مقالات

العولمة…

﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ 1.
ها هو العالم يندفع بقوة نحو القرية العالمية الواحدة ، وسنشهد بإذن اللَّه تعالى يوماً نجد فيه العلاقة بين إنسان وإنسان في ‏أقصى العالم أوثق وأمتن بكثير ممّا هي عليه اليوم ؛ علاقات الجيرة وزمالة المدرسة والدرب والعمل . . . فيا ترى ماذا أعدّ المسلمون لذلك اليوم ؟ هل سيبقون حيث هم بانتظار أن تسحقهم عجلات الاندماج العالمي ؟ أم سيصبّون اهتماماتهم ‏ليكونوا أمّة قائدة لهذا التفاعل والاندماج ، أو مشاركين ؛ على الأقلّ ؟
قبل سنين معدودة ، كانت المحطات الفضائية العالمية حلماً ، وكان الانترنيت نوعاً من الخيال ، وكانت الصحافة القارية نوعاً من التفكير غير العلمي . . ولكنّ ذلك كله قد تحقّق كلّه ، بل وأصبح إنجازاً قابلاً للتطوير الواسع . وها هو النظام ‏المدرسي أخذ يخطو خطوات واسعة باتجاه إلغاء البناء المدرسي واكتفاء الطالب بتلقي دروسه عبر أجهزة التلفاز أو الحاسوب ، وهكذا الأمر بالنسبة إلى الإدارات أو الشركات والمعامل ، وذلك كله لتجاوز حاجز المكان واختصار الزمن‏وتوفير أكبر قدر ممكن من التفاهم . أمّا فيما يخصّ القطاع الاقتصادي فهو الآخر سيأخذ الصيغة العالمية ليحلّ محل ‏الاقتصاد المحلي المحدود ، ومن جملة بوادر تكريس هذا الاتجاه الإعلان عن منظمة التجارة العالمية ، حيث سيتم عبر مقرراتها وأساليبها سحق مختلف أنواع العقبات في هذا الإطار .
نعم ؛ لقد كنّا نقرأ بالأمس في كتاب ( صدمة المستقبل‏ ) أو كتاب ( الموجة الثالثة ) أشياء نعتبرها أحلاماً أو خرافات علمية . . ولكنّها تحقّقت ، إذ نلمس ونرى حركة عالمية نحو الاندماج والاندكاك ، فماذا أعددنا ؟ وهل‏سنكون ضيوفاً على العالم الجديد ، علماً أن الضيف فيه لن يكون مكرّماً معزّزاً ؛ بل سيكون ذليلاً تابعاً مهاناً محكوماً بالعبودية ، شاء أم أبى ، فأين نحن من هذا السيل العرم ؟!

