إسئلنا

المصلحة…

في الحياة العملية هناك منطقان يحركان الإنسان سلوكيا، هناك منطق القيم، وهناك منطق المصلحة. وهذان المنطقان يختافان من حيث الحكمة والطبيعة. فمنطق القيم تتجلى فيه قوة الضمير، وينتمي إلى عالم الأخلاق، أما منطق المصلحة فتتجلى فيه قوة المنفعة، وينتمي إلى عالم السياسة، أو عالم الربح والخسارة. والروح العامة في منطق القيم تتجاوز الذات، ولا تجعل من الذات معيارا في تحديد الموقف والنشاط السلوكي، بينما الروح العامة في منطق المصلحة تدور في نطاق الذات، وتجعل من الذات معيارا في تحديد الموقف والنشاط السلوكي. في منطق القيم يظهر الثبات والإستقامة، وهذا من طبيعة القيم، وفي منطق المصلحة يظهر التقلب وعدم الثبات لكون المصلحة تتبدل وتتقلب، ومن يدور في فلكها يتبدل ويتقلب تبعا لحركتها. ولهذا فإن منطق القيم هو أكثر تجليا أمام الناس، وأبعد مدى في النظر، وأشد ثباتا ورسوخا، وأعظم تبجيلا عند الأخرين، وهذا بخلاف منطق المصلحة.
وهناك من الناس من تحركه القيم، وهناك من تحركه المصلحة. ومن تحركه القيم هو أرفع درجة من الذي تحركه المصلحة، لأن منزلة القيم أرفع من منزلة المصلحة. ولا شك أن الذي تحركه القيم يكون أكثر صفاء في بواعثه من الذي تحركه المصلحة، وأجزل عطاء أيضاً. لأن المصلحة لها أجل أقصر من أجل القيم، ولأن المصلحة محكومة بحدود الإمكان، والإمكان الضيق كذلك، والمحدد غالباً بدقة، في حين أن القيم محكومة بحدود الاستطاعة، التي تعني بذل قصارى الجهد.
والفرق بين الإمكان والاستطاعة، أن الإمكان ناظر بشكل أساسي إلى الواقع الخارجي وشروطه، في حين أن الاستطاعة ناظرة إلى الذات بما تحمل من طاقات ومقومات. ويظهر هذا الفرق في أن عامل الإمكان قد يقف أمام المشكلة ويتراجع بسببها، بخلاف عامل الاستطاعة الذي يحاول التغلب على المشكلة وتجاوزها. والربط بين القيم والاستطاعة نفهمه من قوله تعالى ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ … ﴾ 1، والتقوى هي الإطار الناظم لجميع القيم. وكل التكاليف التي قررها الشرع على العباد متوقفة على الاستطاعة، قال الإمام جعفر بن محمد الصادق ـ عليه السلام ـ “ما كلف الله العباد كلفة فعل ولا نهاهم عن شيء حتى جعل لهم الاستطاعة ثم أمرهم ونهاهم”. وقال أيضاً: “وإنما وقع التكليف من الله تبارك وتعالى بعد الاستطاعة ولا يكون مكلفاً للفعل إلا مستطيعاً”.
وهذا التقسيم بين منطق القيم ومنطق المصلحة، لا يعني أن القيم لا تحقق مصلحة، أو أنها تتعارض مع المصلحة ولا تتوافق معها. كما لا يعني أن المصلحة لا تحقق قيماً، أو أنها تتعارض مع القيم ولا تتوافق معها، هذا من حيث القاعدة الكلية. والمشكلة تظهر حين تُفضّل المصلحة على القيم أو تتعارض معها، فتتحول إلى البحث عن منافع ومكاسب لا يراعى فيها بالضرورة حقوق ومصالح الآخرين، وقد يترتب عليها ضرر الآخرين أيضاً.
وبحكم قرب الثقافة من القيم، فإن المثقف يكون أقرب إلى عالم القيم، من حيث الافتراض، وهذه ألمع صورة للمثقف إذا تحققت في شخصيته وطباعه وسلوكه، فإن المثقف في صورته الأخلاقية، ينبغي أن يتحوّل إلى مصدر يستلهم منه الناس القيم التي يفترض أن يكون حارساً لها، ومدافعاً عنها، وعاملاً على تطبيقها. وبحكم قرب السياسة من المصلحة، فإن السياسي يكون أقرب إلى عالم المصلحة من حيث الواقع الفعلي، حيث يتمرس ويتطبع بها بفعل الأجواء التي يحتك بها، والممارسات التي يتعايش معها.
والمثقف الذي يكون قريباً من عالم القيم، لا يعني أنه يكون بعيداً عن عالم المصلحة، والسياسي الذي يكون قريباً من عالم المصلحة، لا يعني أنه يكون بعيداً عن عالم القيم2.

  • 1. القران الكريم: سورة التغابن (64)، الآية: 16، الصفحة: 557.
  • 2. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة  عكاظ ـ الأربعاء / 25 مايو 2005م، العدد 14151.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى