متن المسألة
(كتاب الوصية وهي: إما مصدر(وصي يصي) بمعنى الوصل، حيث إن الموصي يصل تصرفه بعد الموت بتصرفه حال الحياة، وإما اسم مصدر بمعنى العهد من وصي يوصّي توصية أو أوصى يوصي إيصاء)1.
الظاهر من عبارة السيد اليزدي في (العروة) التردد وبين القولين وليس القول بكليهما ولا بأحدهما، ولذلك لم يرجح واحدًا على الآخر2، وأغلب المحشين سكتوا، ما يعني أن الأمر لديهم محل تردد أيضًا، وإن كان البعض منهم مال إلى أحدهما في بحوثهم الاستدلالية كما سيظهر لاحقًا، استثناء البروجردي3 والقمي4اللذان قالا في حاشيتهما: هذا هو المتعين وهو القول الثاني، وسيأتي تفصيل كلامهما.
الأقوال في المسألة
ومرجع هذا التردد ما قد يظهر بدوًا من اختلاف في المعاجم اللغوية، حيث يظهر من كلمات بعضهم أنها بمعنى العهد فقط، فقد قال ابن منظور: (أوصى الرجل ووصاه: عهد إليه)5، في حين صرّح البعض بنها من الوصل، فقد جاء في (المصباح) وصيت الشيء بالشيء أصيه من باب وعد: وصلته6 بالإضافة إلى الاستعمالات الموجودة في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة.
لكن جمعًا من المتقجمين والمتأخرين ومتأخري المتأخرين ذهبوا إلى القول بأنها بمعنى الوصل، فقد قال الشيخ الطوسي: الوصية مشتقة من وصى يصي وهو من الوصل، قال الشاعر:
نصي الليل بالأيام حتى صلوتنا *** مقاسمة يشتق أنصافها السفر
ومعناه أنه يصل تصرفه بما يكون بعد الموت ما قبل الموت، يقال منه أوصا يوصي إيصاء، ووصّى يوصّى توصية، والاسم الوصية والوصاة ويقال استوصى فالآن أي إنه يتصرف بغير إذنه7.
وجاءت عبارة ابن إدريس في الزائر متطابقة مع عبارة الشيخ الطوسي 8، وإلى هذا القول ذهب العلامة في (التذكرة)9، والشهيد الثاني في (الروضة)10 والمحقق الكركي في (جامع المقاصد)11 وصاحب (الرياض) 12.
لكن الحكيم في (المستمسك) اعترض على كلامهم وقال بالتفصيل استنادًا إلى ما جاء في بعض المعاجم اللغوية والاستعمال في النصوص القرآنية والروائية، فاعتبر الثلاثي بمعنى الوصل والرباعي بمعنى العهد، وهذه عبارته: لكن الذي يظهر من الصحاح والقاموس أنه الثلاثي بمعنى الوصل لا غير، والرباعي سواء كان مضاعفًا ـ كوصّى توصية ـ أم مهموزًا ـ كأوصى إيصاءً ـ بمعنى العهد لا غير. والوصية لا تكون إلا بالمعنى الثاني كما هي كذلك في القرآن المجيد، مثل قوله تعالى ﴿ … وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ … ﴾ 13 و﴿ … مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ … ﴾ 14 و﴿ … مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ … ﴾ 15 و﴿ … مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ … ﴾ 15 وغير ذلك، فلم تذكر الوصية إلا بمعنى العهد بقرينة السياق، فهي اسم مصدر للايصاء أو التوصية، لا مصدر “وصى يصي” فإن مصدره “الوّصْي” ولم يذكر الوصية مصدرًا له في القاموس والصحاح، وإنما ذكر المصدر وهو الوَصْي لا غير.
