ما أسعدني أيها الأحباء ! . . أقف بينكم لأحدثكم ببعض أحاديث الإسلام ، وأحييكم بتحية السلام وشعار الإسلام : ( السلام عليكم ) .
ما أسعدني ! . . أقف بينكم لأذكر بعض محاسن دين الله العظيم ، أشير إلى بعض أسراره . .
﴿ … مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ … ﴾ 1.
﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ *وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ 2.
بلى ـ أيها الأحبة ـ ﴿ … إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ 3.
ومحاسن دين الله ( تعالى ) أسمى من ان يستوفيها حاسب ، أو يحّددها كاتب ، وأسرار شريعة الله ـ سبحانه ـ أدقّ من أن يستبطنها عقل ، أو يستنفذها مفكّر ، ولكنها النور المشع ، تقتبس الأفكار منه ، كلٌ حسب طاقته . والغيث الصيّب تنتهل الأحياء منه ، كلٌ بمقدار حاجته ، وتأخذ الأواني منه كلٌ بمقدار سعته .
إنها السعادة أو الشقاوة
ما أسعدنا ـ أيها الأحباء ـ !! ، وما أكرمنا على الله !! . . يَصطفي بحكمته وبلطفه لنا دينه العظيم ، ويضمن لنا السعادة والفوز والفلاح ، إذا نحن اتّبعنا مناهجه ، وسرنا على هداه ، وبلغنا إلى غاياته . .
. .إنها سعادة ليس فوقها منتهى ، وإنها كرامة ليس وراءها منزلة ، وإنها رفعة ليس بعدها مطمح . . أن يكون الله ـ سبحانه ـ هو الذي يختار لنا بحكمته ما يريد ، وأن يكون رسوله الأعظم ( ص ) هو المرشد لنا إلى هذه الغاية ، وأن يكون كتابه الأكبر هو الدليل لنا إلى السبيل :
﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ 4.
ثم انها الشقاوة التي ليس دونها درك ، والمهانة التي ليس بعدها ضعة ، والخزي الذي ليس منه منجى . . أن نجتنب هداية الله ـ سبحانه ـ ونتنكب سبيله ، بعد أن بلّغ المرشد ، وأوضح الدليل . . ان نتخوّن هداية الله ، و نستجهل حكمته ، ونستصغر مقته ، فنستبدل بدين الله ديناً ، وبمبدأ الله مبدأ ، وبنظام الله نظماً :
﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ 5.
وإنها الشقاوة والمهانة ، والخزي الكبير ، والبوار العظيم ، ان نوزّع شريعة الله حسب أهوائنا ومشتهاتنا التي لا تقّر على حال . فنأخذ من أحكام الله ( عز وجل ) ما نريد ، ونترك منها ما لا نريد . . كمن يتعّرض للسلع المعروضة في السوق ، فلا يبتاع منها الا ما يوافق هوى نفسه ، أو رغبة ذويه ، ثم لا يبتاع منها الا ما يخفّ عليه في السوم :
﴿ … أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ 6.
أيها السادة!
ما أوضح حقائق الإسلام !! وما أرسى قواعده !! وما أجلى حكمته وما أسماها عن الحدود !! وما أبْين دلائله وما أباها عن الحصر !! . . إنها ملء الكون ، وملء الأزمان ، وبعدد ما في الأكوان والأزمان من ذرّة وجسيمات ذرة ، وطاقة ووحدات طاقة ، وقانون وتجلّيات قانون .
ما أوضح حقائق الإسلام ، وما أجلى حكمته ، وما أبين دلائله !! ، وما أجهلنا ـ نحن المسلمين ـ بهذه الحقائق ، وما أبعدنا عنها ، وما أشد استغرابنا إياها حين تذكر لنا ، كأنها لم تمتزج بعقولنا ونفوسنا ، بل وبعواطفنا ومشاعرنا ولحومنا ودمائنا !! .
حديث مع مهندس كبير
تحدثت في ليلة من لياليّ في القطار الى مهندس كبير كان يزاملني في المقصورة . .
تحدثت الى هذا الزميل عن عدل الله العظيم ، الذي يظهر في كل منحى من مناحي هذا الكون ، وفي كل موجود من موجوداته ، والذي لا يزال العلم الحديث يكشف في كل يوم منه جوانب ، ويترصّد إلى جوانب أخرى لا تزال خفية ، ثم هو يعترف أنّ ما كشفه من هذه الجوانب لا يزيد على مقدار قطرة صغيرة من محيط عظيم .
