قال ابن تيمية (أمّا أخذه عليّاً وفاطمة والحسن والحسين في المباهلة, فحديث صحيح, رواه مسلم عن سعد بن أبي وقّاص. قال في حديثٍ طويل: (لما نزلت هذه الآية: (فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ)(1) دعا رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم عليّاً وفاطمة وحسناً وحسين, فقال: اللّهمّ هؤلاء أهلي)(2).
(لا يقتضي أن يكون من باهل به أفضل من جميع الصحابة, كما لم يوجب أن تكون فاطمة وحسنٌ وحسينٌ أفضل من جميع الصحابة)(3).
رد الشبهة:
أقول: في الواقع أن ابن تيمية كفانا مؤونة البحث لأجل اقتناعه بصحة الحديث واعترافه بانحصار القضية بهؤلاء الأربعة الأطهار عليهم السلام وأنهم هم بأعيانهم من جلّلهم رسول الله صلى الله عليه وآله بكسائه؛ الأمر الذي من شأنه أنْ يكون بمثابة صفعة في وجوه المحرِّفين وسيفٍ يقطع شبهات المتهوِّكين.
إلا أن ابن تيمية حين لم يجد بدّاً من الإقرار بصحة الحديث وأن الحسن والحسين وأبويهما عليهم السلام هم من اختصّهم اللهُ ورسوله في هذه القضية، وهم من جلّلهم النبي صلى الله عليه وآله بكسائه, وجّهَ قوارصه نحوهم وأثار شبهته ضدهم قاصداً بذلك سلب ما أضفتْه عليهم آية المباهلة من الفضل الجسيم والذي لا يكاد يخفى على عوامّ الناس فضلاً عن علمائهم.
فإذا كان ابن تيمية قد اعترف بالذي تقدّم ذكره في أعلاه فقد سهّل ذلك علينا الخوض في دحض شبهته الواهية التي يقول فيها ما نصُّه: (لا يقتضي أن يكون من باهل به أفضل من جميع الصحابة, كما لم يوجب أن تكون فاطمة وحسن وحسين أفضل من جميع الصحابة)(4).
وإليك الكلام حول ذلك عبر خطوات متتالية:
الخطوة الأولى: اعتراف سعد بن أبي وقاص في مجلس معاوية أن فضيلة المُباهَل بهم ما نالها ولا ينالها أحد بعدهم.
لا يخفى أن يوم المباهلة يُعدُّ اللحظة الحاسمة بين مبدأ التوحيد ومبدأ الشرك, وأنّها اللحظة الأهم في تاريخ جميع الأنبياء والمرسلين, حيث اختارت الرسالة السماوية لهذا اليوم العظيم هؤلاء الأربعة الأطهار(الحسن والحسين وفاطمة وعليّ عليهم السلام) في حين كان جميع من شهد ذلك اليوم من المسلمين يتمنى أن لو يختاره الله فيمن يختاره للمباهلة؛ وما ذاك إلا لعلمهم بأن الاختيار لا يكون إلا اختياراً سماوي, ورغم ذلك فقد كانوا يتوقعون خروج النبي صلى الله عليه وآله بمن هم أقرب إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وآله, وهم عترته وأهل بيته عليهم السلام ومنشأ ذلك التوقع هو ما نطق به الصادق الأمين صلى الله عليه وآله من أحاديث ألقى بها في الأسماع لسانُه, وسطّرتها في الصحائف أقلامُ أصحابه, مبدياً فيها محبته للحسن والحسين وفاطمة وعليّ عليهم السلام ومبيّناً مكانتهم وعظم منزلتهم, فوصلت إلى حدٍّ ملأت الأصقاع والأسماع وتمهّدت في الطباع؛ لذا لم يُفاجأ المسلمون عندما خرج النبيّ صلى الله عليه وآله وهو آخذٌ بيد الحسن والحسين وفاطمة وعليّ عليهم السلام.