ومن ذلك يظهر ضعف التردد من المصنف ومن سبقه في مبدأ اشتقاق الوصية، والمتعين الجزم بالثاني، كما هو كذلك في القرآن المجيد. وأما ما ذكره الشيخ ومن وافقه فمرادهم أن الرباعي مأخوذ من الثلاثي، كما أشار إلى ذلك في الروضة والرياض أيضًا، لا أن الوصية اسم مصدر لـ”وصى يصي”، وإلا فهو ممنوع، كما عرفت. وإن كان الأول أيضًا محل إشكال، كيف والرباعي أيضًا بمعنى العهد لا غير، كما يظهر من وراء الاستعمال في القرآن المجيد، مثل قوله تعالى في سورة الأنعام ﴿ … إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَٰذَا … ﴾ 16 وفيها أيضًا ﴿ … ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ 17 ﴿ … ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ 18 ﴿ … ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ 19 وفي غيرها من السور ﴿ … وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ … ﴾ 20 ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا … ﴾ 21 ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ … ﴾ 22 ﴿ … وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ … ﴾ 23 ﴿ … وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ … ﴾ 24 ﴿ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴾ 25 .. إلى غير ذلك من الموارد التي ذكر فيها الإيصاء والتوصية في الكتاب والسنة والعرف العام مما لا يحصى، من دون ملاحظة الوصل بين شيئين، فضلاً عن الحياة والموت 26.
وما عناه الحكيم من كلمات اللغويين هو ما جاء في (الصحاح):أوصيت له بشيء وأوصيت إليه: إذا جعلته وصيَّك، والاسم الوصاية والوصاية بالكسر والفتح.
وأوصيته ووصيته أيضًا توصية: بمعنى. والاسم الوصاة وتواصى القوم، أي أوصى بعضهم بعضًا، وفي الحديث ـ استوصوا بالنساء خيرًا فإنهن عندكم عوان. ووصيت الشيء بكذا، إذا وصلته قال ذو الرمة:
نصيب الليل بالأيام حتى بصلاتنا *** مقاسمة يشتق أنصافهما السفر.
وأرض واصيبة: متصلة النبات وقد وصَت الأرض، إذا اتصل نبتها، وربما قالوا تواصَى البنت27.
وما جاء في (القاموس): وصى كوعى: خس بعد رقعة واتزن بعد خفة واتصل ووصل، والأرض وصيا ووصيا ووصاء : اتصل نباتها. وأوصاه ووصاه توصية: عهد إليه، والاسم: الوصاية والصية وهو الموصى به أيضًا 28.
مناقشة توجيه الحكيم
لا يخفى أن العبارتين يمكن أن يستفهم منهما ما استظهره الحكيم، لولا ما جاء في (المقاييس) و(المصباح) الظاهر في خلاف ما استظهره، فقد جاء في الأول: وصى : أصل يدل على وصل شيء بشيء، ووصيت الشيء: وصلته. ويقال: وطئنا أرضًا واصية، أي إن نبتها متصل قد امتلأت منه. ووصيت الليلة باليوم: وصلتها، وذلك في عمل تعمله. والوصية من هذا القياس، كأن كلام يوصى، أي يوصل. يقال: وصيته توصية، وأوصيته 29.
كما جاء في الثاني: وصيت الشيء بالشيء أصيه من باب وعد: وصلته، ووصَّيت إلى فلان توصية وأوصيت إليه أيصاءً، والاسم الوصاية بالكسر والفتح لغة، وهو وصي فعمل بمعنى مفعول، والجمع الأوصياء، وأوصيت إليه بمال: جعلته له، وأوصيته بولده استعطفته عليه، وأوصيته بالصلاة: أمرته بها30.
وتوضيح ذلك يتم بأمور:
- تصريح المقاييس بأن الوصية من قياس وصيت بمعنى الوصل كما هو منصوص عليه في العبارة المتقدمة في قوله:والوصية من هذا القياس، كأنه كلام يوصى أي يوصل.
