كل نفس في يده الخلقة خالية عن الملكات بأسرها، وإنما تتحقق كل ملكة بتكرر الأفاعيل والآثار الخاصة به 1 بيان ذلك أن كل قول أو فعل ما دام وجوده في الأكوان الحسية لاحظ له من الثبات لأن الدنيا دار التجدد والزوال، ولكنه يحصل منه أثر في النفس، فإذا تكرر استحكم الأثر فصار ملكة راسخة مثاله الحرارة التي تحدث في الفحم فإنها ضعيفة أولا وإذا اشتدت تجمرت ثم استضاءت، ثم صارت صورة نارية محرقة لما قارنها مضيئة لما قابلها، وكذلك الأحوال النفسانية إذا تضاعفت قوتها صارت ملكات راسخة وصورا باطنة تكون مبادئ للآثار المختصة بها، فالنفوس الإنسانية في أوائل الفطرة كصحائف خالية من النقوش والصور تقبل كل خلق بسهولة، وإذا استحكمت فيها الأخلاق تعسر قبولها لأضدادها، ولذلك سهل تعليم الأطفال وتأديبهم وتنقيش نفسهم بكل صورة وصفة ويتعسر أو يتعذر تعليم الرجال البالغين وردهم عن الصفات الحاصلة لهم لاستحكامها ورسوخها.
ثم لا خلاف في أن هذه الملكات وأفعالها اللازمة لها إن كانت فاضلة كانت موجبة للالتذاذ والبهجة ومرافقة الملائكة والأخيار، وإن كانت ردية كانت مقتضية للألم والعذاب ومصاحبة الشياطين والأشرار، وإنما الخلاف في كيفية إيجابها للثواب أو العذاب، فمن قال إن الجزاء مغاير للعمل قال إن كل ملكة وفعل يصير منشأ لترتب ثواب أو عقاب مغاير له بفعل الله سبحانه على التفصيل الوارد في الشريعة.
ومن قال إن العمل نفس الجزاء قال إن الهيئات النفسانية اشتدت وصارت ملكة تصير متمثلة ومتصورة في عالم الباطن والملكوت بصورة يناسبها إذ كل شئ يظهر في كل عالم بصورة خاصة، فإن العلم في عالم اليقظة أمر عرضي يدرك بالعقل أو الوهم وفي عالم النور يظهر بصورة اللبن، فالظاهر في العالمين شئ واحد وهو العلم لكنه تجلى في كل عالم بصورة، والسرور يظهر في عالم النوم بصورة البكاء، ومنه يظهر أنه قد يسرك في عالم ما يسوءك في عالم آخر، فاللذات الجسمانية التي تسرك في هذا العالم تظهر في دار الجزاء بصورة تسوءك وتؤذيك، وتركها وتحمل مشاق العبادات والطاعات والصبر على المصائب والبليات يسرك في عالم الآخرة مع كونها مؤذية في هذا العالم.
ثم القائل بهذا المذهب قد يطلق على هذه الصورة اسم الملك إن كانت من فضائل الأخلاق أو فواضل الأعمال واسم الشيطان إن كانت من أضدادها وقد يطلق على الأولى اسم الغلمان والحور وأمثالهما، وعلى الثانية اسم الحيات والعقارب وأشباههما، ولا فرق بين الاطلاقين في المعنى، وإنما الاختلاف في الاسم.
وهذا المذهب يرجع إلى القول بتجسد الأعمال بصورة مأنوسة مفرحة أو صورة موحشة معذبة، وقد ورد بذلك أخبار كثيرة: منها: ما روى أصحابنا عن قيس بن عاصم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:
يا قيس ” إن مع العز ذلا ومع الحياة موتا ومع الدنيا آخرة، وإن لكل شئ رقيبا وعلى كل شئ حسيبا، وإن لكل أجل كتابا، وإنه لا بد لك من قرين يدفن معك وهو حي وتدفن معه وأنت ميت، فإن كان كريما أكرمك، وإن كان لئيما ألأمك، ثم لا يحشر إلا معك ولا تحشر إلا معه ولا تسأل إلا عنه، فلا تجعله إلا صالحا: فإنه إن صلح أنست به وإن فسد لا تستوحش إلا منه وهو فعلك “. ومنها: ما استفاض من قولهم عليهم السلام ” إن من فعل كذا خلق الله تعالى ملكا يستغفر له إلى يوم القيامة “. ومنها:
ما ورد ” إن الجنة قيعان وغراسها سبحان الله “: ومنها ما روي ” إن الكافر خلق من ذنب المؤمن ” ومنها: قولهم ” المرء مرهون بعمله “. ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ” الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجري في بطنه نار جهنم ” ويدل عليه قوله سبحانه:﴿ … وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ﴾ 2.
وربما كان بقوله تعالى: ﴿ … وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ 3 وقوله تعالى: ﴿ … إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ 4.
إشارة إليه حيث قال عز وجل ﴿ … مَا كُنْتُمْ … ﴾ 4 ولم يقل بما كنتم.
وقال: فيثاغورس الحكيم ” ستعارض لك في أفعالك وأقوالك وأفكارك 5 وسيظهر لك من كل حركة فكرية أو قولية أو عملية صورة روحانية، فإن كانت الحركة غضبية أو شهوية صارت مادة لشيطان يؤذيك في حياتك ويحجبك عن ملاقاة النور بعد وفاتك، وإن كانت الحركة عقلية صارت ملكا تلتذ بمنادمته في دنياك وتهتدي به في أخراك إلى جوار الله وكرامته ” انتهى.