نعم لقد اعترف العلم التجريبي الحديث بكل ذلك ، وسبّح بحمد ربه ، وأحنى رأسه للقدرة القاهرة ، وللحكمة الباهرة ، وللتدبير الحكيم ، والعدل العظيم .
. . تحدّثت إليه عن مظاهر هذا العدل الكوني العظيم ، ثم قلت له ـ في مجرى الحديث ـ :
والعدل في الإسلام ـ أيها الأخ ـ امتداد للعدل الأعظم في الكون ، لأن الإسلام نظام من أنظمة الحياة ، وواضع هذا النظام هو واضع أنظمة الكون . . وأخذت أشرح له أبعاد هذه الكلمة ، وأبيّن بعض الشواهد الدالة عليها ، ولست ادري كم طال الحديث ، فقد كنت راغباً في القول ، وكان راغباً في الاستماع .
فقال متعجبا ـ بعد نهاية الحديث ـ : ما أغرب هذه الحقائق عنا ! ، وما اشد بلاهتنا إذا كانت صحيحة لا يتطرّقها ريب ! .
فقلت له : يا صاحبي ليست هذه الحقائق هي الغريبة ، ولكنّكم انتم الغرباء .
فوجم من قولي ، ثم أطرق طويلاً ، واسترشدني بعد صمته الى بعض المصادر ، واستوضح مني بعض المفاهيم ، ولم أعلم بحاله بعد تلك الليلة .
العدل الإلهي في مجالَي التكوين و التشريع
نعم ـ أيها السادة ـ ، العدل في مجال التكوين ، والعدل في مجال التشريع . . كلاهما مظهر من مظاهر العدل الإلهي الأعلى؛ الذي أوجبته الحكمة المطلقة ، والكمال المطلق ، والغنى المطلق ، والتنزّه المطلق عن الحاجة ، والتقدّس المطلق عن النقص .
وإذا قلت : الحكمة المطلقة ، أو الكمال المطلق ، أو أحد المفاهيم المتقدمة الأخرى ، فأعني بها صفات الكمال الذاتية له ( تعالى ) ، الأزلية ، الأبدية ، التي لا بداية لوجودها ولا نهاية ، ولا حدّ تقف عنده ، ولا علّة تؤثر فيها . .
وقد جعل ـ سبحانه ـ في كتابه هذه الصفة ( صفة العدل ) متمّمة لعقيدة التوحيد ، اذ قال ( عز من قائل ) :
﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ 7.
على هذه الركيزة يقوم الإسلام في عقيدته ، وعليها يقوم في بناء مفاهيمه ، وعليها يقوم في تأسيس شريعته وشمول نظرته .
العدل في التكوين
فلا يؤتي أي ذرّة من أي عنصر الاّ مقدار ما تفتقر إليه من الجُسيمات ، ولا يودعها الا قدر ما تحتمله من الطاقة ، ولا يضع لها إلاّ ما يدّبرها من النظام ، ولا ينقصها شيئاً مما تحتاج إليه في حال الإنفراد ، أو في حال التركّب . .
وهكذا في كلّ مركّب وفي كلّ بسيط ، وفي كلّ حي ، وفي كل جامد ، وفي كل صغير ، وفي كل كبير . . وما عسى أن يعدّ القائل من ذلك ؟ . وما عسى أن يذكر من الشواهد ؟ ، وقد اعترف العلم ان هذه هي الظاهرة المحسوسة الملموسة في جميع محتويات هذا الكون الرّحب ، ما استطاع كشفه منها وما لم يستطع .
﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾ 8.
﴿ … وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ﴾ 9.
و العدل في التشريع
فلا يضع الحكم إلا وفق ما تقتضيه النظرة المستوعبة في الركائز العميقة في الفرد ، والركائز الأصيلة للمجتمع ، والموازنة الدقيقة بين جميع المقتضيات والمؤثّرات والبواعث والموانع والطاقات والضرورات والحقوق والواجبات ، والملاحظة الشاملة للأفراد والأمم والأجيال والأزمان . فلا يؤتي ناحبة من نواحي الفرد ، ولا من نواحي المجتمع أكثر مما تستحق ولا يُنقصها شيئاً مما تستوجب .
على هذه السمة ، وعلى هذه الركيزة تأسس الإسلام ، وقامت جميع تشريعاته :
﴿ … وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ * إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ 10.