ومن بين أولئك المتمنين من الصحابة (سعد بن أبي وقاص) فقد تمنى أنْ لو كان واحداً من الذين باهل بهم رسول الله صلى الله عليه وآله في ذلك الموقف الحاسم, حيث روى المحدِّثون من علماء أهل السنة ما هذا نصُّه: (أمَر معاوية بن أبي سفيان سعداً، فقال: ما منعك أن تسبّ أبا تراب؟ فقال: أما ما ذكرتُ ثلاثاً قالهنَّ له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فلن أسبَّه، لأَنْ تكون لي واحدةٌ منهن أحب إلي من حمر النعم، سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول له وقد خلّفه في بعض مغازيه، فقال له عليٌّ: يا رسول الله خلّفتني مع النساء والصبيان، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبوة بعدي، وسمعتُه يقول يوم خيبر: لأعطينّ الراية رجلاً يحب اللهَ ورسوله ويحبُّه اللهُ ورسوله، قال: فتطاولنا لها، فقال: أدعوا لي علياً، فأوتي به أرمد، فبصق في عينيه ودفع الراية إليه، ففتح الله عليه، ولمّا نزلت هذه الآية: (فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ) دعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فقال: (اللّهم هؤلاء أهلي)(5).
فلو كانت هذه القضية لا فضيلةَ فيها للحسنين وأبويهما عليهم السلام كما ادّعى ذلك ابن تيمية لما تمنى (سعد بن أبي وقاص) أن تكون له مثله, وسعدٌ هذا كما لا يخفى أحد الصحابة الذين ادعى ابن تيمية أن من باهل بهم النبي صلى الله عليه وآله لا يقتضي ان يكونوا أفضل من الصحابة!! وأنت كما ترى فإن سعداً هذا أحد الصحابة، وقد تمنى أن تكون له مثل ما لهؤلاء الأربعة الأطهار عليهم السلام, هذا فضلاً عن أنّ سعداً ذكر ذلك في مجلس معاوية بن أبي سفيان حين استدعاه لسبِّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام, ولست أدري أما أدرك معاوية الذي أدركه ابن تيمية؟! أما كان معاوية قادراً على أنْ يقول لسعدٍ أنْ لا فضل لمن باهل بهم رسول الله صلى الله عليه وآله على جميع الصحابة؟!
ثم إن ابن تيمية ذكر في معرض كلامه عن آية المباهلة وبيان ما لمن باهل بهم النبي صلى الله عليه وآله من فضلٍ -في محاولةٍ منه لتحجيم فضل المُباهَل بهم- مستدركاً ما نصه: (بل لهم بالمباهلة نوع فضيلة)(6), وهذا معناه أن الصحابة لهم جنس فضيلة, والنوع كما هو معروف مندرج تحت الجنس, وهنا سؤال يطرح نفسه, ربما يثور في نفوس البعض وهو: إذا كان الصحابة لهم جنس فضيلة فلماذا لم يتمنَّ سعد بن أبي وقاص أن تكون له واحدة منها بدلاً من أن يتمنى نوع فضيلة؟!
ولو كان للصحابة جنس فضيلة ترى هل سيبقى معاوية صامتاً ويترك سعداً يفوه بما لا يطيق سماعه عن عليّ عليه السلام في حين أنّ معاوية كان قد عقد ذلك المجلس للنيل من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام لا لسماع فضائله وفضائل أهل بيته عليهم السلام؟!
أما كان جديراً بمعاوية أنْ يبين للحضور أنّ هناك نوع فضيلة وجنس فضيلة, وأن الصحابة أفضل من الحسنين وعلي وفاطمة عليهم السلام؛ إذ ليس لهؤلاء في المباهلة إلا نوع فضيلة؟!.
وأنت ترى في كل هذا وأمثاله دلائل واضحة وبراهين مقنعة, لا يستطيع أحد منهم أن يعارضها أو يماري فيها على كون هؤلاء الأربعة الأطهار عليهم السلام أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وآله, فاختيارهم للمباهلة والمفاصلة والملاعنة بين التوحيد وبين الشرك -والذي يعدُّ حدثاً خطيراً؛ لما يحمله من معالم إنذارٍ وغضب من الجبار على الذين ادّعوا الألوهية للمسيح عليه السلام- ما هو إلا بيانٌ لعظيم منزلتهم ورفيع مقامهم.
