ما يحصل اليوم من جدل ونقاش واسع وعابر بين الأمم والمجتمعات حول الهوية والهويات، في ظل تأثيرات العولمة، يمكن وصفه بالانفجار، انفجار الحديث عن الهوية والهويات، وذلك لشدة كثافته، واتساع مساحته، وتعدد لغاته، وارتفاع لهجته، وتنوع بيئاته.
هذا الانفجار في الحديث عن الهوية، جاء على خلفية ما تحمله العولمة من مخاوف وتهديدات تمس الهوية والهويات، ومع تواترها واطراد الحديث عنها، تظهر وكأنها مخاوف وتهديدات جازمة وقاطعة عند هذه الأمم والمجتمعات.
وقد تعددت صور التعبير عن هذه المخاوف والتهديدات التي جاءت بها العولمة، أو التي يمكن أن تجيء بها، من هذه الصور أن الهوية والهويات باتت معرضة لأحد الأشكال والأنماط الآتية: التنميط، التوحيد القسري، الأحادية، فرض الاتجاه الواحد، الذوبان، الانصهار، الاختراق، الغزو، الهيمنة، التمييع، التلاشي، الزوال، الاقتلاع، التبعية، الاستتباع، التدخل في الخصوصيات، الغربنة، الأمركة، ضرب التنوع الثقافي، الاختزال، التعميم إلى غير ذلك من صور وأنماط آخذة في التكاثر والتزايد.
تكشف هذه الصور والأنماط من جهة، عن مدى الشعور والتنبه والتمسك بالهوية عند هذه الأمم والمجتمعات على اختلاف ثقافاتها ودياناتها ولغاتها، ودرجاتها في التمدن والتقدم، وتكشف من جهة أخرى، عن مدى الشعور الكبير والواسع بالمخاوف والتهديدات المنبعثة من العولمة، بغض النظر عن طبيعة التقييمات السائدة لهذه المخاوف والتهديدات، الحقيقية منها والمتخيلة، ونسبة درجة المبالغة فيها.
وقد التفت إلى هذه المبالغة الباحث الفرنسي جان فرانسوا بايار في كتابه (أوهام الهوية)، واعتبر أن العالم الحديث بات يتسلط عليه وسواس وقلق عام يتعلق بالهوية، وحسب قوله (يتسلط على العالم الحديث وسواس تلاشي التمايزات، فهو يخشى توحيد الأشكال، ويشعر بالتالي بقلق عام متعلق بالهوية).
ومن ناحية اللغة والبيان، فإن هذه الصور والأشكال والأنماط من المخاوف والتهديدات، تحددت في تسميات وتعبيرات بالامكان إعطائها صفة المصطلح والمفهوم، فهي ليست تسميات وتعبيرات عادية وعابرة، أو خالية من المعاني والدلالات، فكل واحدة منها لها حقلها الدلالي في ميادين الدراسات الاجتماعية والإنسانية.
لكن هذه المخاوف والتهديدات بهذه الصور والأشكال والأنماط، لا تعبر عن كامل الصورة، بقدر ما تعبر عن جانب واحد فيها، هو الجانب الطاغي بشدة، والجانب الآخر في الصورة يقع بعيدا عن هذه المخاوف والتهديدات، وبخلافها تماما.
ويتحدد هذا الجانب، في أن العولمة قد أسهمت في تنبيه الهويات إلى ذاتها، وأيقظتها من غفلتها التي كانت عليها، وأخرجتها من دائرة النسيان إلى دائرة التذكر، ودفعت بها إلى نفض ما تراكم عليها من غبار الماضي، ووجدت هذه الهويات فرصتها في التعبير عن وجودها، وحقها في البقاء، والمطالبة بحمايتها، والدفاع عن حقوقها.
وتأكيدا لهذا الجانب، وترجيحا لهذا المنحى، يرى عالم الاجتماع البريطاني أنطوني جيدنز في كتابه (عالم جامح كيف تعيد العولمة تشكيل حياتنا أن العولمة تشكل) (سببا لإحياء الهوية المحلية في الكثير من أرجاء العالم، وإذا سألنا عن سبب مطالبة الاسكتلنديين بمزيد من الاستقلال عن المملكة المتحدة، أو عن سبب ظهور حركة انفصالية في مقاطعة كيبيك الكندية، فإننا لن نجد الجواب في تاريخها الحضاري فقط، إن الحركات القومية المحلية تظهر استجابة للنزوع نحو العولمة، إذ تتضاءل سيطرة الدولة).
ومن جانب آخر، ومع تطور الاهتمام بفكرة الهوية والهويات، ظهرت وتولدت وتواترت في المجال التداولي العربي والإنساني العام، الكثير من التسميات المتصلة بهذه الفكرة، والتي ما كان من الممكن أن تظهر وتتولد في غير هذه الوضعيات، لكونها لفتت الانتباه بشدة لفكرة الهوية والهويات.
