ويحدثنا التاريخ : أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد عاهد بني النضير ، كما عاهد غيرهم ، ولعل أبرز عهد عقده هو عهد الحديبية ، حيث أمر بكتابة نسختين للكتاب 1 لأن بالكتابة يتم الحفاظ على النص ، ويمكن الالتزام به ، ويكون مرجعاً لا يمكن التشكيك ولا المراء فيه فيما إذا ثار خلاف .
وقد اعتبر الإسلام هذه العهود وسيلة لإيقاف الحروب ، وللمنع من نشوبها ، تتوفر للإنسان المسلم في ظلها حرية التعبير ، وحرية العمل والحركة كما سنرى.
وهذا بالذات هو السر في أننا نجد الإسلام قد أولى العهود والاتفاقات أهمية بالغة ، ورسم لها حدودها ، وبيَّن بوضوح تام مختلف الأصول والأهداف التي لا بد من رعايتها ، والحفاظ عليها فيها .
وبديهي : أن دراسة هذا الموضوع بعمق ، والإلمام بجميع جوانبه إسلامياً وتاريخياً ، يتطلب بذل جهد كبير ، ويحتاج إلى دارسة مستقلة ومنفصلة ، وإلى وقت يتيح الفرصة للاطلاع على قدر كاف من الآيات الشريفة والنصوص الواردة عن النبي «صلى الله عليه وآله» والأئمة «عليهم السلام» ، ثم دراسة المعاهدات التي عقدت في صدر الإسلام وظروفها ، ولا نجد أنفسنا قادرين على توفير ذلك في ظروفنا الراهنة .
إلا أن ذلك لا يمنع من إيراد إلماحة سريعة ، ترتكز ـ عموماً ـ على بعض ما ورد في هذا المجال في خصوص نهج البلاغة ، فنقول :
من عهد الاشتر
قال «عليه السلام» في عهده لمالك الأشتر :
« . . ولا تدفعن صلحاً دعاك إليه عدوك ولله فيه رضا ؛ فإن في الصلح دعة لجنودك ، وراحة من همومك ، وأمناً لبلادك ، ولكن الحذر كل الحذر من عدوك ، بعد صلحه ؛ فإن العدو ربما قارب ليتغفل ، فخذ بالحزم ، واتهم في ذلك حسن الظن .
وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة ، أو ألبسته منك ذمة ، فحط عهدك بالوفاء ، وارع ذمتك بالأمانة ، واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت ؛ فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس أشد عليه اجتماعاً ، مع تفرق أهوائهم ، وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود .
وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر 2 ؛ فلا تغدرن بذمتك ، ولا تخيسن بعهدك ، ولا تختلن عدوك ؛ فإنه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقي .
وقد جعل عهده وذمته أمناً أفضاه بين العباد برحمته ، وحريماً يسكنون إلى منعته ، ويستفيضون إلى جواره ؛ فلا إدغال ، ولا مدالسة ولا خداع فيه .
ولا تعقد عقداً يجوز فيه العلل ، ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة ، ولا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحق ، فإن صبرك على ضيق أمر لزمك ترجو انفراجه ، وفضل عاقبته خير من غدر تخاف تبعته ، وأن تحيط بك من الله طلبته ، فلا تستقيل فيها دنياك وآخرتك» 3 .
الوفاء بالعهد
أما بالنسبة إلى ضرورة الالتزام بالعهود والوفاء بها ، حتى لغير المسلمين ، فإن الله تعالى يقول :﴿ … فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ … ﴾ 4 .
ويقول سبحانه :﴿ … وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ﴾ 5 .
ويقول :﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ … ﴾ 6 .
وفي آية أخرى : ﴿ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا … ﴾ 7. فقد جعل الله العهد مع الأعداء عهداً لله سبحانه .
