من لا يعرف ان السيدة زينب بنت علي وفاطمة هي شقيقة الامام الحسين ( عليهم جميعا صلوات الله ) ؟ بلى ولكن حين يجعل هذا التعبير عنوانا لكتاب فإن له معنى أعمق : فالسيدة زينب كانت الجزء المكمل لمسيرة السبط الشهيد وإذا كانت واقعة الطف من اقدار الله سبحانه فإن من تقديره الحكيم ان يكتمل الجزء الثاني والهام من المسيرة على يد من تكون شخصيتها مثيلة لشخصية اخيها الحسين تماما ، لا في الجوانب المادية فقط ، وانما في كافة الجوانب .
وإذا جعل الله مع آدم زوجته ، ومع موسى اخته ، ومع عيسى أمه ، ومع النبي بنته ، فقد جعل مع الحسين اخته الصديقة الصغرى ، فهما من شجرة واحدة . الفارق في العمر بسيط ويتلاشى مع الزمن ، والتربية واحدة في كنف الرسول ، وفي حضن فاطمة بنت محمد ، وتحت ظلال أمير المؤمنين علي ، انها كبرى الاسباط بعد اخويها الحسن والحسين ، وهي الى ذلك تجسد شمائل امها بكل جلالها وجمالها ، و تتمثل شخصية ابيها بكل تقواها وعلمها ، و تتناسب مع شخصية اخيها الحسن ، وتكاد تتطابق مع شخصية اخيها الحسين ..
فإذا كانت التربية او الوراثة ذات أثر في صياغة شخصية أحد ، واذا كانت الاحداث هي التي تصنع شخصية انسان ، واذا كانت رسالة الفرد الاساسية التي قدرت له ذات اثر في بناء كيانه ، فإن الصديقة زينب شاركت اخاها الامام الحسين عليه السلام في كل ذلك ..
ومنذ الأزل كانت واقعة الطف مقدرة .. اذ كانت الذروة في الصراع الجاهلي الاسلامي بعد انفجار نور الوحي على هضبات مكة ، و كانت الاحداث تركض في هذا الاتجاه منذ لحظة وفاة النبي صلى الله عليه وآله ، ودخول بني أمية على مسرح الاحداث من جديد تحت غطاء النفاق ، وفي غفلة من الانصار وتغافل من المهاجرين لمصالح سلطوية مؤقتة .
قامت السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام في وجه ذلك الانحراف ، ورسمت لابنائها بدمها المطبوع على جدار بيتها .. وبأثار الضرب على متنها ، و بصرخاتها المدوية وبآهاتها التي زلزلت اركان المدينة ، رسمت بكل ذلك وبسقط جنينها محسن ، طريق التحدي .. فكانت بذلك سيدة نساء العالمين ، اذ انها وضعت حجر الزاوية الاول في بناء الاسلام النقي ، الذي لا يحكم الطغاة باسم الدين ، ولا يتحكم في مصير اهله المنافقون باسم القرآن والرسول .
رسمت طريقا لحمل اعباء الدعوة ، معالمه الهجرة والقيام ، والقتل والشهادة ، ثم الكلمة الثائرة التي لا تهدء ، والدمعة الناطقة التي لا ترقى .
وكانت زينب بنت الزهراء شاهدة عاشوراء . شقيقة الحسين ، قد استوعبت الدرس ، تماما ، أليست هي التي شاهدت بأم عينها كيف حمت أمها الصديقة الكبرى إمام زمانها وزوجها أمير المؤمنين عليه السلام حمته بنفسها حتى سقطت بين الباب والحائط تنادي فضة وتقول والله لقد قتلوا ما في احشائي .
أو ليست هي التي كانت ترافق أمها وهي تلملم جراحها ، وتغتصب نفسها وتتحمل كل الالم ، وهي تسارع الى أمير المؤمنين لتمنع القوم من إكراهه على البيعة .
ألم تشاهد كيف يهوي ذلك العتل بسياطها على كتف امها لكي تترك زوجها .
بلى .. وكانت زينب الى جانب أمها حين انشدت ذلك الخطاب الصاعق في مسجد ابيها بالمدينة ، وهي التي روت من بعد تفاصيل ذلك الخطاب .
وانطبعت في شخصيته الطفلة الذكية معالم ذلك الطريق بوضوح وشفافية ، و كانت مسيرتها من المدينة الى الطف ، والى الكوفة ، والى الشام ، ثم الى المدينة والآفاق نسخة متطورة لمسيرة أمها فاطمة سلام الله عليها ، من البيت الى المسجد ، ومن المسجد الى البيت ، ومن قبل تطوافها على بيوت الانصار طالبة منهم نجدة الحق . .
وكان خطابها في الشام ، كخطاب امها في المسجد النبوي ؛ المثل والاهداف ، والتعابير والنبرات ، و الشجاعة والحكمة ، والاثارة ، والاستنهاض كلها واحدة .. وزادت البنت على أمها انها كانت أسيرة مكبلة ، مفجوعة بأعز الناس .. ولكنها عادت فأسرت آسريها ، وقيدت مكبليها ، وقهرت قائلي أهلها بالكلمة الحق ، وحسن التوكل على الله ، وكفى به وكيلا .
2 ـ الصديقة الصغرى
في تلك الايام كان أهل بيت الرسالة ومعهم الصفوة من اصحاب الرسول يشيعون جثمان الصديقة الزهراء بكتمان شديد ، وكانت حسرات زينب واختها ام كلثوم كما حسرات السبطين والامام أمير المؤمنين مكبوتة في الصدور .
لابد ان زينب وسائر اولاد فاطمة عليها السلام عرفوا لماذا توفيت امهم وهي في سن الورود ، ولماذا غسلوها ليلا في ضوء الشموع الخافتة ، ولماذا يجب الا يرفعوا اصواتهم بالنحيب ، ولابد انهم علموا ان كل ذلك انما كان في سبيل الله وفي سبيل اعلاء كلمة الحق ، وان عليهم ان يحتسبوا الله في مصابهم .
كانت المصيبة تصدع الجبال لو نزلت بها ولكنها مادامت في سبيل الله فان تلك الذرية الصالحة تستوعبها ..
وزينب وقلبها الحسنان كانت تستوعب الدرس وتتقن الصبر ، وتختزن الصبر ليوم آخر مقدر لها ومرسوم ليوم عاشوراء حيث تشهد الفاجعة ، وتكون قطب رحاها بعد اخيها .
ان للصبر حدودا ولكن صبر الصديقين لا حدود له ، لانه يستمد قدرته من التوكل على الله والاحتساب عنده ، وكل شيء عند المؤمن هين عندما يذكر ربه العظيم .
وكانت زينب الصديقة ذات صبر عظيم .. كانت عند كل المصائب شاهدة رائدة ، فهي التي استضافت ابيها ليلة التاسع عشر من شهر رمضان التي فلقت فيها هامته المقدسة في محراب الكوفة .
وهي عند اخيها الامام الحسن عليه السلام عندما كان يقذف قطع الدم بعد ان دس معاوية اليه السم عبر زوجته جعدة بنت الاشعث التي قتلته بعد ان مناها معاوية بالاموال وبأن يزوجها من يزيد .
من يدري فأن القدر كان يهيء هذه السيدة الطاهرة ليوم عظيم ، لتصبح مثلا في الصبر الالهي .
لقد كانت امها فاطمة سيدة نساء العالمين ، ولا ريب اما هي فقد كانت قدوة لنساء عالمها ، بل سيدة نساء عالمها ، فهي حفيدة رسول الله ، ربيبت أمير المؤمنين ، وفاطمة الزهراء ، وهي التي شهد بحقها الامام علي بن الحسين عليه السلام بعد ان القت خطابها الرائع فيحشود أهل الكوفة بعد واقعة الطف قال لها :
” يا عمة اسكتي ففي الباقي من الماضي اعتبار ، وانت ـ بحمد الله ـ عالمة غير معلمة ، فهمة غير مفهمة ” 1 . وهي الفقيهة المفسرة التي كانت جلسات درسها في مشهودة من قبل النساء في المدينة والكوفة .
لقد نعتت بلقب عقيلة بن هاشم ، لانها كانت أبرز الهاشميات علما وتقوى وتدبيرا .
والهاشميات كن القمة في الصفات المثلى ، افلا يحق لنا ان نسيمها سيدة نساء عالمها بعد امها الصديقة الكبرى ، اولا ينبغي ان نسميها بالصديقة ، او لم تكن مواقفها مع اخيها الامام الحسين عليه السلام كافية لمثل هذا اللقب الكبير ” الصديقة ” ؟ بلى .