وكشفت هذه التسميات المتزايدة، عن تعدد طرائق النظر، وتنوع اتجاهات الفهم تجاه فكرة الهويات، وبشكل تحولت فيه هذه الفكرة إلى مادة وحقل للبحث، في سابقة لم تحصل من قبل بهذه الصورة، وبهذا النمط الكمي والكيفي، وبهذا الاتساع التداولي.
واللافت في هذه التسميات، أنها وردت بطريقة تكون بارزة, وتضعها في الواجهة، وتجعلها تستقطب النظر والانتباه، تأكيدا على أهميتها وحيويتها وجديتها، ولم ترد بطريقة مهملة وباهتة وهامشية، فقد تصدرت العديد من عناوين الكتب والمؤلفات العربية والأجنبية، واحتلت العديد من عناوين المقالات والدراسات.
من التسميات التي تصدرت عناوين بعض الكتب العربية والأجنبية، منها كتاب (أوهام الهوية) للباحث الفرنسي جان فرانسو بايار الصادر سنة 1996م، وكتاب (الهويات القاتلة) للأديب اللبناني أمين معلوف الصادر سنة 1999م، وكتاب (مآزق الهوية) هذه التسمية وردت ضمن عنوان (حديث النهايات.. فتوحات العولمة ومآزق الهوية) للناقد اللبناني علي حرب الصادر سنة 2000م.
كما تصدرت هذه التسميات, عناوين فصول بعض الكتب, مثل تسمية (قوة الهوية) التي وردت في كتاب عالم الاجتماع السياسي الأمريكي مانويل كاستلز الموسوم (العصر المعلوماتي.. الاقتصاد والمجتمع والثقافة) الصادر سنة 1996م.
إلى جانب تسميات تصدرت عناوين بعض المقالات، منها مقالة (الهوية المنفتحة)، ومقالة (الهوية المزدوجة) نشرهما الدكتور جابر عصفور في كتابه (الهوية الثقافية والنقد الأدبي) الصادر سنة 2010م، بالإضافة إلى عناوين فرعية في مقالات نشرها الناقد المصري السيد ياسين مثل: (الهوية المشتتة)، و(الهوية المتخيلة)، و(الهوية المصنوعة)، ويمكن الإطلاع على هذه التسميات في كتابه (إعادة اختراع السياسة.. من الحداثة إلى العولمة) الصادر سنة 2006م.
وفي هذا النطاق كذلك، يمكن أن نضيف تسميات أخرى كثيرة, منها (الهويات الخائفة)، (الهويات الممزقة)، (الهويات المخترقة)، (الهويات الصامدة)، (الهويات الثابتة)، (الهويات الناقصة)، (الهويات الطاردة)، (الهويات المعتدلة)، (الهويات المتحجرة)، (الهويات المتطرفة)، (الهويات المتعصبة)، (الهوية المنغلقة)، (الهويات المنفتحة)، (الهويات المتسامحة)، (الهويات الصغرى)، (الهويات الكبرى)، (الهويات المركبة)، وغيرها.
هذه مجرد عينة على سبيل المثال وليس الحصر، وحتى هذه التسميات تصلح لإعطائها صفة المصطلح والمفهوم، لما لها من بنية تفسيرية وتحليلية ونقدية.
وما هو جدير بالإشارة، أن هذه الوضعيات أتاحت وتتيح أفضل الفرص السانحة لدراسة فكرة الهوية والهويات على اختلاف وتعدد صورها وتمثلاتها، أشكالها وأنماطها، تقدمها وتراجعها، قبضها وبسطها، تمددها وانكماشها، انفتاحها وعزلتها، وعن الحالات السلوكية التي تظهر عليها حين تعبر عن ذاتها، وتدافع عن نفسها، وتحمي وجودها، ومن جهة البيئات التي تظهر وتنشط فيها، سواء كانت هذه البيئات متقدمة أو متخلفة، زراعية أو صحراوية، حضرية أو بدوية، باردة أو حارة، منعزلة أو متصلة، سهلية أو جبلية، وغيرها.
لهذا فإن من المتوقع أن تكون الكتابات والدراسات الراهنة حول الهوية والهويات، من أهم وأنضج الدراسات المنجزة في هذا النطاق، وذلك نتيجة التراكم الكمي والنوعي لهذا النمط من الكتابات والدراسات، ومع تطور أدوات وطرائق وخبرات التعامل مع هذه الفكرة، إلى جانب ما حصل لهذه الفكرة من ظهور وانكشاف جعلها تكون في أفضل حالات دراستها توصيفا وتفسيرا وتصنيفا واستشرافا1.
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة الجمهورية، اليمن، الجمعة 30 ذو الحجة 1435هـ / 24 أكتوبر 2014م، العدد 16359