الشرط الاساس في كل عهد
وبعد . . فإن أمير المؤمنين «عليه السلام» قد قرر : أن الشرط الأساس في كل عهد هو أن يكون «لله فيه رضا» كما ورد في عهده «عليه السلام» للأشتر «رحمه الله» .
وواضح : أن رضا الله سبحانه إنما هو في حفظ مصلحة الإسلام العليا ، وكرامة المسلمين ، وحريتهم في الدعوة إلى الله سبحانه بأمن ودعة واطمئنان .
وحين يكون الداعي للصلح الذي فيه رضا الله سبحانه هو العدو فإن معنى ذلك هو أن العدو قد اعترف بك ، وبموقعك ، وأصبح على استعداد لأن يقبل شروطك العادلة ، ومعنى ذلك هو : أنك تكون قد سجلت نصراً من أقرب طريق وأيسره .
وأما إذا دعاك هذا العدو إلى صلح ظالم وفيه ذل للمسلمين ، ووهن على الإسلام ، فإن من الطبيعي أن ترفض صلحاً كهذا لأنه تسجيل انتصار للعدو من أسهل طريق . .
وثمة شرط آخر : لا بد من توفره في أي عهد ، وذلك من أجل أن يحتفظ بقيمته ، وبفعاليته ، في حسم الصراع ، ثم من أجل أن لا يوجب عقد العهد ضعفاً في موقف المسلمين ، وفتح باب التشكيك في حقهم ، أو إعطاء فرصة المناورة للباطل .
وهذا الشرط لا بد للجانب المحق من الاهتمام به ، والعمل على توفيره بصورة أجلى وأتم ، وهو أن : «لا تعقد عقداً تجوز فيه العلل ، ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة» .
أي أنه لا بد أن لا تكون في العهد إبهامات يمكن التشبث بها من قبل العدو ، كما أنه لا بد أن يكون نفس العهد هو المعيار والمرجع والفيصل في الأمور ، فلا يعتمد على مواعيد أو لحن قول ، فإن ذلك يوجب وهناً في العهد نفسه ، وفيه فتح باب النقض ، والخيانة ، من دون أن يكون ثمة حرج ظاهر في ذلك .
وذلك يعتمد على نباهة ودقة ذلك الذي يتصدى لعقد العهد ، وهو يتحمل مسؤولية أي تقصير في هذا المجال .
العهود لا تنقض ، وهي ملزمة للجميع
1 ـ ونجد في نص المعاهدة التي كتبها علي أمير المؤمنين «عليه السلام» فيما بين ربيعة ، اليمن ، ما يدل على أن العهد ملزم لكل الآخرين الذين ينتمي إليهم المباشرون لعقد العهد . . وذلك يقطع أي عذر ، ويمنع من أي تعلل ، أو محاولة خداع .
وهذا مطلب عادل ، وسليم ، فإن كل الأمور التي تمس حياة المجتمعات ، لا يمكن أن يعتمد فيها مبدأ موافقة كل فرد منها ولا سيما مع اختلاف المصالح ، وتشتت الآراء ، وتباين الأهواء ، حسبما ذكر أمير المؤمنين «عليه السلام» في الفقرة المنقولة عنه في عهده للأشتر النخعي «رحمه الله» . .
2 ـ إن عتب العاتبين ، وغضب الغاضبين ، لا يجوز أن يجعل ذريعة لنقض العهد ، ما دام أن إرضاء كل أحد غير ممكن ، ولا سيما في الأمور المرتبطة بمستقبل الجماعات ، وعلاقاتها ومواقفها ، حتى ولو كان العاتبون والغاضبون فريقاً ثالثاً ، يريد أن يحصل على مكاسب سياسية أو غيرها ، ويكون له دور ما في التحرك السياسي ، أو تأثير ـ إيجابي أو سلبي ـ على ساحة الصراع .
فإذا كان القانون العام هو عدم نقض العهد بسبب ذلك ، فلا بد أن تنقطع أطماع الطامعين ، ما دام أن عتبهم لن يجدي نفعاً ، ولن يؤثر شيئاً .
