وللعقل في دين الإسلام منزلة سامية لن تبلغها أية موهبة أخرى من مواهب الإنسان ، فالعقل هو المفزع في التمييز الخير والشر وتبيين الحق من الباطل ، والعقل هو سر التفاضل في درجات الرجال ، فهو الملاك في إستيجاب المنزلة والكرامة في الدنيا وهو المدار في إستحقاق المثوبة أو العقوبة في الأخرى ، وقد قال الرسول ( صلى الله عليه و آله ) : ( إذا بلغكم عن رجل حسن حال فانظروا في حسن عقله فإنما يجازي بعقله) 1 و قال ( صلى الله عليه و آله ) : ( ما قسم الله للعباد شيئاً أفضل من العقل ، فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل ، ولا بعث الله نبياً ولا رسولاً حتى يستكمل العقل ويكون عقله أفضل من جميع عقول إمته ، وما يضمر النبي في نفسه أفضل من إجتهاد المجتهدين ، وما أدى العبد فرائض الله حتى عقل عنه ، ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل ، والعقلاء هم أولو الألباب الذين قال الله تعالى ( وما يتذكر إلا أولو الألباب ) 2 إن الله غني متعال لا ينظر إلى العمل لكثرة ولا يرتضيه لتنسيق ، بل ينظر إلى ما يوجبه ذلك العمل لنفس العامل من زكاة وما يتركه في قلبه من إشراق ، وإنما يدرك ذلك بالإخلاص ، وإنما يدرك ذلك بالمعرفة الكاملة الواعية ، وإنما يدرك ذلك بالعقل اليقظ المستنير الذي لم يقسم الله للعباد شيئاً أفضل منه .
والألباب من الناس المتبعون رشد عقولهم السائرون على هداها المميزون بين ما يحسن من الأمور ومن الأعمال والصفات فيأخذون به . وما يقبح منها فيجتـنبونه ويأنفون منه ، فإذا تعارضت الأقوال لديهم فحصوها فحص النقيد الخبير فأخذوا بأوفاها هدى وأكثرها سدادا ، هؤلاء هم العباد الحريون بتوفيق الله وهداه الجديرون منه بالبشرى في الحياة الدنيا والغبطة والنعيم في الدار الآخرة ، ﴿ … فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ 3وهم الحقيقون بصفة الإنسانية في نسقها الأعلى ، وهم الأحياء بمعنى الحياة المجدي ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا … ﴾ 4.
أما الأخرون الذين يرتكسون في حمأة الجهل إلى آذانهم وينتكسون في بؤرته على رؤوسهم ، ولا يستجيبون لدعوة الحق ، ولا يصيحون لنصيح العقل ، أم هؤلاء فليسوا من الإنسانية في شيء وإن أشبهوا الأناسين في السمات وألحقوا بهم في العداد ﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ 5والعجماوات إنما خلقت لتأكل وتشرب وتنمو وتلد ثم لتسرج وتُركب أو تذبح وتؤكل وحواسها وغرائزها المودعة فيها تدرجها في هذا الطريق وتوفي بها على الغاية ، أما إبن آدم فقد خلق لتكاليف إخرى في هذه الحياة .
والدواب البشرية تترك سبيلها الذي طرّقته لها الطبيعة وأعدتها له الحكمة ، وتهرع مع البهائم زاعمة أن سبيلها هو الرشيد . نعم وتكب تهتدي بهديها وتأتي مثل أعمالها وقد عرف الإستعمار ما تنتظر هذه المخلوقات فأعد البرذعة وشحذ السكين .
أن الحواس في إبن ادم نوافذ يتصل منها نور الحياة بنور العقل ، وترتبط حركات الكون بحركات الفكر ، فإذا لم يؤد الانسان بحواسه هذه الوظيفة فقد سد على عقله منافذ النور وعطل حواسه عن الإنتفاع .
وما كان الإنسان ليملك أن يوصد هذه الأبواب لو أن عقله كان حر الحركة منطلق النشاط ، أن تجميد الحركة فيها يعني تجميد حركة الفكر وإطفاء شعلتة وإخماد نشاطه ، ثم لا معدى للخابط من أن يرد نهايته المحتومة وأن يجني ثمرته المعلومة .﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ 6 لجهنم . . . للظاهرة العظمى من غضب الله . . . . للعاقبة السوأى التي لا عاقبة أسوأ منها . . . . لهذه النهاية الكالحة المرعبة المخيفة خلق هذا الهباء من الجن والإنس . ولم تكن هذه عقباهم لو أنهم احسنوا الإفادة من هبات الله التي آتاهم ، فاعملوا البصيرة وإنتهجوا الحق .
وعمى البصيرة أشد وأنكى وأعظم معرة من عمى البصر ﴿ … فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ 7. وما ضر فاقد البصر أن لا يشهد الأضواء والألوان إذا كانت له بصيرة نفاذة غلى الحقائق ، جوالة في المعاني ، غواصة إلى التخوم . وما ضر فاقد البصر أن لا يشهد الأضواء والألوان إذا إستطاع بفطنته أن يحلل طيف كل ضوء ويحصي إخلاط كل لون ، ويستجلي خصائص كل مرتبة من الأضواء ومميزات كل فصيلة من الألوان ، وما ضره أن يكون كذلك إذا كان يسدد القول فلا يخطئ ويقيم البرهان فلا يدحض ويؤسس الفكرة فلا تنقض . وهذا الإنسان ليس بأعمى وإن كان فاقد البصر ، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور .
والعقل إنما يتبوأ هذه المكانة في دين الإسلام إذا احتفظ بشؤونه بما هو عقل ، ونهض بمهمته بما هو دليل مأمون ، فلم تزغ به أهواء النفس ، ولم تجنح به ميول الغريزة ، ولم يتخبط في معارفه وأحكامه على غير علم ولا رشد ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ﴾ 8﴿ … وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ 9 .
والإسلام يأنف للعقل أن يستبهظ تكاليف اليقين فيستريح إلى الظنون : ﴿ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾10 ويأنف للعقل أن يصده إلف العادات أو إرث الأسلاف عن النظر الحق والفكر المستقيم ، ويندد بأقوام تراكمت على بصائرخم غشاوات كثيفة من نتائج الجمود على مواريث أسلافهم وقديم عاداتهم ، فمنعتهم أن يبصروا طريقهم أو يبحثوا عن اعلامه :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ 11.
ضعة بالعقل أن يستأثر به هوى أو تجمح به غريزة ، وهبوط بمنزلته أن يخادعه وهم أو تصرّفه عادة أو يستبد به تقليد ، ومعرة شديدة أن ينقلب جهلاً أعمى ينكر ما يحس ، أو صدى فارغاً يردد ما يسمع . ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ 12.
كل هذه مهاوي ومزالق على العقل أن يتوقاها إذا أراد أن يسمو ، وعلى العاقل أن يحترس من التردي فيها إذا طمع أن يرتقي ، وان يبلغ الغاية التي من اجلها خلق ، ومن أجلها بدأت الحياة .
ركائز العقل في حكمه
وركيزة العقل الإولى في حكمه على الحوادث واستنتاجه للحقائق هي الضرورة ، هي القضايا التي يضطر الإنسان بطبيعته إلى الحكم بصدقها دون حاجة إلى مزيد فكر دون حاجة إلى طلب دليل . وسند ه الثاني هو البرهان اليقيني القويم ، البرهان الذي يقوم على الضرورة وينتهي إليها . ومتى إعتمد العقل في أحكامه على هاتين الدعامتين استحال عليه أن تضطرب له قدم او تخف به كفه .
ومن الناس من يحصر وسائل العقل إلى المعرفة بالحس والتجربة ، فلا وسيلة له إلى تصور المفردات إلا الحس ، ولا سبيل له إلى العلم بأحكامها وأوصافها سوى التجربة .
وهكذا انحصرت المعارف البشرية لديهم ـ لإنحصار أسبابها ـ بالمادة وما يتبع المادة .
وهكذا راموا أن يجدوا تفسير مادياً محسوساً لكل مفهوم من المفاهيم ولكل حكم من الأحكام .
وأنجز المتطرفون منهم فأنكروا وجود ما سوى المادة لأنه لا يدرك بالحس ولا تناله التجربة .
وسواءاً أكان حصر وسائل المعرفة هو الذي أدى بهم إلى إنكار غير المادة أم كان إنكار ما وراء المادة هو الذي انتهى بهم إلى الحصر ، فانه غلو لا مبرر له ، وما أكثر المعاني التي يتصورها الذهن بعيدا عن الحس ، وما أكثر المعاني التي يولدها مما يدركه بالحس ، وما أوفر القضايا التي يحكم عليها بالثبوت أو بالنفي ولا تنالها التجربة .
ومعاني ما وراء المادة لا تنالها الحواس وهؤلاء أنفسهم لا يجحدون تصورها في الذهن وإنما ينكرون تحققها في الوجود ، ثم هم يحكمون عليها بأحكام كثيرة متنوعة لا تبلغها التجربة ، وقد تحدثنا عن ذلك أكثر من مرة ، وللموضوع كتب أخرى تستوفي الحديث عن هذه الأهواء .
القضايا التي يضطر الإنسان بطبيعته إلى الحكم بصدقها دون حاجة إلى فكر ودون حاجة إلى دليل ، والبرهان اليقيني القائم على هذه الضروريات والمنتهي إليها ، هاتان هما ركيزتا العقل في حكمه على الحوادث واستنتاجه للحقائق .
على أن المعلومات الأولية التي يمتلكها العقل ، والبرهان الذي يستند أليه في المعرفة النظرية لا يملكان أن يبديا للعقل كل مستور وان ينيرا له كل سبيل ، فمن الحقائق ما يستدق على الفطرة ولا تناله الضرورة ، وإذا خفي على الفطرة والضرورة فقد خفي على البرهان ، ومن الحقائق ما يتعارض فيه الوجه ويلتبس فيه الحكم ، ومن الحقائق ما يتعرفه العقل بوجه غير صحيح ، فيحكم عليه بحكم غير مطابق . فالعقل مفتقر إذن إلى ركيزة ثالثة تبين له ما تعي عنه وسائله ، وما ترتبك فيه موازينه ، وهذه الركيزة هي وحي الله خالق الفطرة وبارئ العقل إلى أنبيائه المصطفين الذين تصدقهم الفطرة ويؤمن بهم العقل : ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾ 13 14 .
- 1. الحديث 9 : كتاب العقل من اصول الكافي .
- 2. الحديث 11 : كتاب العقل من اصول الكافي .
- 3. القران الكريم: سورة الزمر (39)، الآية: 17 و 18، الصفحة: 460.
- 4. القران الكريم: سورة الأنعام (6)، الآية: 122، الصفحة: 143.
- 5. القران الكريم: سورة الأنفال (8)، الآية: 22، الصفحة: 179.
- 6. القران الكريم: سورة الأعراف (7)، الآية: 179، الصفحة: 174.
- 7. القران الكريم: سورة الحج (22)، الآية: 46، الصفحة: 337.
- 8. القران الكريم: سورة الحج (22)، الآية: 8، الصفحة: 333.
- 9. القران الكريم: سورة القصص (28)، الآية: 50، الصفحة: 391.
- 10. القران الكريم: سورة يونس (10)، الآية: 36، الصفحة: 213.
- 11. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 170، الصفحة: 26.
- 12. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 171، الصفحة: 26.
- 13. القران الكريم: سورة الأنعام (6)، الآية: 104، الصفحة: 141.
- 14. كتاب : الإسلام ، منابعه ، منهاجه ، غاياته للشيخ محمد أمين زين الدين .