لا يخفى على كل من يدرس فكر الشيعة ـ ولو إجمالاً ـ أنّ الاعتقاد بالمهدي المنتظر عجّل الله تعالى فرجه الشريف من أهمّ وأبرز معتقداتهم ، وأنّ دولته المباركة هي العلّة الغائيّة والنتيجة الأخيرة التي يتوقّعها كلّ من يوالي أهل البيت عليهم السلام.
« اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله وتذلّ بها النفاق وأهله وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة ».
ومن الطبيعي أنّ الباحث لو نسى تلك النتيجة أو تغافل عنها ، سوف يؤدِّي ذلك إلى انحرافه الفكري وخروجه عن الصراط المستقيم.
دولة العدل : ثمَّ : إنَّ الإمام الحجَّة بن الحسن عليه السلام سوف يؤسِّس دولة يطبَّق فيها حقيقة الدين وباطن شريعة سيد المرسلين ـ حيث لا عدل حقيقي إلا بذلك ـ وهذا ما يدلّنا عليه حكم العقل ، حيث يقول بأنّ العدل هو إعطاء كلِّ ذي حقّ حقَّه ومصداقيّته لا تظهر إلاّ إذا كان الحاكم ببصيرته الملكوتيّة الباطنيّة يشرف على الأمَّة فيتعامل معهم تعاملاً غيبياً ، غير معتمدٍ على الشهود والبيِّنات الظاهريّة ، لأنّ البيّنات إنما تثبت أحكاماً ظاهريّة غير واقعيَّة ، فربَّ ظالم يغصب حقَّ الآخرين بإقامة شهادة الزور.
موسى والعبد الصالح : ولعلّ ذكر ما جرى بين موسى والعبد الصالح ـ الخضر ـ في القرآن الكريم إنّما هو من أجل تبيين نموذج من العدل الواقعي ، تمهيداً لما سيتحقَّق في المستقبل على مستوى العالم كلِّـه.
وقد ورد في تفسير علي بن إبراهيم القمِّي عن رسول الله صلى الله عليه وآله [ بحار الأنوار ج ۱۳ ص ۲۷۸ رواية ۱ باب ۱۰ ] ما ملخّصه : « أنه لما كلّم الله موسى تكليماً وأنزل عليه الألواح ، أراد الله أن يبيِّن لموسى مستوى علمه فأوحى إلى جبرئيل أن أخبره بأنّ هناك رجل أعلم منك فاذهب إليه وتعلَّم منه ، فعندما أخبره ذلَ موسى في نفسه ودخله الرعب و ( قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ) [ الكهف : ٦۰ ] فتزوَّد وصيُّه يوشع حوتاً مملوحاً فخرجا ( فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا ) [الكهف : ٦۱ ] ووجدا رجلاً مستلقياً على قفاه ، فلم يعرفاه فأخرج وصيّ موسى الحوت وغسّله بالماء ووضعه على الصخرة ومضيا ( نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ) [ الكهف : ٦۱ ] فمضى موسى عليه السلام ويوشع معه ( فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ) [ الكهف : ٦۲ ] أي عناء فذكر وصيّه السمكة ( قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ) [ الكهف : ٦۳ ] فقال موسى : ذلك الرجل الذي رأيناه عند الصخرة هو الذي نريده ( فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ) [ الكهف : ٦٤ ] ( فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ) [ الكهف : ٦٥ ] وهو في الصلاة فقعد موسى حتى فرغ عن الصلاة فسلم عليهما ( قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا*قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا ) [ الكهف : ٦۷ ، ٦٦ ] ».
ففعل أفعالاً ثلاثة لم يصبر موسى عليها رغم أنَّه وعده على ذلك إن شاء الله ورغم أنَّه كان مستعداً ومهيأً لها ، وهي :
۱ ـ خرق السفينة : ولم يصبر موسى على ذلك بل اعترض ( قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ) [ الكهف : ۷۱ ].
۲ ـ قتل الغلامٍ ، فاعترض أيضا وقال ( أَ قَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ) [ الكهف : ۷٤ ].
