في الحديث عن الثقافة والمثقفين هناك مفارقة لافتة، هي أن مثقف الحضارة الإسلامية كان مثقفاً دينياً بطبيعته، يجعل من الدين مرجعية له، ونظاماً فكرياً يستند عليه في بناء تصوراته، واستنباط أفكاره، وفي التعامل مع ثقافات الآخرين. في حين أن مثقف الحضارة الغربية هو مثقف غير ديني بطبيعته، وليس معنياً بالعلاقة مع الدين في تعامله مع الأفكار والمفاهيم والتصورات، قد يقترب منه البعض كالذي ظهر في أعمال الناقد الإنجليزي توماس إليوت، لكن هذا الاقتراب لا يشكل معياراً ثابتاً على الإطلاق، وإنما هو تعبير عن حالات خاصة لا غير. وإلى هذا النموذج ينتمي المثقف المعاصر، بما في ذلك مثقف العالم العربي والإسلامي، المثقف الذي تقلصت علاقته مع الدين إلى درجة تكاد تضمحل، ولم يعد الدين يمثل مرجعية فكرية وفلسفية عند قطاع واسع من المثقفين. وهذا ما يفسر ما ذهب إليه الجابري حين يصور كيف أن مفهوم المثقف بقي مفهوماً غريباً رغم انتشاره الواسع، والذين يستعملونه عن علم وهم قلة حسب قوله، ينشدون إلى مرجعيته الأوروبية، ويعطونه معنى من هناك في خطابهم العربي، وهو معنى غريب عن الفضاء الثقافي العربي، لكونه يرتبط بظروف تاريخية تقع خارج التاريخ العربي.
ومن هنا جاءت فكرة أن المثقف ينتمي إلى ما هو إنساني، ولا ينتمي إلى ما هو ديني، وهي الفكرة الموهومة التي أسست للتصور العلماني لمفهوم المثقف. وقد ترسخت صوره هذا المفهوم في فضائنا الثقافي، الصورة التي فككت علاقة المثقف بالدين، وقطعت صلته المرجعية بالحضارة الإسلامية. وليس صحيحاً ومنطقياً ما يدافع به البعض حين يواجه مثل هذا التشكيك أو الاتهام، ويصور حاله بالانتماء التاريخي أو المعنوي أو الوجداني إلى الحضارة الإسلامية، في حين أنه ثقافياً ينتمي إلى المرجعية الأوروبية التي يرتبط بها تعلماً وتعليماً، تثقفاً وتثقيفاً، ويرجع إليها مع كل حاجة، ويتحمس في الحديث عنها. والتكوين الثقافي بطبيعته يتغلب على أي انتماء أو ارتباط آخر، ويحجب الرؤية عن أي انتماء آخر. ويشكل جوهراً للإنسان يجعل من أي انتماء آخر لا يكون إلا ثانوياً أو هامشياً.
ومفهوم المثقف الديني ينطبق على كثير من الأسماء التي وصلتنا من الحضارة الإسلامية، وبقينا نبجلها ونرفع من شأنها، ولا نتوقف في الحديث عنها، كالكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد والبيروني والخوارزمي وابن طفيل وابن خلدون وغيرهم من قائمة الأسماء الطويلة. وهؤلاء يمثلون أقرب فئة إلى المثقفين في التاريخ الفكري للحضارة الإسلامية، باعتبارهم الفئة التي عرف عنها أنها تستقل برأيها، وتعبر عن نزعة مستقلة، وفكر نقدي، وانفتاح على الثقافات في عصرهم. فحين يتحدث محمد أركون عن الفلاسفة الأوروبيين الذين يصفهم دورهم بالحاسم في تدشين ما يسميه بالموقف النموذجي للتيار الذي أدى إلى انبثاق وظهور ما ندعوه بالمثقف، فإن النماذج الكبرى كما يصفهم في نظره من المثقفين الذين مارسوا مثل ذلك الدور في الحضارة الإسلامية، فإنه يسمي الجاحظ والتوحيدي، إلى جانب الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد. وهؤلاء الآخرون هم الذين مارسوا كما يقول البحث الفلسفي الذي لا يحذف الفكر الديني وإنما يهضمه ويتمثله. ويتناغم مع هذا الرأي محمد عابد الجابري الذي يقول إننا نرى بوضوح تام إنه إذا كان ثمة فئة من العاملين بفكرهم في الحضارة العربية الإسلامية تنطبق عليها أكثر من غيرها مقولة المثقفون، فهي بكل تأكيد الفئة التي تحمل اسم المتكلمين والفلاسفة. لأن هؤلاء في نظره كانوا أكثر من غيرهم الذين جعلوا من الكلام تقريراً لرأيهم الشخصي في قضايا الأمة والمجتمع.
هذه المفارقة هي ما ينبغي أن يعيد المثقفون النظر فيها، فالعودة إلى الدين هي عودة إلى الأمة1.
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ، العدد 13878.