الخطوة الثانية: قول النبي صلى الله عليه وآله للحسنين وأبويهما (إذا أنا دعوتُ فأمِّنوا).
إنّ الأخبار الواردة في نزول آية المباهلة وبيان عظيم فضل من باهل بهم النبي صلى الله عليه وآله, بلغتْ بل فاقتْ حدّ التواتر, إلا أنّ بعضها بل أغلبها ورد فيها ما هو من الأهمية بمكان, وهو قول النبي صلى الله عليه وآله للحسنين وأمهما وأبيهما أمير المؤمنين صلوات الله عليهم: (إذا أنا دعوتُ فأمِّنوا), وقد ذكر ذلك ثلةٌ من أعلام أهل السنة وهم:
1- الثعلبي في تفسيره (الكشف والبيان), ج3/ص85.
2- أبو الحسن الواحدي في (التفسير البسيط), ج5/ص320.
3- البغَوي في تفسيره (معالم التنزيل), ج1/ص450.
4- الزمخشري في تفسيره (الكشاف), ج1/ ص368.
5- البيضاوي في تفسيره (أنوار التنزيل), ج2/ص20.
6- النسفي في تفسيره (مدارك التنزيل), ج1/ص261.
7- الزيلعي في (تخريج أحاديث الكشاف), ج1/ص186 وص187.
8- ابن حديدة أبو عبد الله جمال الدين في (المصباح المضيّ في كتاب النبي الأمي),ج2/ص250.
9- النخجواني في (الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية) ج1/ص112.
10- حسين الديار بكري في (تاريخ الخميس) ج2/ص196.
11- الخطيب الشربيني في (السراج المنير), ج1/ص222.
12- أبو السعود العمادي في (إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم), ج2/ ص46.
13- أبو الفداء الخلوتي في (روح البيان), ج2/ ص44.
14- محمد الكيرواني الهندي في (إظهار الحق), ج4/ص1212.
15- عبد العظيم الزرقاني في (مناهل العرفان), ج2/ص400.
16- إبراهيم القطان في (تيسير التفسير), ص199.
فهذا المقطع من حديث المباهلة مما يستقطب نظر كل منصفٍ باحث عن الحقيقة لما فيه من مضامين هي في غاية الأهمية تستحق منا أن نقف عندها لكن نقف مع أمرين هامّين, هما:
الأمر الأوّل: في أنّ النبي صلى الله عليه وآله مجاب الدعوة.
لا يخفى أن معنى المباهلة هو أن يدعو الإنسان ويطلب من الله سبحانه وتعالى أن يترك شخصاً بحاله، وأنْ يوكله إلى نفسه.
فالدعاء إلى الله عزّ ذكره بترك شخصٍ بحاله يعني إيكاله إلى نفسه, وقد ورد بيان من كانت حاله هذه في خطبةٍ لأمير المؤمنين عليه السلام يقول فيها ما نصُّه: (إنّ أبغض الخلائق إلى الله رجلان، رجلٌ وكله الله إلى نفسه فهو جائر عن قصد السبيل، مشغوف بكلام بدعة ودعاء ضلالة، فهو فتنة لمن افتتن به، ضالٌّ عن هَدْي من كان قبله، مضلٌّ لمن اقتدى به في حياته وبعد وفاته، حمّالٌ لخطايا غيره، رهنٌ بخطيئته)(7).