- عدم تفريق المقاييس بين الثلاثي والرباعي في المعنى، ولهذا فانه عقّب على كلامه عن الثلاثي بذكر الرباعي من غير أن يذكر له معنى آخر، وانما اعتبره استخدامًا آخر يدل على المعنى نفسه، حيث قال:بعد حديثه عن الثلاثي يقال: وصيته توصية وأوصيته، أي أن المعنى وهو الوصل يشار إليه بالثلاثي والرباعي.
- وهكذا ما جاء في (المصباح)، فهو جعل المعنى الوحيد الوصل، وللدلالة عليه يستعمل الثلاثي والرباعي، وعبارته واضحة في ذلك حيث قال: وصيت الشيء بالشيء أصيه من باب وعد: وصلته، ووصّيت إلى فلان توصية وأوصيت إليه إيصاءً، فتارة يقال وصيت بالثلاثي وتارة وصّيت بالرباعي.
- ما استند إليه الحكيم من الصحاح والقاموس غير تام الظهور في الفرق بين الثلاثي والرباعي، إذ إن الصحاح لم يذكر من الأصل أن الرباعي يستعمل في العهد، وإنما اكتفى بذكر تصريفاته فقط، ثم عندما ذكر الثلاثي قال:ووصيت الشيء بكذا، إذا وصلته به. ويمكن أن نفهم من ذلك أن المعنى واحد وهو الوصل. لهذا فإن استدلال الحكيم بالصحاح في غير محله، لأنه دليل على خلاف كلامه.
وأما (القاموس) فمع أنه ذكر الثلاثي واعتبره بمعنى الوصل، كما ذكر الرباعي واعتبره بمعنى العهد، إلا انه ذكر مجرد الاستعمال من غير أن يصرح بان الرباعي لا يعود للثلاثي كما هو واضح لمن تأمل في عبارته المتقدمة، ولذلك لا يستحكم التعارض بين ما جاء في القاموس وما جاء في غيره خصوصًا (المقاييس) و(المصباح) بل و(الصحاح)؛ لأن الأخيرة أكثر صراحة في عدم الفرق بين الثلاثي والرباعي، و(القاموس) لا صراحة فيه بالفرق، فيتعين القول بعدم الفرق.
بل حتى لو قيل باستحكام التعارض، فان الغلبة للقول بعدم الفرق، لأن أكثر المعاجم اللغوية المعتمدة قالت به، ويعضده أنه قول المتقدمين والمتأخرين ومتأخري المتأخرين من فقهائنا، بلا معارض بينهم.
وأما ما ذكره الحكيم من اقتصار الاستعمال القرآني على معنى العهد، فلا ينهض دليلاً على المدعي، وذلك أولاً فيما إذا قلنا بأن الرباعي يعود إلى الثلاثي وان العهد يلحظ فيه الوصل من حيثيات سنأتي على ذكرها، وثانيًا لتصريح المقاييس المذكور قبل قليل من أن الوصية من الوصل، قال: والوصية من هذا القياس، كأنه كلام يوصى أي يوصل، وبهذا التصريح يجاب أيضًا على المنع المذكور في عبارته ـ الحكيم ـ عند تفسيره لمراد من تقدم ذكرهم من الفقهاء القائلين بالوصل، حيث قال: لا أن الوصية اسم مصدر لـ”وصى يصي: وإلا فهو ممنوع؛ لأن عبارة المقاييس صريحة في أن الوصية اسم مصدر لـ”وصى يصي”.
وبناء على ذلك فان ما وجّه به الحكيم كلمات الفقهاء تعزوه الدقة، فقد قال: وأما بحسب عرف الفقهاء، والمتشرعة فالوصية هي العهد في حال الحياة بما بعد الوفاة. والوجه في هذا الاصطلاح ليس هو ملاحظة وصل الممات بالحياة، بل المتابعة للقرآن المجيد حيث عبّر عن العهد المذكور بالوصية31، وذلك لما ورد من تصريح في كلمات العديد الفقهاء من أن الوصية أريد منها ملاحظة وصل الممات بالحياة مع أنها عهد في الوقت نفسه، كما هو واضح في عبارة الطوسي المتقدمة: ومعناه أن يصل تصرفه بما يكون بعد الموت ما قبل الموت، وعبارة العلامة في (التذكرة): فكأنه وصل تصرفه في حياته بتصرفه بعد مماته -32 والشهيد الثاني في (الروضة) : وأصلها الوصل، سميت به لما فيه من وصلة التصرف في حال الحياة به بعد الوفاة 33، فمن هذه الكلمات وغيرها يظهر أن الوصية عندهم أخذ فيها لحاظ الوصل بين حال الحياة وحال الممات.
