّم إليه شمر بن ذي الجوشن في جماعة من أصحابه فأحاطوا به، فأسرع منهم رجل يُقال له: مالك بن النسر الكندي فشتم الحسين (عليه السّلام)، وضربه على رأسه بالسيف، وكان عليه قلنسوة فقطعها حتّى وصل إلى رأسه فأدماه، فامتلأت القلنسوة دماً، فقال له الحسين (عليه السّلام): “لا أكلت بيمينك ولا شربت بها، وحشرك الله مع القوم الظالمين”.
ثمّ ألقى القلنسوة ودعا بخرقة فشدَّ بها رأسَه، واستدعى قلنْسوة اُخرى فلبسها واعتمّ عليها، ورجع عنه شمر بن ذي الجوشن ومَنْ كان معه إلى مواضعهم، فمكث هنيئة ثمّ عاد وعادوا إليه وأحاطوا به27.
حمل الإمام الحسين (عليه السّلام) سيفه وراح يرفع صوته على عادة الحروب ونظامها في البراز، وراح ينازل فرسانهم، ويواجه ضرباتهم ببسالة نادرة وشجاعة فذّة، فما برز إليه خصم إلاّ وركع تحت سيفه ركوع الذلّ والهزيمة.
قال حميد بن مسلم: فوالله، ما رأيت مكثوراً قطّ قد قُتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً ولا أمضى جناناً منه! أَن كانت الرجّالة لتشدّ عليه فيشدَّ عليها بسيفه فتنكشف عن شماله انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب28.
ولمّا عجزوا عن مقاتلته لجأوا إلى أساليب الجبناء ؛ فقد استدعى شمر الفرسان فصاروا في ظهور الرجّالة، وأمر الرماة أنْ يرموه، فرشقوه بالسّهام حتّى صار جسمُه كالقنفذ فأحجم عنهم، فوقفوا بإزائه، وخرجت أُخته زينب إلى باب الفسطاط فنادت عمر بن سعد بن أبي وقاص: ويلك يا عمر! أيُقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟!
فلم يجبها عمر بشيء، فنادت: ويحكم! أما فيكم مسلم؟! فلم يجبها أحد بشيء، ونادى شمر بن ذي الجوشن الفرسان والرجّالة فقال: ويحكم! ما تنتظرون بالرجل؟ ثكلتكم أُمهاتكم!
فحملوا عليه من كلّ جانب؛ فضربه زُرعة بن شريك على كتفه اليسرى فقطعها، وضربه آخر منهم على عاتقه فكبا منها لوجهه، وطعنه سنان بن أنس النخعي بالرمح فصرعه، وبدر إليه خُولى بن يزيد الأصبحي فنزل ليحتزّ رأسه فأرعد، فقال له شمر: فتَّ الله في عضدك، ما لك ترعد؟!
ونزل شمر إليه فذبحه، ثمّ رفع رأسه إلى خولى بن يزيد فقال: احمله إلى الأمير عمر بن سعد.
ثمّ أقبلوا على سلب الحسين (عليه السّلام) فأخذ قميصه إِسحاق بن حَيْوَة الحضرمي، وأخذ سراويله أبجر بن كعب، وأخذ عمامته أخنس بن مرثد، وأخذ سيفه رجل من بني دارم، وانتهبوا رحله وإبله وأثقاله وسلبوا نساءه29.
امتداد الحمرة في السّماء
ومادت الأرض، واسودَّتْ آفاق الكون، وامتدت حمرة رهيبة في السّماء كانت نذيراً من الله لاُولئك السفّاكين المجرمين الذين انتهكوا جميع حُرُماتِ الله30.
وصبغ فرس الحسين (عليه السّلام) ناصيته بدم الإمام الشّهيد المظلوم، وأقبل يركض مذعوراً نحو خيام الحسين (عليه السّلام)؛ ليعلم العيال بمقتله واستشهاده.
وقد صوّرت زيارة الناحية المقدّسة هذا المشهد المأساوي كما يلي: “فلمّا نظرت النساء إلى الجواد مخزيّاً، والسّرج عليه ملويّاً؛ خرجن من الخدور ناشرات الشعور، على الخدود لاطمات، وللوجوه سافرات، وبالعويل داعيات، وبعد العزّ مذَلَّلات، وإلى مصرع الحسين مبادرات”.
ونادت عقيلة بني هاشم زينب بنت عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) وهي ثكلى: وا محمداه! وا أبتاه! وا علياه! وا جعفراه! وا حمزتاه! هذا حسين بالعراء، صريع بكربلاء، ليت السّماء أُطبقت على الأرض! وليت الجبال تدكدكت على السّهل31!
حرق الخيام وسلب حرائر النبوة
وعمد المجرمون اللئام إلى حرق خيام الإمام أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) غير حافلين بمَنْ في الخيام من بنات الرسالة وعقائل النبوّة. قال الإمام زين العابدين (عليه السّلام): “والله، ما نظرت إلى عمّاتي وأخواتي إلاّ وخنقتني العبرة، وتذكّرت فرارهن يوم الطفّ من خيمة إلى خيمة، ومن خباء إلى خباء، ومنادي القوم ينادي: أحرقوا بيوت الظالمين”32.
وعمد أراذل جيش الكوفة إلى سلب حرائر النبوّة وعقائل الرسالة، فنهبوا ما عليهنّ من حليّ وحلل، كما نهبوا ما في الخيام من متاع.
الخيل تدوس الجثمان الطاهر
لقد بانت خِسّة الاُمويّين لكلّ ذي عينين، وعبّرت عن مسخفي الوجدان الذي كانوا يحملونه، وماتت الإنسانيّة فتحوّلت الأجساد المتحركة إلى وحوش دنيئة لا تملك ذرّة من رحمة، ولا يزعها وازعٌ من بقيّة ضمير إنساني.