ثم الذي لا يَشك فيه من تدبر القرآن وفقه السنة أن النبيّ صلى الله عليه وآله كان مجاب الدعوة من الله عزّ ذكره, فهو صلى الله عليه وآله وكذا سائر الأنبياء أفضل الخلق وأكملهم ديناً ودنياً ولذلك كان دعاؤهم مستجاباً، ولم يثبت أنه بمثابة دعاء غيرهم من المسلمين، بل إن الله سبحانه عهد إلى أنبيائه إجابة دعائهم, ففي سورة مريم عليها السلام قال الحق تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام: (لَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا)(8), قال ابن كثير وغيره: (أي لم أعهد منك إلا الإجابة في الدعاء ولم تردّني قطُّ فيما سألتك)(9), وفي السورة ذاتها عند ذكر قصة إبراهيم مع أبيه, يقول عزّ ذكره: (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا)(10), فقال قتادة ومجاهد وغيرهما: (قال: عوّده الإجابة)(11).
ومن قرأ سورة الأنبياء وتأمَّل في آياتها الشريفة فإنَّه سيجد فيها أكثر أدعية الأنبياء واستجابة الله عزّ ذكره لدعائهم صلوات الله عليهم أجمعين.
يقول الله عزّ من قائلٍ في بعض آيات هذه السورة الكريمة:
(وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ)(12).
وقوله سبحانه: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)(13).
وقوله تعالى: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)(14).
وقوله سبحانه: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ)(15).
ثم بيّنَ الله عزّ وجلّ في كتابه الكريم وفي السورة عينها السبب في استجابة دعاء الأنبياء فقال عزّ من قائل: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)(16).
وعلى هذا فإن استجابة دعاء النبي صلى الله عليه وآله تدل عليه عشرات الآيات والنصوص من الكتاب والسنة..
الأمر الثاني: طلب النبيّ صلى الله عليه وآله مِنْ أهلِ بيته عليهم السلام التأمين على دعائه مع كونه مجاب الدعوة.
المعروف مِنْ كلمة (آمين) أنّه اسم فعل موضوع لاستجابة الدعاء(17)، بمعنى (استجب) أو (كذلك كان أو فليكن) أو (كذلك فافعل) وغير ذلك(18)، وقال الزَمخشري: إنّه (صوت سُمّي به الفعل الذي هو استجب، كما أنّ رويد, وحَيهل, وهلم, أصوات سُمّيت بها الأفعال التي هي أمهِل وأسرِع وأقبِل)(19), ولا يوجَد للكلمةِ معنى آخر غير المعنى اللغوي.
فيكون بذلك معنى (آمين) هو: اللهم استجب, وبما أن النبي صلى الله عليه وآله هو الذي طلب من أهل بيته -علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام- أن يؤمِّنوا على دعائه, بمعنى أن يقولوا: اللهم استجب دعاء نبيك صلى الله عليه وآله, ففي ذلك إشارة هي أوضح من أن تُذكر وهي: أنّ النبي صلى الله عليه وآله كان بصدد بيان أنّ هؤلاء الأربعة الأطهار عليهم السلام شركاؤه في رسالته السماوية, وهم الذين أمره الله سبحانه أن يخرج بهم لمباهلة النصارى؛ إذ إن أصل القضية هي الدعاء لا غير, والنبي صلى الله عليه وآله طلب منهم أن يؤمِّنوا على دعائه, ولا يشك أحد في أنه صلى الله عليه وآله كان مجاب الدعوة كما أوضحنا ذلك سابق, فإشراكهم في الدعاء مع كونه مجاب الدعوة لا معنى له، بل هو من تحصيل الحاصل, فلا يبقى إلا أن نقول أنّه صلى الله عليه وآله أراد بذلك بيان أنهم عليهم السلام امتداد لنبوته وشركاؤه في تبليغ رسالة ربه, فافهم وتبصر.
الخطوة الثالثة: قول النصارى (إنا لنرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً لأزاله).
