نعتقد: أن الله تعالى لمّا منحنا قوة التفكير، ووهب لنا العقل، أمرنا أن نتفكَّر في خلقه، وننظر بالتأمل في آثار صنعه، ونتدبر في حكمته واتقان تدبيره في آياته في الآفاق وفي أنفسنا، قال تعالى:﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ … ﴾ 1.
وقد ذم المقلَّدين لآبائهم بقوله تعالى:﴿ … قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا … ﴾ 2.
كما ذم من يتبع ظنونه ورجمه بالغيب فقال:﴿ … إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ … ﴾ 3.
وفي الحقيقة انّ الذي نعتقده: إنّ عقولنا هي التي فرضت علينا النظر في الخلق ومعرفة خالق الكون 4 كما فرضت علينا النظر في دعوى من يدّعي النبوة وفي معجزته، ولا يصح عندها تقليد الغير في ذلك مهما كان ذلك الغير منزلة وخطراً.
وما جاء في القرآن الكريم من الحث على التفكير واتّباع العلم والمعرفة فانما جاء مقرِّراً لهذه الحرية الفطرية في العقول التي تطابقت عليها آراء العقلاء، وجاء منبِّهاً للنفوس على ما جُبلت عليها من الاستعداد للمعرفة والتفكير، ومفتِّحاً للاَذهان، وموجِّهاً لها على ما تقتضيه طبيعة العقول 5.
فلا يصح ـ والحال هذه ـ أن يهمل الانسان نفسه في الاُمور الاعتقادية، أو يتّكل على تقليد المربين، أو أي أشخاص آخرين، بل يجب عليه ـ بحسب الفطرة العقلية المؤيدة بالنصوص القرآنية ـ أن يفحص ويتأمَّل، وينظر ويتدبَّر في اُصول اعتقاداته 6 المسماة بأصول الدين التي أهمّها: التوحيد، والنبوة، والاِمامة، والمعاد.
ومن قلد آباءه أو نحوهم في اعتقاد هذه الاَُصول فقد ارتكب شططاً، وزاغ عن الصراط المستقيم، ولا يكون معذوراً أبداً.
وبالاختصار عندنا هنا ادّعاءان:
الاَول: وجوب النظر والمعرفة في اُصول العقائد، ولا يجوز تقليد الغير فيها.
الثاني: إنّ هذا وجوب عقلي قبل أن يكون وجوباً شرعياً، أي لا يستقى علمه من النصوص الدينية، وإن كان يصح أن يكون مؤيّداً بها بعد دلالة العقل.
وليس معنى الوجوب العقلي إلاّ إدراك العقل لضرورة المعرفة، ولزوم التفكير والاجتهاد في اُصول الاعتقادات 7.
- 1. القران الكريم: سورة فصلت (41)، الآية: 53، الصفحة: 482.
- 2. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 170، الصفحة: 26.
- 3. القران الكريم: سورة الأنعام (6)، الآية: 116، الصفحة: 142.
- 4. قد أفاض علماء الاسلام في مسألة النظر التي ترتكز عليها نظرية المعرفة، حيث أجمع أئمة المسلمين على وجوب معرفة الله تعالى؛ لاَنّها كمال الدين وأول الواجبات، ويكفينا هنا ما أفاده العلاّمة الحلي (قدس سره) في شرح الباب الحادي عشر بقوله: (أجمع العلماء كافة على وجوب معرفة الله تعالى، وصفاته الثبوتية والسلبية، وما يصح عليه وما يمتنع عنه، والنبوّة، والامامة، والمعاد بالدليل لا بالتقليد)، وممّا دلّ على أهمية هذا الموضوع كثرة المصنّفات في هذا العلم الشريف عند كافة المسلمين، وبالامكان حصر الاَدلّة على وجوب النظر والمعرفة في وجوه:
الوجه الاَول:الدليل العقلي: ومؤدّاه دفع الخوف الحاصل الذي يستوجبه العقل لتحقيق الطمأنينة «وعملية البحث والاستدلال ـ حيث تكون ممكنة ـ إن هي إلاّ إنارة استكشافية للواقع الذي نريد السعي بالعمل على تجنّب مخاطره ونيل منافعه، وذلك لاَن الاستدلال على المعتقد دافع للخوف، ودفع الخوف واجب عقلي».
الوجه الثاني: الدليل الأخلاقي: وهو دليل أن شكر المنعم واجب، ولا يتم إلا بالمعرفة، والوجوب هنا من حيث استحقاق الذم عند العقلاء بتركه، ولان الشكر لا بد أن يتناسب مع حال المشكور، والعقلاء من مختلف المذاهب والاتجاهات يقرون القانون الأخلاقي، فالبحث والمعرفة واجبان للقيام بهذا الواجب الأخلاقي.
الوجه الثالث: الدليل النقلي: وهو إنما يأتي بعد الأدلة المتقدمة؛ لنستقرئ منه الدليل الشرعي الذي يفرضه الدين، كما تحكيه مصادر التشريع الاسلامي في الآيات القرآنية الكريمة، والسنة المطهرة وهو كثيرة.
وبالاضافة إلى ما تقدم من اتجاه علماء المسلمين فان معظم الفلاسفة من غير المسلمين، وسواء بذلك أكانت أسس البناء المعرفي عندهم مبنية على البديهيات العقلية أم المعارف التجريبية، فنقطة الالتقاء عندهم: (تحصيل المعرفة بالدليل الصحيح).
انظر: البهادلي الشيخ أحمد: محاضرات في العقيدة الاسلامية: 47 ـ 52. - 5. ومن ذلك قوله تعالى:﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ … ﴾ .
وقوله تعالى:﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ … ﴾ .
وقوله تعالى:﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ﴾ .
وقوله تعالى:﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا … ﴾ .
قوله تعالى:﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ … ﴾ .
وقوله تعالى:﴿ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ … ﴾ . - 6. ليس كلّ ما ذكر في هذه الرسالة هو من أُصول الاعتقادات؛ فإنّ كثيراً من الاعتقادات المذكورة، كالقضاء والقدر، والرجعة، وغيرهما لا يجب فيها الاعتقاد ولا النظر، ويجوز الرجوع فيها إلى الغير المعلوم صحة قوله، كالاَنبياء والاَئمّة، وكثير من الاعتقادات من هذا القبيل كان اعتقادنا فيها مستنداً إلى ما هو المأثور عن أئمتنا (عليهم السلام): من صحيح الاَثر القطعي. (منه قدس سره).
- 7. المصدر: كتاب عقائد الإمامية، للشيخ محمد رضا المظفر رحمه الله.