فحين حاصرت جيوش الضلالة أهل بيت النبوّة (عليهم السّلام) في عرصات كربلاء كتب ابن زياد إلى عمر بن سعد كتاباً وهو يبيّن له ما يستهدفه من نتيجة للمعركة، وما تنطوي عليه نفسه الشّريرة من حقد دفين على الرسالة والرسول (صلّى الله عليه وآله)، وكلّ ما يمتّ إليهما بصلة أو قرابة، وقد جاء فيه ما يلي:
أما بعد، فإنّي لم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه، ولا لتطاوله، ولا لتمنّيه السّلامة والبقاء، ولا لتعقد له عندي شافعاً، انظر فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم سلماً، وإن أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم؛ فإنّهم لذلك مستحقّون، فإن قُتل الحسين فأوطئ الخيل صدره وظهره؛ فإنّه عاقّ مشاقّ، قاطع ظلوم، وليس في هذا أن يضرّ بعد الموت شيئاً، ولكن عليّ قول، لو قد قتلته فعلت هذا به 33.
على أنّ ابن زياد كان من أعمدة الحكم الاُموي. ولا نعلم أوامر صدرت من أحد أفراده بحيث كانت ترعى حرمة أو تقديراً لمقام ابن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) الذي لم يكن خافياً على أحد من الاُمويّين.
وهكذا انبرى ابن سعد بعد مقتل ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ لينفّذ أوامر سيّده الحاقد ابن زياد، فنادى في أصحابه: مَنْ ينتدب للحسين فيوطئه فرسه؟
فانتدب عشرة، فداسوا جسد الحسين (عليه السّلام) بخيولهم حتّى رضّوا ظهره 34.
عقيلة بني هاشم أمام الجثمان العظيم
ووقفت حفيدة الرّسول (صلّى الله عليه وآله) وابنة أمير المؤمنين (عليه السّلام) العقيلة زينب (عليها السّلام) على جثمان أخيها العظيم، وهي تدعو قائلةً: «اللهمّ تقبّل هذا القربان» 35.
إنَّ الإنسانيّة لتنحني إجلالاً وخضوعاً أمام هذا الإيمان الذي هو السرّ الوحيد في خلود تضحية الحسين (عليه السّلام) وأصحابه (رضوان الله تعالى عليهم أجمعين).36
- 1. الإرشاد 2 / 93.
- 2. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 178 و 179، الصفحة: 73.
- 3. راجع أعيان الشّيعة 1 / 601.
- 4. الإرشاد 2 / 96.
- 5. القران الكريم: سورة الأعراف (7)، الآية: 196، الصفحة: 176.
- 6. الإرشاد 2 / 98، إعلام الورى 1 / 459.
- 7. القران الكريم: سورة هود (11)، الآية: 91، الصفحة: 232.
- 8. الإرشاد 2 / 99، الفتوح 5 / 113، بحار الأنوار 5 / 15.
- 9. مقتل الحسين – للمقرّم / 277.
- 10. مقتل الحسين – للمقرّم / 277، تاريخ الطبري 3 / 318.
- 11. استصرختمونا: طلبتم نجدتنا.
- 12. إلباً: مجتمعين متضامنين ضدّنا.
- 13. الدَّبا: الجراد الصغير.
- 14. تاريخ ابن عساكر 69 / 265، اللهوف في قتلى الطفوف – ابن طاووس / 59 و 124.
- 15. القران الكريم: سورة يونس (10)، الآية: 71، الصفحة: 217.
- 16. القران الكريم: سورة هود (11)، الآية: 56، الصفحة: 228.
- 17. مقتل الحسين – للمقرّم / 289 – 286، مقتل الحسين – للخوارزمي 2 / 6، تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام الحسين (عليه السّلام) / 216، راجع إعلام الورى 1 / 458.
- 18. مقتل الحسين – للمقرّم / 289.
- 19. الإرشاد 2 / 101، اللهوف / 100، إعلام الورى 1 / 461.
- 20. مقتل الحسين – للمقرّم / 292.
- 21. سيرة الأئمّة الاثني عشر 2 / 76.
- 22. جلّى ببصره: إذا رمى به كما ينظر الصقر إلى الصيد. « الصحاح – جلا – 6: 2305 ».
- 23. المسناة: تراب عال يحجز بين النهر والأرض الزراعية. « تاج العروس – سنى – 10: 185 ».
- 24. سيرة الأئمّة الاثني عشر 2 / 77، بحار الأنوار 45 / 440، المنتخب – للطريحي / 431.
- 25. الإرشاد 2 / 109.
- 26. بحار الأنوار 45 / 46.
- 27. الإرشاد 2 / 110، إعلام الورى 1 / 467.
- 28. الإرشاد 2 / 111، إعلام الورى 1 / 468.
- 29. الإرشاد 2 / 112، إعلام الورى 1 / 469.
- 30. راجع كشف الغمة 2 / 9، سير أعلام النبلاء 3 / 312، تاريخ الإسلام – للذهبي / 15، حوادث سنة 61، إعلام الورى 1 / 429.
- 31. مقتل الحسين – للمقرم / 346.
- 32. حياة الإمام الحسين (عليه السّلام)، نقلاً عن تاريخ المظفري / 238.
- 33. تاريخ الطبري 4 / 314، إعلام الورى 1 / 453.
- 34. إعلام الورى 1 / 470، مقتل الحسين – للخوارزمي 2 / 39.
- 35. حياة الإمام الحسين بن علي (عليه السّلام) 3 / 304.
- 36. من کتاب الإمام الحسين (عليه السّلام) سيد الشهداء، تاليف لجنة من الكُتاب بإشراف سماحة السيد منذر الحكيم.