3 ـ إن العهد لا ينقض لأجل استذلال قوم قوماً ، ولا لمسبة قوم قوماً ؛ فإن تعرض فريق للاستذلال من قبل فريق آخر ، بسبب عقده للعهد ، وكذا اتخاذ عقد العهد من قوم وسيلة لتعييرهم ومسبتهم ، لا يبرر للعاقدين له نقض عهدهم . .
وإذاً . . فإن من يقدم على عهد ، لا بد وأن يعلم مسبقاً : أنه لا بد له من الوفاء بما عقده ، حتى في أشق الأحوال ، وأصعبها ، فهو إذن عالم بما يفعل ، ومطلع على نتائجه مسبقاً ، وقد أقدم مختاراً على ذلك . . فعليه أن يتحمل نتائج ما أقدم عليه . .
وقد أشار علي أمير المؤمنين «عليه السلام» إلى ذلك كله في العهد الذي كتبه بين اليمن وربيعة ، فقد جاء فيه :
« . .لا ينقضون عهدهم لمعتبة عاتب ، ولا لغضب غاضب ، ولا لاستذلال قوم قوماً ولا لمسبة قوم قوماً على ذلك شاهدهم وغائبهم ، وسفيههم وعالمهم ، وحليمهم وجاهلهم ، ثم إن عليهم عهد الله الخ . .» 8 .
احترام امور المعاهدين
وحين يكون المعاهدون يتمتعون بحماية دولة الإسلام ، فإن أموالهم ـ كأموال المسلمين ـ لا تمس ، بل تبقى لهم ، ويمارسون حريتهم التجارية بصورة تامة . .
قال علي أمير المؤمنين «عليه السلام» في كتاب له إلى عمال الخراج :
«ولا تمسن مال أحد من الناس ، مصل ، أو معاهد ، إلا أن تجدوا فرساً ، أو سلاحاً الخ . .» 9 .
المعاهدون لا يجفون ولا يقصون
وقد كتب علي أمير المؤمنين «عليه السلام» إلى بعض عماله : «واعزز المسلمين ، ولا تظلم المعاهدين» 10 .
وكتب أيضاً إلى عامل آخر له ، يقول :
«أما بعد ، فإن دهاقين أهل بلدك شكوا منك غلظة وقسوة ، واحتقاراً وجفوة ، ونظرت فلم أرهم أهلاً لأن يدنوا لشركهم ، ولا أن يقصوا ويجفوا لعهدهم ، فالبس لهم جلباباً من اللين تشوبه بطرف من الشدة ، وداول لهم بين القسوة والرأفة ، وأمزج لهم بين التقريب والإدناء والإبعاد والإقصاء» 11 .
من نتائج الصلح والعهد
وعن نتائج الصلح والعهد ، فهي :
1 ـ دعة الجنود .
2 ـ الراحة من الهموم .
3 ـ الأمن لبلاد المسلمين .
وذلك معناه : أنك أصبحت قادراً على التخطيط للمستقبل لأنك قد ارتحت من همومك ، وأصبحت قادراً أيضاً على تنفيذ خططك ، لأنك تملك الوقت الكافي ، والطاقات الفاعلة ، المهيأة للعمل الجاد والدائب ، دونما مانع أو رادع . .
كما أن هذا السلم والأمن لسوف يجنب بلادك التعرض للأزمات الإقتصادية الحادة ، ويحفظ مرافقها الإقتصادية والحيوية من التدمير ، أو التعطيل ، أو صرفها في مواجهة متطلبات الحرب .
هذا ، عدا عن حفظ القوى الفاعلة والمؤمنة من أن تتعرض للتدمير ، أو للتشويه ، ثم ما ينشأ عن ذلك من آثار إجتماعية لا تجهل .
