لُّ الذين خدموا البشرية بشكل من الأشكال لهم حق على بني الإنسان، سواء اسدوا خدماتهم عن طريق العلم أم الفكر أم الفلسفة والاختراع والاكتشاف أم الأخلاق والحكمة لكن أحدا من هؤلاء ليس له على البشرية حق كما للشهيد، ومن هنا فإنّ ما يحمله أبناء البشر من تعاطف وانشداد تجاه الشهداء يفوق ما يحملونه تجاه سائر خدَمَة البشرية، والدليل على التفوق واضح، فكل المجموعات التي اسدت خدمات إلى البشرية مَدِينَةٌ إلى الشهداء لكن الشهداء قلّما كانوا مدينين لهذه المجموعات، فالعالم في علمه والفيلسوف في فلسفته والمخترع في اختراعه ومعلم الأخلاق في تعاليمه محتاجون إلى أجواء حرة مساعدة كي يقدموا خدماتهم. والشهيد بتضحياته يوفّر هذه الأجواء وهو كالشمعة التي تحترق وتفنى لتضيء الطريق للآخرين.
وللشهيد في القرآن الكريم والسُّنة المُطهّرة مكانة مميّزة وسامية، قال تعالى: }وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ{(آل عمران 169). والسُّنة المطهرة تكثر من تشبيه المكانة السّامية التي يمكن أن يصل إليها إنسان في حياته بمكانة الشّهيد؛ لأنها ذروة الرقي والتّكامل في المسيرة الإنسانيّة، فالسائرون على طريق طلب العلم من أجل التّعرف على الحقيقة وطلبا لمرضاة الله لا بهدف الترفع والاتجار، هم شهداء في مفهوم الروايات إنْ توفاهم الله على هذا الحال وهذا تشبيه يدل على علو مكانة طالب العلم فضلا لما له من دلالة على أن الشهادة هي الذروة في مسيرة الإنسان التّكامليّة.
وإنّ الاندفاع نحو الشهادة ظاهرة نلمسها بوضوح في جمهرة غفيرة من مؤمني صدر الإسلام وحتى وقتنا الحاضر، وحين يتطلع الإنسان إلى هذه الظاهرة يحس في أعماق هذه الفئة المؤمنة شوقا ولهفة إلى الشهادة، فهذا علي(عليه السلام) يقول: (إِنَّ أَكْرَمَ الْمَوْتِ الْقَتْلُ وَالَّذِي نَفْسُ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ بِيَدِهِ لَأَلْفُ ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ مِيتَةٍ عَلَى الْفِرَاشِ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّه) وكان بعض الصحابة يأتون إلى رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) يطلبون منه أن يدعو لهم بالشهادة، فهذا (خثيمة) واحد من سائر الناس يتنازع مع ابنه ليسبقه في الاستشهاد، الأب يصرّ على الابن يبقى في البيت ليذهب هو إلى الجهاد والابن يصر على الأب كذلك بالبقاء في البيت ليذهب هو، فيقترعان فتقع القرعة على الابن فيذهب ويستشهد. ثم يرى ولده في عالم الرؤيا يقول له: يا ابت أنه قد وعدني ربي حقا. فتصاعد شوق الاستشهاد في نفس الرجل العجوز فهرع إلى النبي(صلى الله عليه واله وسلم) يقوله له: لقد وهن عظمي وخارت قواي لكني اشتاق إلى الشهادة، فاسأل الله أن يرزقني إياها. فدعا له رسول الله(صلى الله عليه واله وسلم) ولم يمر عام حتى نال الرجل ما تمناه، فقد سقط في معركة أُحد مُضمخا بدم الشهادة.
ولقد قيل عن الشّهداء ومكانتهم وأهمية مقامهم الكثير الكثير، فكلّ الأمم، وكلّ الشعوب تحترم شهداءها وتُقيم لهم وزناً خاصًّا ولكن ما يوليه الإسلام للشهداء في سبيل الله من الاحترام وما يعطيهم من المقام لا مثيل له أصلاً، وهذه حقيقة لا مبالغة فيها، فإنّ الحديثَ التالي مثالٌ واضح من هذا الاحترام العظيم الذي يوليه الإسلام الحنيف للذين استشهدوا في سبيل الله، وفي ظل هذه التعاليم استطاعت تلك الجماعة المحدودة أن تكتسب تلكم القوّة العظيمة الهائلة التي استطاعت بها أن تركع أمامها أعظم الإمبراطوريات، بل وتدحر أعظم العروش.
عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) عن الحسين بن علي (عليهما السلام) قال:(بينما أميرالمؤمنين يخطب ويحضهم على الجهاد إذ قام إليه شاب فقال: يا أميرالمؤمنين أخبرني عن فضل الغزاة في سبيل الله فقال: كنت رديف رسول اللهa على ناقته العضباء ونحن منقلبون عن غزوة ذات السلاسل فسألته عمّا سألتني عنه فقال: الغزاة إذا همّوا بالغزو كتب الله لهم براءة من النار.فإذا تجهزوا لغزوهم باهى الله بهم الملائكة.فإذا ودعهم أهلوهم بكت عليهم الحيطان والبيوت، ويخرجون من الذنوب… ويكتب له (أي لكلّ شهيد وغاز) كلّ يوم عبادة ألف رجل يعبدون الله.وإذا صاروا بحضرة عدوهم انقطع علم أهل الدنيا عن ثواب الله إياهم.فإذا برزوا لعدوهم وأشرعت الأسنة وفوقت السهام، وتقدّم الرجل إلى الرجل حفتهم الملائكة بأجنحتها يدعون الله بالنصرة والتثبيت فينادي مناد: (الجنة تحت ظلال السيوف) فتكون الطعنة والضربة على الشهيد أهون من شرب الماء البارد في اليوم الصائف.
وإذا زال الشهيد من فرسه بطعنة أو ضربة لم يصل إلى الأرض حتّى يبعث الله إليه زوجته من الحور العين فتبشره بما أعد الله له من الكرامة. فإذا وصل إلى الأرض تقول له الأرض: مرحباً بالروح الطيب الذي خرج من البدن الطيب، ابشر فإنّ لك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ويقول الله: (أنا خليفته في أهله من أرضاهم فقد أرضاني ومن أسخطهم فقد أسخطني) (مجمع البيان، ج2، ص266).
وللتعامل مع جسد الشهيد نجد أحكاما خاصة، وأحكام الإسلام كلها تقوم على الحكمة والمصلحة، وجميعها لها دلالاتها الخاصة ومن هذه الأحكام ما يتعلق بالميت من غسل وتكفين وصلاة ودفن -وكلها ذات معان خاصة- إلا أن أحكام الميت هذه لها استثناء يختص بجسد الشّهيد، فأحكام الميت لا تنطبق على جسد الشّهيد سوى الصّلاة والدفن، وأما الغسل والتّكفين فلا. فالشهيد يدفن بدمه وملابسه، وهذا الاستثناء له مغزاه العميق؛ إنه يرمز إلى أنّ روح الشّهيد بلغت درجة من السّمو والطهارة بحيث ترك هذا السّمو والطهر آثاره على جسد الشهيد وعلى دمه وحتى على ما يرتديه من لباس، فبدن الشّهيد أضحى وجودا تجري عليه أحكام الروح ولباسه أضحى تجري عليه أحكام الجسد الذي يضم تلك الروح الطاهرة، فجسد الشهيد ولباسه اكتسبا الشّرف من طهر روحه وعلو فكره وسمو تضحيته وهذه دلالة على قداسة الشهيد في المفهوم الإسلامي.
حيدر جاسم حمزه