مناقشة رأي البروجردي
وأما البروجودي فقد أيد في حاشيته على (العروة) القول الثاني، واعتبر الوصية اسم مصدر بمعنى العهد، إلا إن العهد لا يتعدى إلا بلفظة (إلى) بينما الوصية تتعدى من دونها، والاستعمال القرآني شاهد على ذلك، حيث استعملت فيه (وصّى) كما استعملت (عهد) تمامًا وبالمعنى نفسه، واستعمالها في عهد الإنسان إلى غيره لما بعد الموت إنما هو على نحو الغلبة فقط. فقد قال في حاشيته (هذا هو المتعيّن)34، والعهد هنا هو الذي يستعمل متعديًا بلفظة “إلى” ويرادفه أو يقرب منه لفظة “سفارش” في لغة الفرس، قال الله تعالى: ﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ … ﴾ 35 ﴿ … عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ … ﴾ 36 ﴿ … قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ … ﴾ 37. وقال تعالى ﴿ وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ … ﴾ 38إلى آخره. ﴿ … أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَٰذَا … ﴾ 16إلى آخره ﴿ … ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ … ﴾ 1739 إلى آخره. نعم غلبه استعمالها في عهد الإنسان إلى غيره بما يريد حصوله من بعد موته في ماله أو بدنه) 40.
ويجاب عليه بما سبق من مناقشة لبعض أدلة السيد الحكيم، إذ إن الاستعمال في القرآن بمعنى العهد غير كاف في التدليل على مختار البروجردي، سواء قلنا بان الرباعي يعود إلى الثلاثي، أو قلنا بأن العهد يلحظ فيه الوصل ـ كما سيأتي بيانه ـ، أو لما نص عليه بعض أهل اللغة كالمقاييس من أن الوصية من الوصل ـ كما سبق وبيّنا. وأما ما ذكره من الغلبة فهي لم تأت على خلاف الأصل، وإنما هي منساقة معه، ولذلك لا وجه لما قال بتعيينّه.
مناقشة رأي الأنصاري
كما أن الشيخ الأنصاري رجّح القول بان الوصية اسم مصدر من أوصاه ووصاه توصية، أي عهد إليه، واعتبر ذلك أولى من القول بأنها مأخوذة من وصى يصي بمعنى الوصل وذلك لأن الألفاظ المستعملة من هذه المادة في الكتاب والسنة وكتب الفقهاء كلها من باب الأفعال والتفعيل، لا الثلاثي المجرد 41، وهذا ما أكدّ عليه السيد الخوئي حيث قال (وهذا الاحتمال هو المتعيَّن، كما يشهد له استعمالها فيه في الآيات الكريمة وعرف المتشرعة)42.
ثم استقرب الشيخ الأنصاري تفسيرًا لقول بعض الفقهاء بأنها بمعنى الوصل وذلك في قوله (اللهم إلا أن يريدوا أن أصل هذه اللفظة مأخوذة من وصى يصي، حتى أن الايصاء والتوصية بمعنى العهد مأخوذة من ذلك، لا أن الوصية المذكورة في الاستعمالات وصدر وصى يصي، فلا خلاف في المعنى، ولعل هذا هو المتعين. ونظيره أنهم يفسّرون الطهارة ـ في كتاب الطهارة ـ بفعل المكلف، أعني استعمال الطهور، أو نفس الوضوء والغسل والتيمم، ومع ذلك يذكرون: أن الطهارة من “طهر”، وليس مرادهم أن الطهارة المفسرة بفعل المكلف مصدر لـ”طهر”، لأن المصدر منه حدث قائم بالجسم الطاهر أو بالشخص المتطهر)43.