3 ـ في بيت عبد الله بن جعفر
أبناء العائلة الكبيرة يتحدثون بينهم عن عمهم الذي ذهب في رحلة جهادية ولم يعد كان الملك المنتخب من قبل الروم على الشامات رجلا أرعن لقد هدد النبي صلى الله عليه وآله بعد ان بلغته رسالته واعلن عليه الحرب فبعث اليهم النبي جيشا من ثلاثة الاف وأمر عليه زيدبن حارثة وضم اليه ابن عمه جعفر بن ابي طالب وقال : ان اصيب زيد فجعفر اميركم ـ وكان ابن عمه جعفر بن ابي طالب قد عاد بنجاح من الحبشة بعد ان قاد رحلة المهاجرين الاولين اليها ، وعندما التقى الجمعان حيث المسلمون في ثلاثة الاف بينما جيش الكفر يفوق عدده المأة الف ، دارت المعركة على المسلمين واستبسل جعفر الذي عقر فرسه وحاربهم راجلا فقطعت يده اليمنى التي كان يمسك بها الراية فأخذها باليسرى فلما قطعت احتضن الراية ببقايا يديه وحاربهم واستبسل في الدفاع عن دينه حتى استشهد فوجدوا في جسده بضعا وثمانين جرحا بين رمية وضربة وطعنة 2 .
لقد اعطاه النبي وسام الطيار حيث قال انه قد عوض عن يديه بجناحين ليطير بهما في الجنة .
زوجة جعفر كانت من النساء الفاضلات ، وهي من الاخوات المؤمنات اللاتي سماهن رسول الله كذلك فاختها ميمونة هي ام المؤمنين ، واختها سلمى زوجة حمزة سيد الشهداء ، وكذلك لبابة زوجة العباس بن عبد المطلب وقد انجبت له اربعة وولدت عبد الله في المهجر في ارض حبشة وبعده تزوجها ابو بكر فانجبت له محمدا الذي كان يقول فيه الامام علي عليه السلام : هذا ابني من صلب ابي بكر .
وبعد ابي بكر تزوجها الامام علي حيث انجبت له يحيى ومحمد الاصغر ، وقيل يحيى وعونا . وها هم اولاد جعفر في كنف عمهم الامام علي عليه السلام ، ذلك الظل الوارف الكريم ..
لقد جاء النبي الى عائلة جعفر بعد شهادته وقال لهم هذه الكلمة عندما زارهم بعد الشهادة ؛ انا وليهم في الدنيا والاخرة .
وهكذا قام الامام امير المؤمنين بهذه الكفالة من بعده ، أو ليس هو الوصي والوارث والولي من بعده ؟ .
من بين أولاد جعفر كان عبد الله مباركا حيث قال له النبي ـ عند شهادة والده ـ واما عبد الله فيشبه خلقي وخلقي ، وقال : اللهم اخلف جعفرا في أهله ، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه قالها ثلاثا 3 حيث دعا له رسول الله صلى الله عليه وآله وقال : بارك الله في صفقة يمينه ، و كان عبد الله ثريا لنجاحه في الصفقات ، وكريما الى ابعد الحدود وقد ضربت به الامثال في الكرم ، ومشت الركبان بقصص كرمه حتى لم يجد اعدادءه من بني امية طريقا للطعن فيه الا نسبوهالى الاسراف لكثرة كرمه وعظيم جوده .
فقال فيه الشاعر :
ولو لم يكن في كفه غير روحه *** لجاد بها فليتق الله سالكه
وقال الاخر :
وما كنت الا كالأغر ابن جعفر *** رأى المال لا يبقى فأبقى له ذكرا
هذا عبد الله وهذه صفاته وها هي زينب كبرى بنت عمه ( الامام علي عليه السلام ) قد بلغت مبلغ النساء فتقدم اليها عبد الله ، ولم يتردد الامام علي عليه السلام من الاستجابة ، وبالذات لانه روي عن النبي ، صلى الله عليه وآله انه نظر مرة الى اولاد بني هاشم فقال: بناتنا لابناءنا وابناؤنا لبناتنا ، وها هم اليوم يحققون امنية الرسول . فاذا بالامام يزوج ابنته لابن عمه ، ولم يذكر التاريخ شيئا من تفاصيل الزواج ولم يتجاوز ما كان في زواج فاطمة الزهراء سلام الله عليها لانه كان المثل الاعلى لزيجات ابناءها الكرام عليهم السلام جميعا .
ولم يذكر التاريخ ان الامام عليا عليه السلام اشترط على عبد الله شروطا معينة ، ولكننا نستطيع ان نتنبأ بتلك الشروط من خلال الدور المرسوم سلفا لسيدة كربلاء زينب سلام الله عليها .
وهكذا لم يتردد عبد الله بن جعفر لحظة عندما عقدت زينب العزم على مرافقة اخيها في قيامه ضد الطاغية يزيد .
وبالرغم من ان عبد الله بن جعفر لم يشترك شخصيا في معركة كربلاء لاسباب غير معروفة لدينا ، ولكنه بعث بأبنيه الرشيدين الذين استشهدا مع خالهما وسيدهما الامام الحسين عليه السلام ، وكان فخورا بشهادتهما في ركاب السبط الشهيد .