بل وعلى هذه الركيزة ، ومن اجل تحقيق هذه الغاية أرسل الله ( تعالى ) الرسل السابقين ( ع ) ، و زوّدهم بالوحي :
﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ … ﴾ 11.
﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ 12.
وما أكثر الآيات التي ذكرت هذا الشأن ، ووصفت دين الله بهذا الوصف ، وحفّزت الناس الى هذه الغاية ، ودعتهم الى هذه السعادة !! .
هذا هو العدل الذي أرسل به محمد ( ص ) وأنزل به كتابه وأقيم به نظامه ، وهذا هو العدل الذي أراده الله ( تعالى ) للمجتمع المسلم الذي أقام صلاته على الحب في الله ( تعالى ) ، والتآخي في دينه ، والتناصر في سبيله .
العدل الإسلامي في الحكم
أما الحكم في الإسلام ـ أيها السادة ـ فإنه مشتق من هذا النظام ، وقائمٌ على هذه الركيزة ، ومستمد من هذه الأسس .
الحكم في الإسلام قوامة عامة على المجتمع المسلم ، وعلى التطبيق الكامل لعدل الإسلام ، والرعاية اليقظة لكتاب الإسلام ، والسعي الدائب لأهداف الإسلام .
وتمشّياً مع هذه النتائج ، فلابدّ وأن يكون الحاكم الأعلى مثالاً شاخصاً للعدل الأعلى في الإسلام . .
وهذه نتيجة لا يشكّ في صدقها من عرف أنظمة الإسلام ، وتبيّن أهدافه ، وعلم صفات مجتمعه . .
وتطبيقاً لهذه النتيجة وجب أن يكون الحاكم الأول للمجتمع المسلم هو الرسول العظيم ( ص ) .
نعم ـ أيها الإخوة ـ و اما قولة الرسول ( ص ) التي رواها المسلمون على السواء : ( علي مع القرآن والقرآن مع علي ) 13 .
أو قولته الأخرى : ( علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيث دار ) 14 . .
. . ما هاتان الكلمتان وأخواتهما إلاّ شهادات نبويّة باستحقاق علي ( ع ) لهذا المقام الكريم بعد الرسول ( ص ) . وما شهادة القرآن لأهل البيت بالعصمة 15 ، وما النصوص التي توارثت عن الرسول ( ص ) في حقهّم الا وهي واردة في هذا الشأن .
اما أولياء هذه الزعامة بعد انتهاء أدوار المعصومين فهم تلاميذهم الأطهار الذين يَرِثون مقامهم بالعلم ، ويمثّلون عدلهم الأعلى في العمل 16 .
- 1. القران الكريم: سورة الحج (22)، الآية: 78، الصفحة: 341.
- 2. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآيات: 130 – 132، الصفحة: 20.
- 3. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 132، الصفحة: 20.
- 4. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 164، الصفحة: 71.
- 5. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 50، الصفحة: 116.
- 6. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 85 و 86، الصفحة: 13.
- 7. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 18، الصفحة: 52.
- 8. القران الكريم: سورة الحجر (15)، الآية: 21، الصفحة: 263.
- 9. القران الكريم: سورة الفرقان (25)، الآية: 2، الصفحة: 359.
- 10. القران الكريم: سورة النحل (16)، الآية: 89 و 90، الصفحة: 277.
- 11. القران الكريم: سورة الحديد (57)، الآية: 25، الصفحة: 541.
- 12. القران الكريم: سورة الأنعام (6)، الآية: 115، الصفحة: 142.
- 13. راجع المستدرك على الصحيحين ج 3ص 124 للحاكم النيسابوري و قال بعد روايته للحديث عن أم سلمة : هذا حديث صحيح الاسناد ، و راجع ايضاً المناوي في فيض القدير ج 4 ص 356 ، و كنز العمال ج 6 ص 153 ، و مجمع الزوائد ج 9 ص 134 ، و الصواعق المحرقة ص 74 ، ونور الأبصار ص 72 .
- 14. يراجع صحيح الترمذي ج 2ص 298 ، و الحاكم في المستدرك ج 3 ص 124 و 119 ، و الخطيب في تاريخ بغداد ج 14 ص 321 ، و مجمع الزوائد للهيثمي ج 7 ص 235 ، و كنز العمال ج 6 ص 157 .
- 15. قال ( تعالى ) : ﴿ … إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ .
- 16. كتاب : من أشعة القرآن القسم الثالث للشيخ محمد أمين زين الدين : العنوان رقم (4) .