صدقة السِّر هي الصدقة التي تصل إلى المستحق في حالة من الخفاء و الكتمان، فيكتمها صاحب الصدقة حتى لا يعرف الناس بل و حتى أقرب الأقربين اليه بأنه هو المتصدق، بل و حتى الفقير نفسه الذي يستلم الصدقة قد لا يعرف من هو المتصدق عليه، أي لا يعرفه بإسمه و لا يعرف بمنزلته فلا يعرف عنه سوى أنه فاعل خير.
صدقة السر و كرامة الانسان
السبب الأهم في إهتمام أئمة الهدى بصدقة السر هو الحفاظ على كرامة الفقراء، و لذا فقد كانوا عليهم السلام يحرصون على حفظ ماء وجوه الفقراء بما يتناسب مع الوقت أو شخص الفقير أو غير ذلك، فقد كانوا يُوصلون الصدقة للجار و القريب المستحق عبر وسيط حتى لا يتعرف الفقير على مصدر الصدقة، و قد كانوا يتلثمون لإخفاء ملامحهم عن المتصدَّق عليه حتى لا يختجل و تهدر كرامته ، حيث أن كرامة الإنسان أغلى من كل شيء.
ائمة اهل البيت عليهم السلام و صدقة السر
لقد كان أئمة الهدى عليهم السلام يهتمون بصدقة السر و يبالغون في إخفاء صدقاتهم حفاظاً على كرامة الفقراء.
فقد روى أبو نعيم في «حلية الأولياء» عن محمّد بن زكريا، قال سمعت ابن عائشة، يقول: إنّي سمعت أهل المدينة يقولون: ما فقدنا صدقة السرّ حتّى مات عليّ 1 بن الحسين عليهما السلام 2.
و جاء في كتابي الْحِلْيَةِ وَ الْأَغَانِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ كَانَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَعِيشُونَ لَا يَدْرُونَ مِنْ أَيْنَ مَعَاشُهُمْ، فَلَمَّا مَاتَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ فَقَدُوا مَا كَانُوا يُؤْتَوْنَ بِهِ بِاللَّيْلِ 3.
وَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ شَيْبَةَ بْنِ نَعَامَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُوتُ مِائَةَ أَهْلِ بَيْتٍ، وَ قِيلَ كَانَ فِي كُلِّ بَيْتٍ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ 4.
و فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَدِينَةِ كَذَا وَ كَذَا بَيْتاً يَأْتِيهِمْ رِزْقُهُمْ وَ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ لَا يَدْرُونَ مِنْ أَيْنَ يَأْتِيهِمْ، فَلَمَّا مَاتَ زَيْنُ الْعَابِدِينَ فَقَدُوا ذَلِكَ فَصَرَخُوا صَرْخَةً وَاحِدَةً 4.
وَ فِي خَبَرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ 5 عليه السلام: “أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ 1 فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ فَيَحْمِلُ الْجِرَابَ عَلَى ظَهْرِهِ حَتَّى يَأْتِيَ بَاباً فَيَقْرَعَهُ، ثُمَّ يُنَاوِلُ مَنْ كَانَ يَخْرُجُ إِلَيْهِ، وَ كَانَ يُغَطِّي وَجْهَهُ إِذَا نَاوَلَ فَقِيراً لِئَلَّا يَعْرِفَهُ” 6.
و فِي خَبَرٍ أَنَّهُ كَانَ 1 إِذَا جَنَّ اللَّيْلُ وَ هَدَأَتِ الْعُيُونُ قَامَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَجَمَعَ مَا يَبْقَى فِيهِ مِنْ قُوتِ أَهْلِهِ وَ جَعَلَهُ فِي جِرَابٍ وَ رَمَى بِهِ عَلَى عَاتِقِهِ وَ خَرَجَ إِلَى دُورِ الْفُقَرَاءِ وَ هُوَ مُتَلَثِّمٌ وَ يُفَرِّقُ عَلَيْهِمْ، وَ كَثِيراً مَا كَانُوا قِيَاماً عَلَى أَبْوَابِهِمْ يَنْتَظِرُونَهُ، فَإِذَا رَأَوْهُ تَبَاشَرُوا بِهِ وَ قَالُوا جَاءَ صَاحِبُ الْجِرَابِ” 4.
