في سنة 1958م، أصدر الشيخ الأزهري الدكتور محمد يوسف موسى الطبعة الأولى من كتابه (القرآن والفلسفة)، وهو في الأصل القسم الأول من رسالته للدكتوراه التي أعدها باللغة الفرنسية، وناقشها في جامعة السوريون الفرنسية سنة 1948م، وحصل بموجبها على دكتوراه دولة في الفلسفة بدرجة مشرف جدا، وهي أعلى الدرجات التي تمنحها الجامعة هناك، وحملت الرسالة عنوان (الدين والفلسفة في رأي ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط).
وبعد مناقشة الرسالة، قام الدكتور موسى بترجمتها من الفرنسية إلى العربية، وأصدرها في كتابين، الكتاب الأولى حمل عنوان (القرآن والفلسفة)، والكتاب الثاني حمل نفس عنوان الرسالة، وصدر سنة 1959م.
وأول ما يستوقف الانتباه في هذا الكتاب، هو عنوانه اللافت بشدة (القرآن والفلسفة)، ولعله أول كتاب في المجال العربي الحديث والمعاصر يحمل هذا العنوان، ويضع القرآن والفلسفة في حالة اقتران بصيغة ثنائية مركبة، اقتران توافق واتصال، وليس اقتران تخالف وانفصال، وبشكل يثير الانتباه والدهشة، مع أنه على ما يبدو لم يستقبل بطريقة تتسم بإثارة الانتباه والدهشة، ليس هذا فحسب، بل إنه بقي خارج الانتباه، وبعيدا عن الذاكرة والتذكر، وكأنه من المؤلفات التي صدرت ومرت ونسيت ولم تترك أثرا باقيا، حاله كحال عشرات أو مئات أو آلاف الكتابات والمؤلفات التي نسيت عند العرب والمسلمين مع مرور الوقت.
منشأ هذا الانطباع، أنني لم أجد في حدود متابعاتي الفكرية والفلسفية التي لا تتوقف، تذكرا لهذا الكتاب إلا نادرا، لا بالإشارة إلى عنوانه، ولا بالعودة إليه والاقتباس منه، ولا بالحديث والكتابة عنه، ولا بتثبيت أسمه في قائمة المصادر والمراجع، إلى غير ذلك من الصور التي تخرج الكتاب من حالة النسيان إلى حالة التذكر.
وبالإشارة إلى حالي، فإنني لم أتعرف على الكتاب طيلة هذه السنوات الماضية، إلا بعد صدور الطبعة الجديدة منه الصادرة سنة 2012م، لكنني ما إن تعرفت على الكتاب، حتى تساءلت مع نفسي بنوع من الغرابة: هل يعقل أن يوجد كتاب عن القرآن والفلسفة، ويظل مغمورا ومجهولا طيلة هذه الفترة، لا أحد يتذكره ويتحدث عنه، وأخذني حس الفضول العلمي، ودفعني بشوق نحو التعرف عليه، وعلى مادته ومحتوياته، وبعد مطالعته، وجدت نفسي متحفزا نحو الكتابة عنه، وإثارة الانتباه إليه.
ويأتي هذا الكتاب متصلا ومتناغما مع الموقف الرشدي (نسبة إلى ابن رشد)، في الدفاع عن الفلسفة ومشروعية التفلسف والبحث الفلسفي عند المسلمين، ومتخذا من القرآن الكريم إطارا ومصدرا للبرهنة على هذا الموقف، وتثبيته والدفاع عنه، وكاشفا عما بين القرآن والفلسفة من وشائج، تجعل هذه العلاقة تتسم في نظر المؤلف بالصلابة والتماسك، وتعطيها صفة البقاء والثبات، وترسخ فيها خاصية الاتصال منعا من القطع والانفصال1.
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأحد 19 يناير 2014م، العدد 17312.