لكن هذا الكلام والتفسير بناقش بأمور:
1ـ إن الاستعمال لوحده لا يصرف المعنى عن أصله اللغوي الذي وضع له، سواء كان ذلك في الكتاب أو السنة أو في كتب الفقهاء بل حتى لو أصبح عرفًا عند المتشرعة، وذلك إما لأن اللفظ استعمل في أحد معانيه ودلالاته لضرورة المقام، أو في الأساس المعنى الذي استعمل فيه يعود في حقيقته إلى أصله اللغوي وهو الوصل ـ ولعل هذا هو الأقرب ـ.
وعدم استعمال القرآن أو السنة أو الفقهاء للفظ في معناه الآخر ـ أو معناه الحقيقي: الوصل ـ لا يكفي دليلاً على الأول بأن الوصية ليست من باب وصى يصي ـ وإنما من باب أوصى ووصّى، إذ إن عدم الاستعمال يعود إلى عدم الحاجة إليه فالاستعمال إنما هو بحسب المقام وهو منتف في استعمالات القرآن والسنة والفقهاء في المجالات الفقهية، ولذلك نجد الفقهاء الذين قالوا بأن الوصية من الوصل، استعملوها في النهاية بمعنى العهد، لعدم التنافي عندهم بين للأصل وبين استعمالاتهم، بل ذلك من المؤيدات إن لم يكن من الأدلة الدالة على أن العهد في حقيقته يعود إلى الوصل في المعنى، أي أن العهد يتضمن لحاظ الوصل.
2ـ إن التفسير الذي قدّمه الشيخ الأنصاري لكلمات الفقهاء لا ينسجم مع عباراتهم الصريحة في خلاف ذلك، ولا مع بعض كلمات اللغويين.
لاحظ مثلاُ عبارة الشيخ الطوسي المتقدمة (الوصية مشتقة من وصى يصي وهو من الوصل)، فهي صريحة في أن الوصية المستعملة عندهم مصدر وصى يصي، لا أن أصل الفظة الوصية مأخوذة من وصى يصي كما هو مدعى الشيخ الأنصاري. فكون الوصية مشتقة من وصى يصي يعني أنها مصدر لهما.
ولاحظ أيضًا عبارة المقاييس المتقدمة:وصى: أصل يدل على وصل شيء بشيء. ووصيت الشيء: وصلته. ويقال: وطئنا أرضًا واصية، أي إن نبتها متصل قد امتلأت منه. ووصيت الليلة باليوم: وصلتها، وذلك في عمل تعمله. والوصية من هذا القياس، كأنه يوصى، أي يوصل. يقال: وصيته توصية وأوصيته. فقوله (الوصية من هذا القياس) أي من قياس (وصى)، وقوله (كأنه كلام يوصى أي يوصل) تأكيد على ذلك.
لهذا فالوصية مصدر من وصى يصي في اللغة كما في المقاييس، وعند الشيخ الطوسي ومن قال بمقولته ممن تقدم ذكرهم في مطلع البحث، وتفسير الشيخ الأنصاري المتقدم لعباراتهم لا شاهد عليه والتكلف فيه بيّن.
وبهذا يظهر الإشكال فيما استدل به السيد الخوئي، فهو وإن لم يمش على عبارة السيد اليزدي المتقدمة، مما يعني تردده بين القولين الوصل أو العهد، لكنه في المباني قال بتعين العهد كما هي نص عبارته المذكورة سلفًا، واستدل له بالاستعمالات القرآنية وعرف المتشرعة، وسبقت مناقشته في جملة من قال بذلك من الفقهاء كالحكيم والأنصاري، كما استدل له بخلو كتب اللغة من معنى الوصل حيث قال:كما لم يذكر في شيء من كتب اللغة ذلك44، وهو ادعاء مخالف تمامًا لما وقعنا عليه من كلمات اللغويين السابقة الذكر، فعبارة المقاييس والمصباح المذكورتان في الصفحات السابقة صريحة في كون الوصية من الوصل.
مناقشة رأي الميرزا مهدي
كما أن ما استدل به الميرزا مهدي الشيرازي على كون الوصية من أوصى ووصّى توصية بمعنى العهد، بقوله:وهو التعيين بقرينة صلته بالباء وتعديه بإلى 45، وهو ما أشار إليه البروجردي في حاشيته على العروة المذكورة سلفًا، لكن لا على سبيل الاستدلال وإنما للتمييز بين ما يستعمل بمعنى العهد وما يستعمل بمعنى الوصل، أما الميرزا مهدي فقد اعتبره دليلاً في المقام، نظرًا إلى أن العهد يتعدى بإلى ويوصل بالباء، بينما الوصل يتعدى من دون إلى، كان ذلك دليلاً على المغايرة التامة بين اللفظين.
لكنه دليل غير تام، لأن مجرد التعدي في احد الاستعمالات بحرف من حروف الجر وتعدي الآخر بنفسه لا ينهض دليلاً كافيًا على المغايرة بين اللفظين أو المعنيين، بل يمكن أن يكون احدهما يعود إلى الأخر، بحيث يتعدى الأول بحرف جر بخلاف الثاني بل يمكن للفظ الواحد أن يتعدى بحرف جر تارة وتارة يتعدى بنفسه، من غير أن يعني المغايرة في شيء، من قبيل (لا أباليه، ولا أبالي به) 46.
ومن قبيل (شكر)، فقد قال صاحب المصباح (ويتعدّى في الأكثر باللام، فيقال شكرت له شكرًا وشكرانًا، وربما تعدّى بنفسه، فيقال شكرته)47، وذلك جار في القرآن الكريم حيث قال سبحانه ﴿ … أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ … ﴾ 48وقال تعالى ﴿ … أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ … ﴾ 49.
وللفظين اللذين يعود أحدهما للآخر، مع تعدي الأول بحرف جر وتعدي الآخر بدونه، أشباه ونظائر في اللغة العربية، كما هو الحال في (ربى) و(أربى)، فيقال كما في المفردات (أربى عليه أِرف عليه، وربيت الولد فربا)50، وكلا الاستعمالين يعود أن إلى أصل واحد وهو العلو والزيادة. وبناء عليه فان مجرد تعدّي احد الاستعمالين بحرف جر وتعدي الآخر بنفسه لا يلزم منه المغايرة بينهما. والأمثلة على ذلك كثيرة فلا ينبغي الاستيحاش.
الرأي المختار
فتلخّص من خلال مناقشة سائر الأقوال، أن الأقرب للصحة القول بعدم الفصل بين الاستعمالين والمعنيين، فالعهد يعود في حقيقته إلى الوصل، وهو ما رجحه سيد مشائخنا الشيرازي، فقد قال: لا منافاة بين الوصل والعهد، إذ العهد نوع من الوصل أيضًا، ومقتضى القاعدة كون المادة بمعنى واحد، سواء في المجرد أو المزيد فيه، كما أن المصدر واسم المصدر قد يكون لهما صيغة واجدة، وإنما الاختلاف بالقصد، وكل من العهد حال الحياة وبعد الممات يقال له وصية، مثل قول علي عليه السلام: أوصيكم عباد الله51. 52
فالعهد في الحقيقة إنشاء صلة بين طرفين، ولذلك لا تنافي بينهما، وإنما العهد يعود إلى الوصل، ويؤكد ذلك عبارة المقاييس المتقدمة فهي ظاهرة بشكل تام في ذلك، خصوصًا عند قوله: والوصية من هذا القياس، كأنه كلام يوصى، أي يوصل. يقال: وصيته توصية، وأوصيته وذلك عطفًا على قوله: وصى: أصل يدل على وصل شيء بشيء، إذ لم يلحظ انه فرّق بين الثلاثي والرباعي، بل اعتبر الأصل فيهما واحدًا، وعلى ذلك تحمل كلمات الفقهاء المذكورة في صدرا البحث كالشيخ الطوسي وابن إدريس والعلامة والبقية.
