نص الشبهة:
فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ . وقوله: ﴿ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ أو ليس هذا يقتضي عتابه على استبقاء الاسارى وأخذ عرض الدنيا عوض عن قتلهم؟.
الجواب:
قلنا ليس في ظاهر الآية ما يدل على انه صلى الله عليه وآله عوتب في شأن الأسارى، بل لو قيل ان الظاهر يقتضي توجه الآية إلى غيره لكان أولى، لان قوله تعالى: ﴿ … تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ … ﴾ 1، وقوله تعالى: ﴿ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ 2، لا شك أنه لغيره، فيجب ان يكون المعاتب سواه.
والقصة في هذا الباب معروفة والرواية بها متظافرة، لان الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وآله بأن يأمر أصحابه بأن يثخنوا في قتل أعدائهم بقوله تعالى: ﴿ … فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾ 3 وبلغ النبي صلى الله عليه وآله ذلك إلى أصحابه فخالفوه، وأسروا يوم بدر جماعة من المشركين طمعا في الفداء، فأنكر الله تعالى ذلك عليهم وبين ان الذي أمر به سواه.
فإن قيل: فإذا كان النبي صلى الله عليه وآله خارجا عن العتاب فما معنى قوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ … ﴾ 1؟
قلنا: الوجه في ذلك لان الأصحاب انما أسروهم ليكونوا في يده صلى الله عليه وآله. فهم اسراؤه على الحقيقة ومضافون إليه، وإن كان لم يأمرهم بأسرهم بل أمر بخلافه.
فان قيل: افما شاهدهم النبي صلى الله عليه وآله وقت الأسر فكيف لم ينههم عنه؟.
قلنا: ليس يجب أن يكون عليه السلام مشاهدا لحال الأسر، لأنه كان على ما وردت به الرواية يوم بدر جالسا في العريش، ولما تباعد أصحابه عنه اسروا من أسروه من المشركين بغير علمه صلى الله عليه وآله فإن قيل: فما بال النبي صلى الله عليه وآله لم يأمر بقتل الاسارى لما صاروا في يده وان كان خارجا من المعصية وموجب العتاب، أو ليس لما استشار أصحابه فأشار عليه ابو بكر باستبقائهم وعمر باستيصالهم رجع إلى رأي ابي بكر، حتى روي أن العتاب كان من اجل ذلك؟.
قلنا: أما الوجه في أنه عليه السلام لم يقتلهم فظاهر، لأنه غير ممتنع أن تكن المصلحة في قتلهم وهم محاربون، وان يكون القتل أولى من الأسر، فإذا اسروا تغيرت المصلحة وكان استبقاؤهم أولى، والنبي صلى الله عليه وآله لم يعمل براي أبي بكر إلا بعد أن وافق ذلك ما نزل به الوحي عليه.
وإذا كان القرآن لا يدل بظاهر ولا فحوى على وقوع معصية منه صلى الله عليه وآله في هذا الباب فالرواية الشاذة لا يعول عليها ولا يلتفت إليها.
وبعد: فلسنا ندري من أي وجه تضاف المعصية إليه صلى الله عليه وآله في هذا الباب، لأنه لا يخلو من أن يكون أوحى إليه صلى الله عليه وآله في باب الاسارى بأن يقتلهم، أو لم يوح إليه فيه بشئ، ووكل ذلك إلى اجتهاده ومشورة أصحابه، فإن كان الأول فليس يجوز أن يخالف ما أوحي إليه، ولم يقل احد أيضا في هذا الباب أنه صلى الله عليه وآله خالف النص في باب الاسارى، وإنما يدعى عليه انه فعل ما كان الصواب عند الله خلافه، وكيف يكون قتلهم منصوصا عليه بعد الأسر وهو يشاور فيه الأصحاب ويسمع فيه المختلف من الأقوال وليس لأحد أن يقول إذا جاز أن يشاور في قتلهم واستحيائهم، وعنده نص بالاستحياء، فهلا جاز أن يشاور وعنده نص في القتل، وذلك أنه لا يمتنع أن يكون أمر بالمشاورة قبل أن ينص له على أحد الأمرين، ثم أمر بما وافق إحدى المشورتين فاتبعه.
وهذا لا يمكن المخالف أن يقول مثله، وان كان لم يوح إليه في باب الاسارى شئ ووكل إلى اجتهاده ومشورة أصحابه، فما باله يعاتب وقد فعل ما أداه إليه الاجتهاد والمشاورة، وأي لوم على من فعل الواجب ولم يخرج عنه، وهذا يدل على ان من اضاف إليه المعصية قد ضل عن وجه الصواب 4.
- 1. a. b. القران الكريم: سورة الأنفال (8)، الآية: 67، الصفحة: 185.
- 2. القران الكريم: سورة الأنفال (8)، الآية: 68، الصفحة: 185.
- 3. القران الكريم: سورة الأنفال (8)، الآية: 12، الصفحة: 178.
- 4. تنزيه الأنبياء عليهم السلام للسيد مرتضى علم الهدى، دار الأضواء: 157 ـ 160