۳ ـ بناء الجدار ، الذي كان مشرفاً على السقوط ، قال موسى : ( لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ) [ الكهف : ۷۷ ] ولم يتمالك موسى نفسه ، فاعترض عليه وللمرَّة الثالثة وحينئذٍ قال الخضر :
( هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ) [ الكهف : ۷۸ ] وأخبره عن السبب لتلك التصرُّفات وانكشف أنَّها جميعاً كانت طبقاً لموازين شرعية وأحكام إلهيَّة.
والجدير بالذكر ما في الحوادث الثلاثة من التنوُّع ، والاختلاف من نواح شتَّى منها :
الاختلاف من حيث الزمان فخرق السفينة كان لأجل ما سيتحقق في الحال من أخذ كل سفينة سليمة غصباً ، وقتل الغلام كان لأجل أنَّه سوف يؤذي أبويه في المستقبل ، وبناء الجدار لأجل وجود كنز تحته في الماضي ، فكان الخضر عالماً بما كان وما يكون وما هو كائن.
هذا : فوليُّ العصر عجل الله تعالى فرجه سوف يتعامل مع الأمور ، تعاملاً غيبياً كصاحب موسى ، فمن ليس له ارتباط روحي به ، لا يتمكن من التأقلم والإستئناس معه عليه السلام ، ولا يصل الإنسان إلى تلك الدرجة إلا إذا كان يمتلك فهماً للمسائل ، أعلى مستوى من موسى عليه السلام ليصبر على ما سيحقِّقه ولي الله الأعظم مما يتراءى لبعض الناس على أنه قتل وتخريب و و .. فإنَّه سوف يقتل ذراري قتلة الحسين كما سيأتي شرحه تفصيلاً.
دور الزيارات والأدعية : مضافاً إلى القرآن الكريم والأحاديث الشريفة والأدعية ، لدينا مجموعة كبيرة من الزيارات العامَّة والخاصَّة لكلِّ إمام ، يمكن أن يفهم منها كثير من الجوانب الغامضة ـ غير المذكورة ـ في تاريخ حياة أئمتنا عليهم السلام.
۱ ـ الوصول إلى الجوانب الخفيّة من نهضة عاشوراء : هناك زيارات لسيد الشهداء أبي عبدالله الحسين عليه السلام سواء المطلقة منها كزيارة وارث ، أو الخاصة بزمان كزيارة عاشوراء ؛ من خلالها يمكننا أن نصل إلى كثير من الجوانب الخفيّة من نهضته المباركة ـ نهضة عاشوراء ـ علماً بأنَّ المؤرخين في سنه ٦۰ من الهجرة في كربلاء لم يكونوا من المؤمنين بأهل البيت عليهم السلام ، بل كانوا من جملة أتباع الخليفة يزيد بن معاوية ، جاءوا مع العسكر ، كي يدوِّنوا ما يطلقون عليه بقتل الخوارج ونهب أموالهم ! وذلك كي يصلوا إلى مطامعهم الدنيّة ، فمن الطبيعي أنهم لم يعمدوا إلى الحقائق ليثبتوها ، بل كانت غايتهم إرضاء الطاغية يزيد عليه اللعنة.
۲ ـ التأمل في ما صدر عن المعصومين عليهم السلام : ومن هذا المنطلق ، يكون من الضروري واللازم علينا التأمل في كل ما صدر عن المعصومين عليهم السلام ، لا بالصراحة فحسب ، بل حتَّى بالإيماء والإشارة من خلال الزيارات المختلفة. وأعني من كلمة التأمل الدقة والإمعان بوضع النقاط على الحروف ، كالدقّة التّي نمارسها في فهم القرآن الكريم.
ومن الجدير أن ندقِّق في مثل هذه الواقعة العظيمة التي تتعلق بسيد الشهداء وسبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيّد شباب أهل الجنة أبي عبدالله الحسين عليه السلام والتي نحن نعيشها بجميع وجودنا وهي قوام مذهبنا الحق.
وقد ورد عن أئمتنا عليهم السلام زيارات كثيرة لسيِّد الشهداء أبي عبدالله الحسين عليه السلام ، تشتمل على مفاهيم اعتقاديّة وأخلاقيّة وسياسيَّة وغيرها وهذه الزيارات يمكن تقسيمها في بادئ الأمر إلى قسمين:
الف : الزيارات المطلقة.
ب : الزيارات المختصة بأوقات معيَّنة.
المصدر: https://research.rafed.net/