وَ عَنْ مُحَمَّدِ 7 بْنِ عَلِيٍ أَنَّهُ لَمَّا غَسَّلَ أَبَاهُ عَلِيّاً 1 عليه السلام نَظَرُوا إِلَى مَوَاضِعِ الْمَسَاجِدِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ وَ ظَاهِرِ قَدَمَيْهِ كَأَنَّهَا مَبَارِكُ الْبَعِيرِ 8، وَ نَظَرُوا إِلَى عَاتِقِهِ وَ فِيهِ مِثْلُ ذَلِكَ، فَقَالُوا لِمُحَمَّدٍ 9: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و آله، قَدْ عَرَفْنَا أَنَّ هَذَا مِنْ إِدْمَانِ السُّجُودِ، فَمَا هَذَا الَّذِي نَرَى عَلَى عَاتِقِهِ؟
قَالَ: “أَمَا لَوْ لَا أَنَّهُ مَاتَ مَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْهُ، كَانَ لَا يَمُرُّ بِهِ يَوْمٌ إِلَّا أَشْبَعَ فِيهِ مِسْكِيناً فَصَاعِداً مَا أَمْكَنَهُ، وَ إِذَا كَانَ اللَّيْلُ نَظَرَ إِلَى مَا فَضَلَ عَنْ قُوتِ عِيَالِهِ فَجَعَلَهُ فِي جِرَابٍ، فَإِذَا هَدَأَ النَّاسُ وَضَعَهُ عَلَى عَاتِقِهِ وَ تَخَلَّلَ الْمَدِينَةَ وَ قَصَدَ قَوْماً لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً، وَ فرغه (فَرَّقَهُ) فِيهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ، وَ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ غَيْرِي، فَإِنِّي كُنْتُ اطَّلَعْتُ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُ، يَرْجُو بِذَلِكَ فَضْلَ إِعْطَاءِ الصَّدَقَةِ بِيَدِهِ وَ دَفْعِهَا سِرّاً، وَ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ صَدَقَةَ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، فَإِذَا تَصَدَّقَ أَحَدُكُمْ فَأَعْطَى بِيَمِينِهِ فَلْيُخْفِهَا عَنْ شِمَالِهِ” 10.
- 1. a. b. c. d. أي الامام علي بن الحسين زين العابدين رابع أئمة أهل البيت عليهم السلام.
- 2. حلية الأبرار في أحوال محمد و آله الأطهار عليهم السلام، 4 / 313، للسيد هاشم بن سليمان البحراني، المتوفى سنة: 1107 هجرية، طبعة كؤسسة المعارف الاسلامية، قم/إيران، الأولى، سنة: 1411 هجرية.
- 3. مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): 4 / 153، للعلامة المُحدِّث رشيد الدين محمد بن شهر آشوب المازندراني، المولود سنة: 489 هجرية بمازندران / إيران، و المتوفى سنة: 588 هجرية بحلب / سوريا، طبعة مؤسسة العلامة للنشر، قم / إيران، سنة: 1379 هجرية.
- 4. a. b. c. المصدر السابق.
- 5. أي الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السَّلام)، خامس أئمة أهل البيت (عليهم السلام) .
- 6. مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): 4 / 153.
- 7. أي الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السَّلام)، خامس أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
- 8. مبارك البعير: المواضع التي تلتصق بالأرض من جسم البعير حين بروكه فتتكون عليها طبقة سميكة بفعل احتكاكها بالأرض.
- 9. أي الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السَّلام) ، خامس أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
- 10. بحار الأنوار (الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار (عليهم السلام)): 93 / 23، للعلامة الشيخ محمد باقر المجلسي، المولود بإصفهان سنة: 1037، و المتوفى بها سنة: 1110 هجرية، طبعة مؤسسة الوفاء، بيروت / لبنان، سنة: 1414 هجرية.