قلت: لما حان وقت التباهل خرج النبي صلى الله عليه وآله بالحسن والحسين وفاطمة وعليّ عليهم السلام فأمر بشجرتين كُسِرَتا وكُسِح ما بينهما، ثمّ أمر بكساءٍ أسودَ رقيقٍ فنُشِر عليهما على هيأة الخيمة, في وقتٍ كان الجميع يترقب ويتساءل بمن يخرج رسول الله صلى الله عليه وآله للمباهلة, وكان كما هو المتوقع حينذاك, فخرج بالأربعة الأطهار عليهم السلام ولما خرج النصارى (فتقدم إليه السيد والعاقب وقد سرت الرعدة في نفوسهم قائلين: يا أبا القاسم بمن تباهلنا؟ فأجابهم صلى الله عليه وآله بكلمات تمثلت فيها روعة الإيمان والخشية من الله قائلا: (أباهلكم بخير أهل الأرض, وأكرمهم إلى الله, وأشار إلى علي وفاطمة والحسنين), وانبريا يسألان بتعجب قائلين: لم لا تباهلنا بأهل الكرامة, والكبر وأهل الشارة ممن آمن بك واتبعك؟!! فانطلق الرسول صلى الله عليه وآله يؤكد لهم أن أهل بيته أفضل الخلق عند الله قائلاً: (أجل أباهلكم بهؤلاء خير أهل الأرض وأفضل الخلق), فذهلو, وعرفوا أن الرسول صلى الله عليه وآله على حق, وقفلوا راجعين إلى الأسقف زعيمهم يستشيرونه في الأمر قائلين له: يا أبا حارثة ماذا ترى في الأمر؟ (أرى وجوهاً لو سأل الله بها أحد أنْ يزيل جبلاً من مكانه لأزاله) ولا يكتفى بذلك, وإنما دعم قوله بالبرهان, واليمين قائلاً: أفلا تنظرون محمداً رافعاً يديه, ينظر ما تجيئان به, وحق المسيح -إن نطق فوه بكلمة- لا نرجع إلى أهل, ولا إلى مال).
وجعل ينهاهم عن المباهلة ويهتف فيهم قائلاً: (ألا ترون الشمس قد تغير لونه, والأفق تنجع فيه السحب الداكنة والريح تهب هائجة سوداء, حمراء, وهذه الجبال يتصاعد منها الدخان, لقد أطل علينا العذاب, انظروا إلى الطير وهي تقيء حواصلها وإلى الشجر كيف تتساقط أوراقه, وإلى هذه الأرض كيف ترجف تحت أقدامنا!!!). لقد غمرتهم تلك الوجوه العظيمة, رأوا بالعيان ما لها من مزيد الفضل والكرامة عند الله, ويتدارك النصارى الأمر فأسرعوا إلى النبي صلى الله عليه وآله قائلين: يا أبا القاسم أقلنا أقال الله عثرتك…)(20).
إذن لما رأى النصارى تلك الوجوه مجتمعة حول رسول الله صلى الله عليه وآله اضطربت فرائصهم وتفرقت كلمتهم التي كانت بالأمس القريب مجتمعة على مباهلة رسول الله صلى الله عليه وآله وتمخض ذلك الاضطراب عن امتناعهم من التباهل، ذلك لمّا رأوا في قسمات وجوه هؤلاء الأربعة الأطهار عليهم السلام ما دلّهم على أنّهم عليهم السلام ذوو فضل ومقام عظيم عند الله عزّ ذكره, فتواترت مقولتهم: (إنا لنرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً لأزاله) ترى هل أدرك النصارى ما لم يدركه ابن تيمية وأتباعه؟ فالنصارى أقروا بالفضل للحسن والحسين وفاطمة وعلي عليهم السلام وأنهم ممن إذا دعوا الله عزّ وجلّ استجاب دعوتهم إلى الحدّ الذي تركوا ما جاؤوا لأجله، ولا يخفى عليك أنّ الذي جاؤوا لأجله هو أمر يتقرر فيه المصير، وليس هذا بالأمر الهين بالنسبة لهم, فتدبر يتضح لك الحق.
الخطوة الرابعة: عدم وقوع المباهلة مع سبق علم الله سبحانه بذلك دليل على أن الآية نازلة لبيان فضل الحسنين وأبويهما عليهم السلام.
المباهلة مفاعلة من البهل, وصيغة المفاعلة في اللغة العربية غالباً ما تدل على المشاركة التي تصدر من طرفين أو أكثر كالمضاربة والمشاتمة، فهي تدل بمادتها على صدور الضرب أو الشتم من الطرفين(21).