ويجب أن لا ننسى أن حالة عدم الاستقرار ، بل والخوف وعدم الأمن في أحيان كثيرة ، من شأنها أن تشل حركة المجتمع في المجالات المختلفة ، وتمنعه من أن يقوم بدوره على النحو المطلوب والمؤثر .
ثم هناك الحالة الفكرية والنفسية وكثير من السلبيات الأخرى ، التي تنشأ عن ظروف الحرب ، وتتفاعل بصورة تصاعدية في كثير من المجالات ، والقطاعات . .
وكل ذلك يمثل هموماً حقيقية لأي حاكم يشعر بمسؤولياته الإلهية ، والإنسانية تجاه مجتمعه وأمته .
العهد . . والحذر
وإذا كان عقد العهد مع العدو لا يعني أن العدو قد تنازل عن كل طموحاته ، وصرف النظر عن كل مراداته وخططه ، فإنه ربما يكون قد قارب ليجد الفرصة للوثوب ، وإيراد الضربة القاصمة . .
فقد جاء النهي عن الاطمئنان لهذا العدو ، حيث قد تقدم قول أمير المؤمنين «عليه السلام» في عهده للأشتر : «ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه ؛ فإن العدو ربما قارب ليتغفل ، فخذ بالحزم واتهم في ذلك حسن الظن» .
وقال تعالى :﴿ … وَخُذُوا حِذْرَكُمْ … ﴾ 12.
الخيانة في حجمها الكبير
وبما أن الله سبحانه قد جعل عهده وذمته أمناً أفضاه بين العباد برحمته ، وحريماً يسكنون إلى منعته ، ويستفيضون إلى جواره ، فإن الشرط الأساس فيه هو أنه لا إدغال ، ولا مدالسة ولا خداع فيه ؛ فإذا رأى أن العدو لا يعمل بشروط الصلح ومقتضيات العهد ، وإنما هو يتآمر ، ويعد العدة للغدر ، فإن نفس هذه الأعمال تكون نقضاً منه للعهد ، وتخلياً عن شروطه ، فلا معنى حينئذٍ للالتزام بهذا العهد من طرف واحد ، وإنما لا بد من نبذ العهد إليه ومعاملته معاملة الخائن المجرم ، قال تعالى :﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ﴾ 13.
وعن علي «عليه السلام» : الوفاء لأهل الغدر غدر عند الله ، والغدر بأهل الغدر وفاء عند الله 14 .
وبالنسبة إلى بني النضير ، فإنهم قد مارسوا الخيانة في أبشع صورها وأفظعها ، حين تآمروا على القيادة الإسلامية والإلهية ، فرد الله كيدهم إلى نحورهم ، وحفظ الله نبيه ، وأعز دينه ، وأدال المسلمين من أعدائهم ، من أسهل الطرق ، وأيسر السبل .
الوفاء بالعهد ضرورة حياتية
ونجد أمير المؤمنين «عليه السلام» قد أوجب على واليه الوفاء بالعهد ، بل هو قد طلب منه أن يجعل نفسه جُنة دون ما أعطاه .
وقد علل ذلك : بأنه من الأمور التي اتفقت عليها جميع الناس ، رغم تفرق أهوائهم ، وتشتت آرائهم ، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم ، وذلك انطلاقاً من إحساسهم بضرورة ذلك ، حين رأوا : عواقب الغدر الوخيمة ، التي من شأنها أن تدمر حياتهم ، وتقضي على كل نبضات الراحة والاستقرار فيها .
ولكنهم قد خالفوا ضميرهم ووجدانهم ، وكل المعايير الأخلاقية ، والعقلية في تعاملهم مع المسلمين ، حيث أجازوا لأنفسهم نقض عهودهم معهم ، وتحمل كل ما لذلك من تبعات ونتائج . . وذلك يدلل على عدم انسجامهم مع قناعاتهم ولا مع فطرتهم في مواقفهم تجاه الإسلام والمسلمين .