الإسلام و مبدأ العولمة

إن رسول اللَّه ‏صلى الله عليه وآله وسلم رفع راية العولمة والعالمية من قبل ، انطلاقاً من قوله تعالى : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا … ﴾ 2، أو قوله سبحانه : ﴿ … تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ 3.
إذن ؛ فراية العولمة كان قد حملها الرسول الأكرم وبشر بها من بعده الأئمة من أهل بيته عليهم أفضل الصلاة والسلام ،ومنذ ذلك اليوم وحتّى هذه اللحظة ، حيث يمر ما يزيد على ألف وأربع مائة سنة ، تُرى هل فكرنا ـ نحن المسلمين ـ في‏حقيقة هذه العولمة ، وكيفيّة التخطيط لها ، وهل أنّ موقعنا منها موقع الضيوف أم المساهمين والمشاركين ، أم القادة لها ؟ . . .
وفي إطار الإجابة على كل هذه التساؤلات أقول : إن هناك ثلاث نظريات في هذا الإطار .
النظرية الأولى : تواجه هذه الحقيقة بالتكذيب التام والعناد لكل ما يطرح ويدعم العولمة ـ من المنظور الإسلامي ـ من‏أدلّة واضحة وضوح الشمس ، بل ويفضل هؤلاء المكذبون الانطواء على أنفسهم ، ليكونوا مصداقاً لقول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب‏ عليه السلام : ( وذلك ميّت الأحياء ) 4 .
أماّ النظرية الثانية : فهي التي يلفها اليأس والقنوط دون التطلع إلى التطور ، وذلك بداعي الرهبة ممّا وصل إليه العالم‏وحققه من قفزات علمية هائلة . ومن الطبيعي أن كان هذا الواقع قد سلبهم الثقة بالنفس ومقوّمات الشخصية الكريمة ،حتى لم يبق من تعاليم الدين لدى أصحاب هذه النظرية سوى رسوم وأسماء ، ذلك لأنّ روح الرسالة الإلهية تتناقض ‏تناقضاً كلياً مع اليأس والإحباط وعدم التوكلّ والتشكيك بقدرة اللَّه العلي العظيم على الأخذ بيد المؤمنين بهم‏ وتسليمهم زمام المبادرة الإنسانية والحركة التاريخية عموماً .
ولكن النظرية الثالثة تملؤها الحياة والتفاؤل ؛ إذ تنظر إلى التاريخ على أنه محكوم بسنن إلهية ، وأنّ اللَّه سبحانه وتعالى قد أخذ على نفسه أن يتيح الفرصة لمخلوقاته في هذه الحياة لتأخذ دورها وفق ما تبذل من مساعٍ وجهود لإثبات وجودها وجدارتها في العيش والكدح والتقدم .
فإذا كان الأوربيون ـ في يوم من الأيام ـ عبارة عن مجموعة قبائل متناحرة ، إلاّ أنّهم بعد ذلك تمكنوا من قيادة العالم ، وأصبحت الشعوب والدول مجرّد تابع لها .
وتلك ألمانيا التي كادت أن تسيطر على العالم قد تفككت في ظل قوانين وقرارات الحلفاء ، ولكنها عادت مرّةً أخرى‏ لتصبح دولة موحدة مسيطرة على مساحة شاسعة من موازنات الاقتصاد العالمي ، ولها كلمتها المسموعة في أوربا .
واليابانيون الذين خرجوا من الحرب العالمية الثانية منهاري القوى والإمكانات ، تحكمهم العزلة الدولية ، ها هم اليوم‏قد تحوّلوا إلى رمز التطور ونموذج الإبداع التكنولوجي والمتانة الاقتصادية والتجارية ، وتحاول مختلف الشعوب‏والدول التقرب إليهم والاستفادة من تجاربهم .
وليس هذا وذاك ـ في حقيقة الأمر ـ إلا مصداقاً لقول اللَّه سبحانه وتعالى : ﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا … ﴾ 5 وكذلك قوله تعالى : ﴿ … إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ … ﴾ 6. فالمسلمون الذين‏ يمتلكون هذه المنطلقات الطيبة وأمثالها ، كان من المفترض بهم التقدم على غيرهم ، وهم إذا ما وجدوا أنفسهم متأخرين‏عن غيرهم بفعل أخطاء التطبيق وظلم الظلمة وتكالب الأعداد . . فليس من الجدير بهم النكوص والتراجع و اليأس ، لأنهم بذلك يكونون قد خرجوا عن حدود الدائرة الدينية ، والعياذ باللَّه ، إذ أنّ التكذيب أمر باطل ، واليأس من روح‏ اللَّه هو داء الكافرين باللَّه . بينما الإقبال على الحياة بإيمان وشجاعة وثقة بالنفس وتوكّل على اللَّه القائل : ﴿ … إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ 7 هو الكفيل بإعادة الروح إلى جسد الأمة الإسلامية ، وهو الكفيل أيضاً بتقدم المسلمين على غيرهم ، وما دون ذلك يعني التراجع والذل واستعباد الآخرين لهم ، كما هو حاصل بالفعل ، ويشعر به المسلمون في كل لحظة وفي كلّ مكان .

عالمية النبي إبراهيم ‏عليه السلام‏

لقد أضفى اللَّه سبحانه وتعالى بإرادته القادرة على رسالة وشخصية النبي إبراهيم‏عليه السلام الصفة العالمية ، وذلك لعمق‏الشمولية الحاصلة في تفاصيل هذه الرسالة المباركة ، بالإضافة إلى كونه قد أصبح بحكمة اللَّه أباً للأنبياء من بعده في منطقة الجزيرة العربية وما حولها ، وقد تجلت هذه الحقيقة بصورة أكبر حينما رفع قواعد البيت الحرام ليكون قبلة الناس إلى اللَّه ‏ضمن عملية توحيد القلوب إلى خالقها ؛ بل وأبعد من ذلك حينما دعا هذا النبي العظيم ربّه سبحانه وتعالى بأن يجعل‏ أفئدة من الناس تهوي إلى من خلّفه من ذرية في وادي مكّة المقفر ، وذلك في إيحاء مباشر إلى الفكر البشري عموماً ، بأنّ‏ التوجه إلى القبلة إنمّا هو وسيلة إلى التمحور والولاء لذرية النبي إبراهيم من الأنبياء والأئمة عليهم السلام ، وذلك لأنهم يجسدون‏ نهج اللَّه الناطق بين الناس ، على اعتبار أنّ مهمة النبي إبراهيم والجهد الحثيث الذي بذله في هذا الإطار ليس من أجل أن‏ يعاني الحجاج لقصد مجموعة من الأحجار وسط صحراء قاحلة ، بل إن ذرية هذا النبي كان مقدّراً لها إقامة الدين ، وهذه‏الذرية التي تضمّ رجال اللَّه تدعو إلى ربها بالحكمة ؛ أي وفق خطط ومناهج مرسومة من قبل اللَّه نفسه .
ولمّا كان هؤلاء الرجال امتداداً طيباً لرسالة أبيهم إبراهيم‏عليه السلام ؛ الرسالة التي من أولى خصائصها العالمية ، فقد كان جديراً باتباع هذه الرسالة واتباع أولئك الرجال أن يقتدوا بها وبهم ، فيكون نوع تفكيرهم تفكيراً أممياً لا يخضع للوساوس‏ الشيطانية والدوافع المصلحية أو العنصرية أو القومية أو الطائفية أو الطبقية . وإنّه لمن المنطقي جداً أن تكون ممارسات‏ووسائل التطبيق لمثل هذا المنهج وهذا التفكير عالمية على مستواه .