وعلى هذا فالمباهلة لا تنعقد إلا باجتماع طرفين, ولا يخفى أن النبي صلى الله عليه وآله امتثل أمر ربه فخرج بالحسنين وأبويهما عليهم السلام للمباهلة, إلا أن الطرف الآخر المتمثل بنصارى نجران امتنع من التباهل أشد الامتناع, وعليه فلا تتم المباهلة بغياب طرف وحضور آخر.. وعدم وقوع ما نزلت لأجله آية المباهلة -مع سبق علم الله عزّ وجلّ بامتناع النصارى عن التباهل- يكون المراد عندئذٍ هو بيان فضل هؤلاء الأربعة الأطهار، الذين خرج بهم النبيّ صلى الله عليه وآله وأنّهم أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وآله.
وقرينةٌ أخرى هي الأهم في المقام وهي: إقرار النصارى بأن الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله ليؤمِّنوا على دعائه أنّ دعوتهم مجابة، وهذا في الواقع علة امتناعهم عن التباهل مع النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام فهذا ما أقرّ به النصارى، فما بالك بمن هو منتسب إلى الإسلام كابن تيمية ومن نسج على منواله؟!
فقوله -ابن تيمية- أن المباهلة بهؤلاء الأربعة الأطهار عليهم السلام لا توجب أن يكونوا أفضل من الصحابة, مردود عليه ومضروب به في وجهه؛ لافتقاره الدليل على إثباته، ومنقوض عليه بما تقدم وزيادة عليه بالآتي:
اعترف جملة من الصحابة وأعلام أهل السنّة بالفضل للحسن والحسين وفاطمة وعليّ عليهم السلام.
فقد روى مسلم في صحيحه: (عن بكير بن مسمار، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً، فقال: ما منعك أن تسبّ أبا تراب؟ فقال: أما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول الله صلى الله عليه وآله فلن أسبّه، لأنْ تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إلي من حمر النعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله… ولمّا نزلت هذه الآية: (فَقُل تَعَالَوا نَدعُ أَبنَاءَنَا وَأَبنَاءَكُم) دعا رسول الله صلى الله عليه وآله عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: اللهمَّ هؤلاء أهلي)(22).
وقال الزمخشري في (الكشاف): (وفيه دليل -لا شيء أقوى منه- على فضل أصحاب الكساء)(23).
وقد احتج أمير المؤمنين عليّ عليه السلام بآية المباهلة يوم الشورى، كما روى ذلك ابن حجر في صواعقه، حيث قال: (أخرج الدار قطني: أنّ عليّاً يوم الشورى احتج على أهلها فقال لهم: أنشدكم بالله من فيكم أحد أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله في الرحم منّي، ومن جعله صلى الله عليه وآله نفسه، وأبناءه أبناءه، ونساءه نساءه غيري؟ قالوا: لا…)(24).
ويضاف إلى ذلك إدراج بعض المحدِّثين -من علماء أهل السّنة- آية المباهلة في باب فضائل أهل البيت عليهم السلام وإليك ما ذكروه في مصنفاتهم:
1- صحيح مسلم: ذكرها في (باب فضائل عليّ بن أبي طالب)(25).
2- سنن الترمذي: ذكرها في (باب فضائل علي بن أبي طالب)(26).
3- الشريعة للآجرّي: ذكرها في (كتاب جامع فضائل أهل البيت)(27).
4- جامع الأصول في أحاديث الرسول لابن الأثير: ذكرها في (الفصل الثالث في فضائل أهل البيت)(28).
5- فتح الباري لابن حجر: ذكرها في (باب مناقب علي بن أبي طالب)(29).
6- شرح صحيح مسلم للقاضي عياض: ذكرها في (بابٍ من فضائل علي بن أبي طالب)(30).
7- شرف المصطفى للخركوشي: ذكرها في (باب فضل الحسن والحسين وآل البيت)(31).
وغير هذا وذاك, فإنه ما تنامى إلى مسامعنا أنّ النبي صلى الله عليه وآله قال:(سيدا شباب أهل الجنة)(32) لغير الحسن والحسين عليهما السلام, وما قال لواحدة من النساء:(سيدة نساء العالمين)(33) لغير فاطمة الزهراء عليها السلام, وما قال: (من كنت مولاه فهذا مولاه)(34) لغير علي بن أبي طالب عليه السلام, إذا عرفت هذا عرفت أن ابن تيمية ناصب العداء لأهل بيت النبيّ صلوات الله عليهم بإثارة هذه الشبهة وغيرها.
وأختم دحض هذه الشبهة بقول الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام حين ناظر علماء العراق وخراسان في بيان فضل الأربعة الأطهار عليهم السلام على الأمة جمعاء، وبعدما أقام الحجة عليهم بذكر آية المباهلة قال عليه السلام: (فهذه خصوصية لا يتقدمهم فيها أحد, وفضل لا يلحقهم فيه بشر, وشرف لا يسبقهم إليه خلق)(35).
مركز الإمام الحسن عليه السلام للدراسات التخصصية
الوحدة العلمية / السيد مهدي الجابري
الهوامش:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة آل عمران: آية 61.
(2) منهاج السنة -لابن تيمية- 7: 123.
(3) المصدر السابق, 7: 127.
(4) المصدر السابق, 7: 127.
(5) فتح الباري -لابن حجر- 7: 74, شرح صحيح مسلم -للقاضي عياض- 7: 414, الإفصاح عن معاني الصحاح -لأبي المظفر- 1: 348, الجمع بين الصحيحين -للحميدي- 1: 198 / ح209.
(6) منهاج السنة, 7: 126.
(7) شرح نهج البلاغة -لابن أبي الحديد- 1: 283.
(8) سورة مريم: آية 1.
(9) تفسير ابن كثير, 5: 212.
(10) سورة مريم: آية 47.
(11) تفسير ابن كثير, 5: 236.
(12) سورة الأنبياء: آية 76.
(13) سورة الأنبياء: آية 83 و84.
(14) سورة الأنبياء: آية 87 و88.
(15) سورة الأنبياء: آية 89 و90.
(16) سورة الأنبياء: آية 90.
(17) تحرير ألفاظ التنبيه, ص65
(18) المصدر نفسه.
(19) تفسير الكشّاف، ج ۱، ص ۱۲۳.
(20) حياة الامام الحسين عليه السلام -باقر القرشي- 1: 73, عن نور الابصار -للشبلنجي-: 100.
(21) انظر: الصحاح -للجوهري-:1407. مادة بهل.
(22) صحيح مسلم, 4: 1871 كتاب (فضائل الصحابة، باب فضائل عليّ) ح/ 2404.
(23) الكشاف, 1: 434 في ذيل آية (61) من آل عمران.
(24) الصواعق المحرقة: 154 الباب الحادي عشر، الفصل الأوّل في الآيات الواردة فيهم، وانظر تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 42: 432.
(25) صحيح مسلم, 4: 1871.
(26) سنن الترمذي, 6: 83.
(27) الشريعة, 5: 2200.
(28) جامع الأصول, 9: 154.
(29) فتح الباري, 7: 74.
(30) شرح صحيح مسلم, 7: 413.
(31) شرف المصطفى, 5: 366.
(32) مسند أحمد, 17: 31, قال شعيب الارنؤوط: اسناده صحيح رجاله ثقات. سنن الترمذي, 5: 656, قال الالباني: صحيح. المستدرك على الصحيحين -للحاكم- 3: 182, قال: حديث صحيح, وعلق الذهبي بقوله: صحيح.
(33) صحيح البخاري, 8: 64 / ح 6285. صحيح مسلم, 4: 1905 /ح 2450.
(34) المستدرك على الصحيحين, 3: 613, قال الحاكم: حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه, وعلق الذهبي بقوله: صحيح.
(35) عيون أخبار الرضا عليه السلام للصدوق: ج2 ص207 217 ب 23.