وقد اعتبر «عليه السلام» : من يخيس بعهده ، ويغدر بذمته ، ويختل عدوه ، ويجتري على الله جاهلاً لا يعرف الأمور ومواردها ، ولا الصالح من الطالح ، وهو شقي أيضاً ، لأنه بالإضافة إلى أنه يكون متجرئاً على الله سبحانه في ذلك ، فإنه يكون قد جر على نفسه الكثير من المصائب والبلايا نتيجة لسياساته الخاطئة هذه .
وخلاصة الأمر : أن العهد في الإسلام ليس وسيلة للمكر والخداع بهدف الإيقاع بالعدو ، وإنما هو أمانة ضميرية ، ذات قاعدة إيمانية أساسية ؛ فلا بد من رعايتها والوفاء بها ولا يسوغ نقض العهد «بغير حق» حتى ولو كان فيه ما يوجب الضيق كما تقدم في عهد علي «عليه السلام» للأشتر ، وروي عن النبي «صلى الله عليه وآله» قوله : «لا دين لمن لا عهد له» 15 .
وقد مدح الله من يفي بعهده فقال : ﴿ … وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا … ﴾ 16.
وقد ذم علي «عليه السلام» عمرو بن العاص فقال : «ويُسأل فيبخل ، ويخون العهد» 17 .
وقد ذم «عليه السلام» أهل البصرة بقوله : «وعهدكم شقاق» 18 .
وقال «عليه السلام» : «وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تغضبون وأنتم لنقض ذمم آبائكم تأنفون» 19 .
الغدر عجز وعدم ورع
وقد قال علي «عليه السلام» : «إن الوفاء توأم الصدق ، ولا أعلم جنة أوقى منه ، ولا يغدر من علم كيف المرجع . ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيساً ، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة ، ما لهم ؟ قاتلهم الله . قد يرى الحُوَّل القُلَّب وجه الحيلة ، ودونه مانع من أمر الله ونهيه ؛ فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها ، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين» 20 .
الغادر هو الذي يعاقَب
وطبيعي أن ينال العقاب خصوص أولئك الذين ينقضون العهد ، ويخونون أماناتهم ، وقد أوضح ذلك أمير المؤمنين «عليه السلام» حينما قال :
«مع أني عارف لذي الطاعة منكم فضله ، ولذي النصيحة حقه ، غير متجاوز متهماً إلى بريء ، ولا ناكثاً إلى وفيّ» 21 .
السلاح في أيدي المعاهدين
كما أن من الطبيعي : أن يحتاط الحاكم الإسلامي ، فلا يترك في أيدي المعاهدين ، الذين يعيشون في ظل حكمه ، وتحت حمايته ، من السلاح والتجهيزات ما يشكل خطراً على أمن الدولة ، مع التأكيد على احترام كل ما يعود إليهم من أموال وممتلكات ، وعدم المساس بها في أي حال . قال علي أمير المؤمنين «عليه السلام» : « . .ولا تمسن مال أحد من الناس ، مصل ولا معاهد ، إلا أن تجدوا فرساً أو سلاحاً يعدى به على أهل الإسلام ؛ فإنه لا ينبغي للمسلم أن يدع ذلك في أيدي أعداء الإسلام ؛ فيكون شوكة عليه .. الخ . .» 22 .
موقف له دلالاته :
ومن المعلوم : أن مواقف علي أمير المؤمنين تعتبر التجسيد الدقيق والحي لمفاهيم الإسلام ، وأحكامه ، وسياساته . والتاريخ يحدثنا : أنه حين بلغه «عليه السلام» إغارة خيل معاوية على بلاد المسلمين ، خطب «عليه السلام» خطبة الجهاد المعروفة ، وقد جاء فيها :
«هذا أخو غامد ، وقد وردت خيله الأنبار ، وقد قتل حسان بن حسان البكري ، وأزال خيلكم عن مسالحها .