المسلمون و الثورة الحضارية

حينما أمرنا اللَّه عزّ وجل بالدعوة إلى دينه بين الناس كافّة ، كان قد أمرنا بالضمن إيجاد المقدمات والوسائل لإنجاز هذه‏المهمة الكبيرة ، وذلك كله لا يغيب عن عناية اللَّه ولطفه ونصره .
فاليوم أصبح من الصعب علينا تصور الاكتفاء بمنبر واحد يدعى فيه إلى اللَّه عز وجل ، في وقت يستفيد فيه الأعداء من‏كل وسيلة تقنية كالمحطات الفضائية ـ مثلاً ـ لنشر أفكارهم الشيطانية المنحرفة .
بل لقد أصبح من غير المعقول الاقتصار على طريقة الدعوة إلى الإسلام نفسها التي كانت قبل مئات السنين ـ مثلاً ـ لاسيما وأنّ قضايا عديدة مستجدة تتطلب أشكالاً أخرى من المعالجة ، كما يتبع ذلك توفير الوسائل اللازمة المناسبة للموضوع المراد طرحه وبحثه ، والمناسبة لشكل وطبيعة ذهنية المراد توجيهه .
ولنا في هذا المجال التساؤل عن أنّ الأعداء إذا كانوا بصدد توسيع أفق تفكيرهم واستغلال ما يمكن استغلاله من وسائل ‏لكسب تأييد وموافقة أكبر كمية من العقول أو الأهواء ، بما في ذلك استغلال العولمة وتحويل العالم إلى قرية صغيرة لضمان‏تحقيق المصالح والنفوذ المباشر ، إذا كان كلّ ذلك مفروغاً منه وفق تصريحات الأعداء أنفسهم ، فلماذا يمتنع المسلمون‏الاستفادة ممّا أحلّ اللَّه لهم لنشر دين اللَّه بين خلق اللَّه ؟! أو لنقل : لماذا يتعمّد البعض تحجيم تفكيرهم ويكتفون‏ بالاهتمامات الضيقة رغم الإمكانات الكبيرة التي من الممكن توفيرها ؟ فإذا كان توسيع الاهتمامات وتطوير الإمكانات ، واستغلال الفرص ، والتفكير على مستوى هموم العالم والتاريخ ؛ إذا كان كل ذلك حراماً ، فما هو الدليل ؟!وإذا كان كل ذلك حلالاً أو واجباً ، فلماذا هذا الإحجام والتكاسل والتناسي ؟!!
أقول : لماذا لا نساهم في بناء حضارة في الثورة المعرفية ، وهي الثورة الجديدة لهذا العصر ؟ وما هو فعلنا أو ردّ فعلنا ـ على الأقل ـ تجاه ثورة المعلومات التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية ؟ خصوصاً وأن في السيرة النبوية كثيراً من‏الأحاديث والوقائع تشير إلى ضرورة سعي المسلمين نحو التقدم التقني ، وعلى كافة الأصعدة ؛ بل إنّ الآيات القرآنية الخاصّة بصياغة شخصية الإنسان المؤمن ، كلّها تدعوه إلى النظر إلى الحياة على أنها محطة للآخرة ، وأن من المفترض ‏الاستفادة من وسائل هذه المحطة لنيل أكبر قدر من الثواب والحسنات .
فنحن المسلمين مطالبون إذن بالقيام بثورة حضارية جديدة كبرى ، فننطلق منها ونشارك ونساهم بكل وعي وشجاعة بناءً على ما تمليه علينا مصالح واستراتيجيات ديننا الحنيف ، وألاّ نركن إلى التأثر بالجاهليات ، وألاّ نبدي خلال ذلك ما يحلو لنا من معاذير واهية . فمشكلة تأخرنا وهزائمنا هي مشكلتنا نحن دون غيرنا ، ونحن الذين سندفع ثمنها في الدنيا وكذلك في الآخرة 8 .

  • 1. القران الكريم: سورة ابراهيم (14)، الآيات: 35 – 37، الصفحة: 260.
  • 2. القران الكريم: سورة سبإ (34)، الآية: 28، الصفحة: 431.
  • 3. القران الكريم: سورة الفرقان (25)، من بداية السورة إلى الآية 1، الصفحة: 359.
  • 4. بحار الأنوار : ‏2 / ‏57 .
  • 5. القران الكريم: سورة الإسراء (17)، الآية: 7، الصفحة: 282.
  • 6. القران الكريم: سورة الرعد (13)، الآية: 11، الصفحة: 250.
  • 7. القران الكريم: سورة محمد (47)، الآية: 7، الصفحة: 507.
  • 8. من كتاب : الحضارة الإسلامية ـ آفاق و تطلعات ، الفصل الرابع : حضارتان متقابلتان .
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى