﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ * وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ 1
ونحن في هذه البقعة المباركة من الأرض التي يتمنى الكثير من المسلمين في العالم أن يشهدوها في هذه المناسبة حيث أيام الحج الأكبر ، لابد لنا أن نعرف أين نحن ، وما هذه البقعة ، وما هو شرفها ، ولماذا جمعنا الله سبحانه وتعالى من آفاق الأرض فيها ، وقبل ذلك ، لابد من معرفة السر الذي دفع بالنبي إبراهيم الخليل عليه السلام إلى أن يضع من ذريته ؛ زوجته هاجر وابنه إسماعيل عليه السلام في هذه البقعة الجرداء .
أولاً وقبل كل شيء ؛ لابد من التذكير بأن هذه البقعة قد شُيّدت على ذكر الله وتوحيده وخلوص العبادة له ، فحينما كان النبي إبراهيم عليه السلام يحمل الأحجار ويجعل بعضها فوق بعض ، وبينما كان النبي إسماعيل عليه السلام يساعده في ذلك ، كان يقف على الصخرة المسماة بمقام إبراهيم ، والتي يشاهدها الحاج وقد انطبع عليها أثر قدمي إبراهيم عليه السلام . وهذه الصخرة كان من صفاتها الانتقال من مكان إلى آخر ، وبلطف من الله كانت ترتفع وتنخفض ، حيث يريد النبي إبراهيم عليه السلام . فهذا المقام كان منذ البدء محطاً لذكر الله ووحدانيته وألطافه .
ثانياً ؛ أن لهذه البقعة المباركة أن الله سبحانه وتعالى قد جعل أفئدة من الناس تهوي إليه وتثوب نحوه ، فترى الناس إذا ما عادوا من البيت الحرام يرغبون بالرجوع إليه مرة أخرى . فقد يأتي الحاج ـ أول ما يأتي ـ وهو لا يعرف إلى أين جاء ، ولكنه حينما يعود إلى أهله يحس في نفسه شوقاً عارماً إلى تجديد العهد مع البيت وصاحب البيت في مكة المكرمة والديار المقدسة عموماً . وهذا الأمر بحد ذاته يدعو من رزقه الله نعمة الحج إلى المزيد من الشكر على هذه النعمة ، إذ ليس بالقضية البسيطة أن يختاره الله لضيافته وكرمه ، وضيافته وكرمه الرضوان والجنة .
ثالثاً ؛ أن الحاج إنما قدم إلى هذه البقة المباركة ليغفر الله ذنوبه ويطهر قلبه ويجعله من عباده المخلصين .
وقد ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنه سأله رجل في المسجد الحرام ؛ من أعظم الناس وزراً؟ فقال عليه السلام : ” من يقف بهذين الموقفين ؛ عرفة والمزدلفة ، وسعى بين هذين الجبلين ، ثم طاف بهذا البيت ، وصلى خلف مقام إبراهيم عليه السلام ، ثم قال في نفسه وظن أن الله لم يغفر له ، فهو من أعظم الناس وزراً ” 2 فلا يجدر بالحاج أن يشك في ضيافة الله ورحمته التي تتنزّل عليه وهو يؤدي مناسكه .
فعليه ـ والحال هذي ـ أن يزيح عن نفسه حجب الشرك والشك والحسد والبغضاء والتكبر والفواحش ؛ ما ظهر منها وما بطن . وليحاول من جهة أخرى الوصول إلى نور الله ، حيث استشعار اللذة في العبادة وتلمّس رضوان الله الأكبر . وليتذكر كل واحد منا أثناء تلكم اللحظات العرفانية ما جاء على لسان الإمام زين العابدين عليه السلام في مناجاته الشعبانية ، حيث يقول : “… وأنرْ أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلَّقة بعز قدسك…” 3 .
من هنا حاولوا حثيثاً أن تصلوا في أيام حجّكم إلى لحظة العبادة الحقيقية ، لتتفتح قلوبكم على نور الله ولو للحظة واحدة . وإذا ما وصلتم وأحسستم بتلك العبادة ، فاعلموا أن توبتكم قد قبلت ، وأن مستقبلكم مضمون ، حيث تعودون إلى أهليكم فتزودهم من نور الله الذي اختاركم لحمله من بين الناس . فنور الله شيء عظيم تعجز الألسن عن وصفه ، ولا يمكنني شرح مواصفاته مهما بذلت من جهد وبأيّ لسان تحدثت ، ولكن كل ما يسعني قوله هو أن لذة الشعور باستقرار هذا النور في قلب الإنسان المؤمن أعظم بكثير من لذة الحياة كلها ، بما فيها لذة الأموال والأولاد والشهوات . ففي لذة النور معرفة الله ، ولمس الحقيقة الأزلية 4 .
- 1. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآيات : 124 – 127 ، الصفحة : 19 .
- 2. وسائل الشيعة : 8 / 66.
- 3. بحار الأنوار : 91 / 99 .
- 4. كتاب في رحاب بيت الله ، آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي ، الفصل الأول : نور المعرفة . و هذا الكتاب مجموعة من خطب و كلمات ألقاها سماحته على حملات الحجاج من أطراف الأرض وأكنافها .