ولقد بلغني : أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة ، والأخرى المعاهدة ، فينتزع حجلها ، وقلبها ، وقلائدها ، ورعاثها 23 ما تمنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام ، ثم انصرفوا وافرين ، ما نال رجلاً منهم كلم ، ولا أريق لهم دم ؛ فلو أن امرءاً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً ، بل كان به عندي جديراً» 24 .
ونحن نسجل هنا ما يلي:
1 ـ إن هذا الموقف منه «عليه السلام» يوضح لنا قيمة الإنسان في الإسلام ، واهتمامه البالغ في الحفاظ على موقعه ، وعلى كرامته ووجوده . حتى إن الرجل الأول في الدولة الإسلامية ليعاني من الألم والأسى بسبب الاعتداء على كرامة الإنسان ما يجعل الموت أسفاً على ما جرى أمراً مقبولاً ، بل يجعله هو الجدير واللائق به . ثم هو «عليه السلام» يقرر : أن هذا الحدث لا بد أن يؤثر بهذا المستوى أيضاً في كل إنسان مسلم ، من كان ومهما كان .
2 ـ إنه يعطي : أن أمير المؤمنين «عليه السلام» ـ وهو الذي يمثل نظرة الإسلام الأصيلة ـ ينظر بعين المساواة إلى كل من هم تحت سلطته ، أو تحت حمايته ، فهو يتألم للمرأة كما يتألم للرجل ، وهو يتألم كذلك للمعاهدة والتي هي على غير دينه ، بنفس المستوى الذي يتألم فيه للمسلمة ، وهو يطلب موقفاً حازماً تجاه الاعتداء على كرامتهما معاً من كل مسلم ، بنفس القوة والفعالية والتأثير في رفع الظلامة وإعادة الحق إلى نصابه .
3 ـ إنه «عليه السلام» قد حاول إثارة الناس وتحريكهم بأسلوب عاطفي يلامس مشاعرهم وأحاسيسهم ؛ فتحدث عن سلب المغيرين حلي النساء المسلمات والمعاهدات ، وفي ذلك إثارة عاطفية ، وتحريك لاشعوري للناس ، الذين سوف يسوؤهم الاعتداء على هذا الموجود الذي يمثل جانب الرقة والحنان في المجتمع .
4 ـ إنه «عليه السلام» إنما توقع من المرء «المسلم» أن يموت أسفاً ، واعتبره جديراً بذلك ، وحرياً به . . ولعل هذا الأمر يشير إلى أن الإسلام هو ذلك الدين الذي يغرس في الإنسان معاني إنسانيته ، ويربيه تربية إلهية يحيا بهـا وجدانه ، وتتنامى فيها خصائصه ومزاياه الإنسانية ، فيصبح حي الشعور ، صافي النفس ، سليم الفكر ، إلهي المزايا . .
5 ـ كما ونجده صلوات الله وسلامه عليه . . قد أهدر دماء المعتدين ، واعتبر أن أدنى جزاء لهم هو أن ينالهم كلم وجرح ، وتهرق دماؤهم ، رغم أن ما ارتكز عليه بيانه ، وجعله منطلقاً له في تقريره هذا الجزء القاسي هو أمر لا يزيد على سلب الحجل والقلب والرعاث من امرأة مسلمة وأخرى معاهدة .
وذلك لأن الميزان في العقاب إنما هو درجة الجرأة على الله وعلى المحرمات ، ثم ما ينشأ عن ذلك من فساد وإفساد ، في البلاد والعباد .
6 ـ إنه «عليه السلام» إنما ركز على الجانب الإنساني ؛ فحاول أن يؤكد للناس لزوم نصرة الضعيف ، والدفاع عنه والحفاظ عليه ، وأن ذلك هو مسؤولية كل فرد قادر بالنسبة إليه . . وقد أثار انتباه الناس إلى جانب الضعف هذا حين قال : «ما تمنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام» . . وليكن من ثم مبدأ نصرة الضعيف والدفاع عنه من الأوليات التي يفرضها الوجدان الحي ، والضمير الإنساني .
7 ـ ثم هناك الجانب التربوي ، الذي يستهدف تركيز مفهوم العدالة في التعامل ، فلا يفرق بين مسلم ومعاهد ، ثم مفهوم عدم التغاضي عن المعتدين والمجرمين ، وعدم التواكل في رد العدوان . إلى غير ذلك مما لا مجال لتفصيله هنا 25.
- 1. آثار الحرب في الفقه الإسلامي ص659 عن السياسة الشرعية ، للبنَّا .
- 2. هذا يؤيد بما قدمناه في الجزء الثاني من هذا الكتاب من أن العرب كانوا أوفياء بعهودهم ، وقد فرض عليهم هذا الأمر طبيعة الحياة التي كانوا يعيشونها حيث رأوا : أنه لا يمكنهم العيش بدون ذلك .
- 3. نهج البلاغة (بشرح عبده) ج3 ص117 و 118 ومعادن الحكمة ج1 ص109 وتحف العقول ص126 ودعائم الإسلام ج1 ص350 والبحار ج8 ص609 ثم شرحه ، وج77 ص240 عن النهج والتحف ، ومستدرك الوسائل ج3 ص195 وأضاف العلامة المحقق الأحمدي : أن بعضه قد نقل في كنز العمال ج15 ص165 و 166 عن الدينوري ، وابن عساكر ، ومآثر الإنافة ج3 ص6 عن صبح الأعشى ، ومفتاح الأفكار . وأشار إليه النجاشي في رجاله ص7 وذكر سنده أيضاً الشيخ في الفهرست . وقال في معجم رجال الحديث ج3 ص222 : طريق الشيخ إلى عهد مالك الأشتر صحيح . وذكره في نهج السعادة ج5 ص58 عن جمع ممن تقدم ، وقال : روى قطعة منه مسنداً في تاريخ الشام ج38 ص87 وفي النسخة المرسلة ص193 . وذكر في خاتمة المستدرك ص218 عن مجلة المقتطف عدد 42 ص248 : أنه نقله عن نسخة السلطان بايزيد الثاني ، وفي دستور معالم الحكم ص149 شواهد لهذا العهد ، ونقله في مصادر نهج البلاغة عن جمع ممن تقدم ، وعن نهاية الإرب للنويري ج6 ص19 . ثم ذكر في مصادر نهج البلاغة بعضاً من شرح هذا العهد ، مثل : آداب الملوك لرفيع الدين التبريزي ، وأساس السياسة في تأسيس الرئاسة للكجوري الطهراني ، والتحفة السليمانية للبحراني ، والراعي والرعية لتوفيق الفكيكي ، والسياسة العلوية لآل مظفر (خطية) . وشرح عهد أمير المؤمنين «عليه السلام» للمجلسي ، وشرح عهد أمير المؤمنين «عليه السلام» للمولى محمد باقر القزويني ، وشرح عهد أمير المؤمنين «عليه السلام» للميرزا حسن القزويني ، وشرح عهد أمير المؤمنين «عليه السلام» للميرزا محمد التنكابني . وشرح عهد أمير المؤمنين «عليه السلام» للشيخ هادي القائيني البيرجندي ، وشرح الفاضل بدايع نكار المثبت في المآثر والآثار ، ونصايح الملوك لأبي الحسن العاملي . ومقتبس السياسة وسياج الرئاسة للشيخ محمد عبده ، انتزع من شرحه وطبع على حدة ، والقانون الأكبر في شرح عهد الأشتر للسيد مهدي السويج (مخطوط) ومع الإمام في عهده لمالك الأشتر للشيخ محمد باقر الناصري . ونزيد هنا في ما يرتبط بشروحه ، ما أورده السيد هبة الدين الشهرستاني في مقدمته لكتاب الراعي والرعية ص8 و 9 والشيخ آقا بزرك الطهراني في كتابه الذريعة ص373 و 375 وج15 ص353 ، حيث أضافا إلى شروح العهد : شرح الحسين الهمداني الموسوم بهدية الحسام لهداية الحكام .
وشرح محمد صالح الروغني القزويني ، من علماء القرن الحادي عشر ، ودستور حكمت . وترجمه الوصال الشيرازي المتوفى سنة 1274 ونظمه شعراً بالفارسية . وترجم محمد جلال هذا العهد إلى التركية ، ونظمه شعراً بالتركية . فرمان مبارك لجواد فاضل . وعنوان رياست (ترجمة لهذا العهد أيضاً للسيد علي أكبر بن سلطان العلماء السيد محمد النقوي اللكنهوي) . هذا كله عدا عن شرح شراح النهج له في ضمنه كالمعتزلي وابن ميثم وغيرهما .
بقي أن نشير إلى أن صاحب الذريعة قد قال في ج15 ص262 : (نسخة العهد بخط ياقوت المستعصمي موجودة في المكتبة الخديوية بمصر تاريخ فراغها سنة ثمانين وستمائة كما في فهرسها) . - 4. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 4، الصفحة: 187.
- 5. القران الكريم: سورة الإسراء (17)، الآية: 34، الصفحة: 285.
- 6. القران الكريم: سورة النحل (16)، الآية: 91، الصفحة: 277.
- 7. القران الكريم: سورة الأنفال (8)، الآية: 61، الصفحة: 184.
- 8. نهج البلاغة ج3 ص148 الرسالة رقم 74 .
- 9. نهج البلاغة بشرح عبده ج3 ص90 الرسالة رقم 51 .
- 10. تاريخ اليعقوبي ج2 ص200 و 201 .
- 11. نهج البلاغة ج3 ص21 الرسالة رقم 19 ، وأنساب الأشراف ج2 ص161 وتاريخ اليعقوبي ج2 ص203 .
- 12. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 102، الصفحة: 95.
- 13. القران الكريم: سورة الأنفال (8)، الآية: 58، الصفحة: 184.
- 14. نهج البلاغة ج3 ص210 الحكمة رقم 259 وغرر الحكم ج1 ص60 وروض الأخيار ص111 وربيع الأبرار ج 3 ص375 ومستدرك الوسائل ج2 ص249 . وغرر الخصائص الواضحة ص59 ومصادر نهج البلاغة ج4 ص4 وص401 عن بعض من تقدم وعن شرح النهج للمعتزلي ج1 ص216 .
- 15. السنن الكبرى ج9 ص231 وغرر الخصائص الواضحة ص60 .
- 16. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 177، الصفحة: 27.
- 17. نهج البلاغة ج1 ص145 الخطبة رقم 80 .
- 18. نهج البلاغة الخطبة رقم 12 ج1 ص40 والأخبار الطوال ص151 وربيع الأبرار ج1 ص308 .
- 19. نهج البلاغة الخطبة رقم 102 ج1 ص204 .
- 20. نهج البلاغة بشرح عبده ج1 ص188 الخطبة رقم 40 .
- 21. نهج البلاغة ، بشرح عبده ج3 ص41 الرسالة رقم 29 .
- 22. نهج البلاغة ج3 ص90 الرسالة رقم 51 .
- 23. الرعاث : جمع رعثة : القرط ، والحجل : الخلخال ، والقلب : السوار .
- 24. نهج البلاغة ، بشرح عبده ج1 ص64 و 65 خطبة رقم 26 والأخبار الطوال ص211 و 212 والغارات ج2 ص475 و 476 والمبرد في الكامل ج1 ص20 والعقد الفريد ج4 ص70 ومعاني الأخبار ص310 وأنساب الأشراف (ط مؤسسة الأعلمي) ج2 ص442 .
- 25. الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) ، العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي ، المركز الإسلامي للدراسات ، الطبعة الخامسة ، 2005 م . ـ 1425 هـ . ق ، الجزء التاسع .