وهذه الكلمات صريحة في أن مواد الإشخاص الأخروية هي التصورات الباطنية والنيات القلبية والملكات النفسية المتصورة بصور روحانية وجودها وجود إدراكي، والانسان إذا انقطع تعلقه عن هذه الدار وحان وقت مسافرته إلى دار القرار وخلص عن شواغل الدنيا الدنية وكشف عن بصره غشاوة الطبيعة، فوقع بصره على وجه ذاته والتفت إلى صفحة باطنه وصحيفة نفسه ولوح قلبه وهو المراد بقوله سبحانه: ﴿ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ﴾ 6 وقوله تعالى:﴿ … فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾ 7.
صار إدراكه فعلا وعلمه عينا وسره عيانا، فيشاهد ثمرات أفكاره وأعماله، ويرى نتائج أنظاره وأفعاله ويطلع على جزاء حسناته وسيئاته، ويحضر عنده جميع حركاته وسكناته. ويدرك حقيقة قوله سبحانه: ﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ 8.
فمن كان في غفلة عن أحوال نفسه ومضيعا لساعات يومه وأمسه يقول: ﴿ … مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ 9﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ 10.
وقد أيد هذا المذهب أعني صيرورة الملكات صورا روحانية باقية أبد الدهر موجبة للجبهة والالتذاذ والتوحش والتألم، بأنه لو لم تكن تلك الملكات والنيات باقية أبدا لم يكون للخلود في الجنة أو النار وجه صحيح، إذ لو كان المقتضي للثواب أو العذاب نفس العمل والقول، وهما زائلان لزم بقاء المسبب مع زوال السبب وهو باطل، وكيف يجوز للحكيم أن يعذب عباده أبد الدهر لأجل المعصية في زمان قصير، فإذا منشأ الخلود هو الثبات في النيات والرسوخ في الملكات، ومع ذلك فمن يعمل مثقال ذرة من الخير أو الشر يرى أثره في صحيفة نفسه أو في صحيفة أعلى وأرفع من ذاته أبدا كما قال سبحانه: ﴿ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ﴾ 11.
والسر فيه أن الأمر الذي يبقى مع النفس إلى حين مفارقتها من الدنيا ولم يرتفع عنها في دار التكليف يبقى معها أبدا ولا يرتفع عنها أصلا لعدم تجدد ما يوجب إزالته بعد مفارقته عن عالم التكليف.
ثم الظاهر أن هذا المذهب – عند من قال به من أهل الشرائع – بيان لكيفية الثواب والعقاب الروحانيين مع إذعانه بالجنة والنار الجسمانيين ” إذ لو كان مراده قصر اللذة والثواب والألم والعقاب والجنات والقصور والغلمان والحور والنار والجحيم والزقوم والضريع وساير ما ورد في الشريعة القادسة من أمور القيامة على ما ذكر فهو مخالف لضرورة الدين.
(تنبيه) الدنيا والآخرة متضادتان، وكل ما يقرب العبد إلى إحداهما يبعد عن الأخرى وبالعكس، كما دلت عليه البراهين الحكمية والشواهد الذوقية والأدلة السمعية، فكل ملكة أو حركة أو قول أو فعل يقرب العبد إلى دار الطبيعة والغرور يبعده عن عالم البهجة والسرور، وبالعكس، فأسوأ الناس حالا من لم يعرف حقيقة الدنيا والآخرة وتضادهما ولم يخف سوء العاقبة وأفنى عمره في طلب الدنيا وإصلاح أمر المعاش وقصر سعيه على جر المنفعة لبدنه من نيل شهوة أو بلوغ لذة أو اكتساب ترفع، ورئاسة أو جمع المال من غير تصور لما يصل إليه من فائدته، كما هو عادة أكثر أبناء الدنيا، ولم يعرف غير هذه الأمور من المعارف الحقيقية والفضائل الخلقية والأعمال الصالحة المقربة إلى عالم البقاء فكأنه يعلم خلوده في الدنيا، ولا يرجو بعد الموت ثواب عمل، ولا جزاء فعل، ولا يعتقد بما يرجوه المؤمنون ويؤمله المتقون من الخير الدائم، واللذات المخالفة لهذه اللذات الفانية التي يشارك فيها السباع والبهائم، فإذا أدركه الموت مات على حسرة وندامة آيسا من رحمة الله قائلا: ﴿ … يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ … ﴾ 12.
أعاذنا الله تعالى من سوء الخاتمة ووفقنا لتحصيل السعادة الدائمة 13.
- 1. هكذا وجدت في النسخة المطبوعة ونسختنا الخطية والأصح ” بها ” وإن كانت الكلمة غير موجودة في نسخة خطية أخرى.
- 2. القران الكريم: سورة العنكبوت (29)، الآية: 54، الصفحة: 403.
- 3. القران الكريم: سورة يس (36)، الآية: 54، الصفحة: 443.
- 4. a. b. القران الكريم: سورة التحريم (66)، الآية: 7، الصفحة: 560.
- 5. هكذا وجدنا العبارة في النسخة الخطية والمطبوعة ولا يخفى ما فيها من الإجمال.
- 6. القران الكريم: سورة التكوير (81)، الآية: 10، الصفحة: 586.
- 7. القران الكريم: سورة ق (50)، الآية: 22، الصفحة: 519.
- 8. القران الكريم: سورة الإسراء (17)، الآية: 13 و 14، الصفحة: 283.
- 9. القران الكريم: سورة الكهف (18)، الآية: 49، الصفحة: 299.
- 10. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 30، الصفحة: 54.
- 11. القران الكريم: سورة عبس (80)، الآيات: 13 – 15، الصفحة: 585.
- 12. القران الكريم: سورة الزمر (39)، الآية: 56، الصفحة: 464.
- 13. المصدر: كتاب جامع السعادات، العلامة محمدمهدي النراقي رحمه الله.