دعا الدين الإسلامي الحنيف إلى ضرورة تحرير العقل الإنسانيّ من الأمور التي تلصق به كالخرافات والأباطيل فالعقل هو السمة أو الشيء الوحيد الذي يُميّز الكائن البشري عن سائر الكائنات الحية الأخرى كالحيوانات والنباتات فبه يتأمل الكون وكما ينظر الى الحرفية العالية في خلقه وهي الغاية التي خلق الله تعالى من اجله الكون لكي نعتبر به ونستفيد منه وندرسه ففي هذا السياق اعتنى الإسلام ومنذ اليوم الأول من بزوغ شمسه بالعقل البشري عناية عظيمة وبيّن قيمته الكبيرة ومنزلته العالية ولعل في كلام الله تعالى ما يؤكد تكريم بني البشر على سائر خلق الله بالعقل إذ يقول }وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا| الإسراء/70، والمدقق في آيات الكتاب المبين يلحظ أن إعمال العقل بالنظر والتفكّر والتأمّل والتدبّر في خلق الكون بهذه الصيغة المعقدة جاء دائما بصيغة الثناء والمدح كما صيغة الحضّ والطلب قال تعالى: }قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ| (يونس/101)، وقال تعالى: }أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ الله السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى…| (الروم/8).
يكفي الإسلام تكريماً للعقل ورفعاً لشأنه أن جعله مناطًا للتكليف فلا يتوجه الخطاب الشرعي إلّا إلى العقلاء من الناس ويسقط التكليف والمسؤولية عمن لا يملك هذه النعمة الالهية والجوهرة التي لا تقدر بثمن وتظهر عناية الإسلام بحفظ العقل وتحريره من خلال أمرين اثنين وهما:
اولاً : تشريع قوانين ومحددات تحفظ العقل من التعطيل والانحراف والجمود وذلك من خلال ذم تعطيل استعمال هذا الكنز وعدم اشغاله في الشأن والغرض الذي خُلق لأجله ومنها استخراج ما في الكون من جواهر ومنافع حيث لا يمكن ذلك إلا من خلال العقل قال تعالى: }أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ| (الغاشية/17-20)، وقال تعالى: }أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ الله مِنْ شَيْءٍ| (الأعراف/185)….. وغيرها من الآيات التي تؤكّد هذا المعنى العظيم كما حثَّ القرآن الكريم الذي هو دستور الاسلام على أهمية تحرير العقل من مفاسد التقليد الاعمى والسير بغير هدى كتقليد من وجد عليه سلفه من الآباء والأجداد من تقاليد باليه وقيم وعادات لم يُنزل بها من سلطان ولا يوجد ما يثبت صحتها كما ذمّ تقليد الكفار والمشركين والمنافقين من اسلافهم والركون الى ما اتبعوه من انحراف العقيدة والشرك والضلال وهو ما أشارت إليه الآية المباركة إذ يقول تعالى: }وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ الله قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ| (البقرة-170) ولم يكتفِ الاسلام بحفظ العقل وتحريره من مفسدة القليد الاعمى بل حفظه من خطورة انحرافه وخروجه من نطاق ما خُلق من أجله وهو وضع المنهج الصحيح ورفع العوائق والموانع التي تعطّله عن وظيفته الصحيحة والاتجاه باتجاه الخرافة والهوى الباطل, ومن يُمعن النظر في الفرق بين اشغال العقل في الدين الإسلامي الحنيف واشغاله في المفهوم الغربي يستنتج أن الغرور والهوى والخرافة هي صفات العقل العلماني الغربي بينما يتصف العقل الإسلامي بالتوازن والموضوعية؛ إذ لم يتدخّل فيما لا شأن له به كالغيبيات وما شاكلها كما لم يغتر به كما هو حال الغرب حتى هذا اليوم على الرغم من أن العلم الحديث يثبت يوما بعد يوم محدودية العقل التي أكدها الإسلام منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام تقريباً .
ثانيا: تحريم كل ما من شأنه أن يفسد العقل معنويًّا وحسيًّا فقد حرّم كل ما يؤدي الى زوال العقل والاخلال به كُليًّا أو جزئيًّا من خلال تحريم المخدرات والمسكرات التي تعطل العقل وتغيبه أو قد تؤدي إلى زواله تماما فيجعله كالمجنون بل كالحيوان مما يؤدي بصاحبه إلى الموت والهلاك قال تعالى:}يأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء في الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصَّلَوةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ| (المائدة/90) ولما كان للعقل هذه المنزلة المميزة والعناية الفائقة من حيث الخطاب والتقدير فقد أخذ الإسلام منهجا فريدا في تحريره من كل المشتتات والمضيعات له كحراسته من تيه الفلاسفة وتخبط المتمنطقون حيث وضع البرهان كأساس للإيمان الصادق والعقيدة الراسخة، كما انذر وبشدة أولئك الذين يجادلون في آيات الله بغير علم ولا دراية قال تعالى }وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ| (لقمان20) كما أعاب الاسلام على الشخص العاقل تعطيل قواه الادراكية وعلى رأسها العقل، ويصفهم والقرآن الكريم بأنهم بلا إنسانية في قوله:}لهم قلوبٌ لا يفقهون بها ولهم أعينٌ لا يبصرون بها ولهم آذانٌ لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل| ( الأعراف 179).
علي حسين الخفاجي