وبناء عليه لا معنى لتردد السيد اليزدي في متن (العروة الوثقى) حين قال: وزهي إما مصدر وصى يصي بمعنى الوصل…. وإما اسم مصدر بمعنى العهد… بل هي على كل حال الأصل فيها الوصل، والعهد يعود إليه، وقد غلب استعمالها في الكلمات الفقهية في عهد خاص لوصل تصرف الإنسان في الحياة بما بعد الموت.
وقد دعّم سيد مشائخنا هذا القول ـ كما في عبارته السابقة ـ بأنه مقتضى القاعدة، إذ إن الأصل كون المادة بمعنى واحد، والقول بالتعدد يحتاج إلى دليل وهو مفقود هنا، وذلك في المجرد أو المزيد، فسواء قلنا (وصى) أو (أوصى) أو (وصّى) أو (استوصى) فالمرجع في هذه المادة إلى معنى واحد، وهو الوصل هنا. لذلك لا داعي للاستيحاش، خصوصًا بعدما وقفنا على أشباه ونظائر لذلك في اللغة العربية53.
- 1. العروة الوثقى، محمد كاظم اليزدي، ج5 ص651، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، الطبعة الأولى 1420هـ.
- 2. وهو ظاهر عبارة الحدائق، الحدائق الناضرة، الشيخ يوسف البحراني، ج22 ص375، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1405هـ.
- 3. العروة الوثقى، السيد اليزدي، ج5 ص651، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم، الطبعة الأولى 1420هـ.
- 4. العروة الوثقى، السيد اليزدي، ج2 ص671، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ـ بيروت ـ الطبعة الأولى 1410هـ.
- 5. لسان العرب، ابن منظور، ج15 ص394، الناشر: نشر أدب الحوزة ـ قم 1405هـ.
- 6. التحقيق في كلمات القرآن الكريم، العلامة المطصفوي، ج13 ص139، مركز نشر آثار العلامة المطفوي، الطبعة الأولى 1385.
- 7. المبسوط في فقه الإمامية، الشيخ الطوسي، ج4 ص3، الشرق الأوسط للطباعة والنشر والتوزيع 1412هـ.
- 8. السرائر، ابن ادريس الحلي، ج3 ص182، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم، الطبعة الثانية 1410هـ.
- 9. تذكرة الفقهاء، العلامة الحلي، ج2 ص452، الطبعة القديمة، منشورات المكتبة الرضوية لاحياء الآثار الجعفرية.
- 10. الزبدة الفقهية في شرح الروضة البهية، السيد محمد حسين ترحيني العاملي، ج6 ص5، الطبعة الاولى 1416هـ، دار الهادي ـ بيروت.
- 11. جامع المقاصد، المحقق الكركي، ج10 ص7، مؤسسة آل البيت لاحياء التراث ـ قم الطبقة الأولى 1411هـ.
- 12. رياض المسائل، السيد علي الطباطبائي، ج9 ص427، الطبعة الأولى 1419هـ مؤسسة النشر الإسلامية التابعة لجماعة المدرسين بقم.
- 13. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 240، الصفحة: 39.
- 14. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 11، الصفحة: 78.
- 15. a. b. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 12، الصفحة: 79.
- 16. a. b. القران الكريم: سورة الأنعام (6)، الآية: 144، الصفحة: 147.
- 17. a. b. القران الكريم: سورة الأنعام (6)، الآية: 151، الصفحة: 148.
- 18. القران الكريم: سورة الأنعام (6)، الآية: 152، الصفحة: 149.
- 19. القران الكريم: سورة الأنعام (6)، الآية: 153، الصفحة: 149.
- 20. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 131، الصفحة: 99.
- 21. القران الكريم: سورة العنكبوت (29)، الآية: 8، الصفحة: 397.
- 22. القران الكريم: سورة لقمان (31)، الآية: 14، الصفحة: 412.
- 23. القران الكريم: سورة الشورى (42)، الآية: 13، الصفحة: 484.
- 24. القران الكريم: سورة مريم (19)، الآية: 31، الصفحة: 307.
- 25. القران الكريم: سورة الذاريات (51)، الآية: 53، الصفحة: 523.
- 26. مستمسك العروة الوثقى، السيد محسن الحكيم، ج12 ص532، دار احياء التراث العربي ـ بيروت.
- 27. الصحاح، الجوهري، ج6 ص2525، دار العلم للملايين ـ بيروت، الطبعة الرابعة 1407هـ.
- 28. القاموس المحيط، الفيروز آبادي، ج4 ص400.
- 29. التحقيق في كلمات القرآن الكريم، مصدر سابق، ج13 ص139.
- 30. المصدر نفسه.
- 31. مستمسك العروة الوثقى، مصدر سابق، ص534.
- 32. تذكرة الفقهاء، مصدر سابق، ص452.
- 33. الزبدة الفقهية في شرح الروضة البهية، مصدر سابق، ص5.
- 34. جاء ذلك تعليقًا على ما ذكره السيد اليزدي في العروة بقوله (وأما اسم مصدر بمعنى العهد).
- 35. القران الكريم: سورة يس (36)، الآية: 60، الصفحة: 444.
- 36. القران الكريم: سورة طه (20)، الآية: 115، الصفحة: 320.
- 37. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 183، الصفحة: 74.
- 38. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 132، الصفحة: 20.
- 39. سورة الأنعام الآيات:151،152، 153.
- 40. العروة الوثقى، مصدر سابق، ج5 ص651.
- 41. الوصايا والمواريث، الشيخ الأنصاري، ص23، الطبعة الأولى 1415هـ، المؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد الشيخ الأنصاري.
- 42. المباني في شرح العروة الوثقى، تقريرًا لابحاث السيد أبو القاسم الخوئي، تأليف السيد محمد تقي الخوئي، ج33 ص293، الطبعة الثالثة 1428هـ، مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي، إيران، قم.
- 43. الوصايا والمواريث، مصدر سابق، ص24.
- 44. المباني في شرح العروة الوثى، مصدر سابق، ج33 ص293.
- 45. الفقه، كتاب الوصية، السيد محمد الشيرازي، ج61 ص6، الطبعة الثانية 1409هـ، دار العلوم ـ لبنان.
- 46. التحقيق في كلمات القرآن الكريم، العلامة المصطفوي، ج1 ص361، مصدر سابق.
- 47. التحقيق في كلمات القرآن الكريم، مصدر سابق، ج6 ص119.
- 48. القران الكريم: سورة لقمان (31)، الآية: 12، الصفحة: 412.
- 49. القران الكريم: سورة النمل (27)، الآية: 19، الصفحة: 378.
- 50. المفردات في غريب القرآن، الراغب الاصفهاني، 193، دار المعرفة ـ بيروت، الطبعة الثالثة 1422هـ.
- 51. نهج البلاغة، الإمام علي ، جد1 ص133، دار الذخائر ـ قم، الطبعة الأولى 1412هـ.
- 52. الفقه ـ كتاب الوصية ـ، مصدر سابق، ج61 ص7.
- 53. منشور بمجلة الفقاهة، العدد الحادي عشر والثاني عشر- الشيخ فيصل العوامي – 4 / 11 / 2010م – 3:01 ص. و قد نشرت المقالة في الموقع الرسمي لسماحة الشيخ فيصل العوامي حفظه الله.