ولم يبين التاريخ شيئا كثيرا عن حياة الصديقة زينب سلام الله عليها قبل حادثة عاشوراء ، الا انها انجبت اربعة من البنين : عليا ومحمدا وعونا الاكبر وعباسا وفتاتين ، وان النساء كن يختلفن عليها لتلقي عليهن التعاليم الدينية ، وانها هاجرت مع ابيها وزوجها الىالكوفة وان زوجها عبد الله شارك في الدفاع عن الامام امير المؤمنين في حروبه ضد البغاة وانه كان من امراء جيش الاسلام في تلك الحروب .
ولا ريب ان البيت الهاشمي بكل عناصره كانوا يخوضون ـ منذ التحاق النبي بالرفيق الاعلى ـ غمار صراع متعدد الابعاد من اجل اعادة السلطة الى الدين ، ومقاومة خط النفاق الاموي الذي تسلل الى مراكز القيادة في الامة .
لقد انشغل كثير من المسلمين بعد فتح مكة ودخول الناس في الدين افواجا ، انشغلوا بمكاسب الفتح وتغافلوا عن مسؤولية الدفاع عن القيم الالهي ، وتجاهلوا تسلل العناصر المنافقة والانتهازية الى مراكز القوة في البلاد ، هكذا بدأت عناصر الردة الجاهلية تتحزب ، واخذت فلول معسكر ابي سفيان الذي انهزم في بدر تتجمع وتستفيد من سماحة الاسلام . ، وغفلة الرساليين ومن امكانات الفتوحات الاسلامية ، ومن تحالفاتهم الجاهلية مستفيدين من كل ذلك لاستعادة نفوذهم وسلطانهم المفقود .
و لا ريب ان النبي صلى الله عليه وآله اهتم بسيطرة الاسلام كقوة سياسية اولى في الجزيرة ، وتسامح مع اعدائه لكي يجذبهم ولو ظاهريا الى الاعتراف بالدين بالرغم من علمه بأنهم لم يؤمنوا بحقائق قلوبهم . وقد جاءت أكثر من اية كريمة تنذر المسلمين بوجود عناصر منافقة في صفوفهم كقوله سبحانه :
﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴾ 4 .
﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ 5 .
وكانت مهمة تصفية العناصر الضعيفة والمنافقة ملقاة على عاتق الامام امير المؤمنين عليه السلام والبيت الهاشمي من بعد الرسول .
وهكذا قاتل الرسول بني امية انطلاقا من تنزيل الكتاب لانهم كانوا يومئذ يجاهرون بالكفر ، وحاربهم الامام علي سلام الله عليه على تأويل الكتاب حينما اظهروا الاسلام واضمروا الكفر ، وهكذا اخبره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) . وقام الامام امير المؤمنين بقيادة الصفوة من اصحاب النبي صلى الله عليه وآله والتابعين لهم للدفاع عن حرمات الاسلام في مواجهته التحريفية الاموية ، وقد انتصر في ثلاث حروب وكان يخطط لحرب رابعة حين اغتالته الايادي الاثمة في صبيحة اليوم التاسع عشر من شهر رمضان وقبل عشر ايام من موعد الخروج الى المعركة .
وبعد شهادة الامام علي عليه السلام قام نجله الامام الحسن المجتبى عليه السلام بحرب سياسية واعلامية واسعة ضد الخط الاموي ، وقد نجح في تنقية الدين الحنيف عن الثقافات السلطوية التي حاول بنو أمية تمريرها على الناس باسم الدين .
وكانت للامام الحسين عليه السلام مهمة اخرى قام باعبائها بأفضل صورة ؛ كانت المهمة تتلخص في بعث روح الشهادة في ضمير الامة لكي يدافعوا عن قيم الدين امام السلطات التحريفية على مد الاعصار ، ويضحوا بأنفسهم في سبيل اعلاء كلمة الحق .
لقد عرف الناس ان الحق مع الامام علي وأهل بيت الرسالة ، وان معاوية ويزيد ومن جاء بهما وتستر عليهما هم أهل الباطل ، ولكنهم ضعفوا واستكانوا عن الدفاع عن الحق . وهكذا خذلوا الامام الحسن عليه السلام وتفرقوا عن سفير الامام الحسين عليه السلام مسلم بن عقيل تحت شعار شيطاني خبيث ” ما لنا وللدخول بين السلاطين ” . وأخيرا صدقت فيهم مقولة الفرزدق ” قلوبهم معك وسيوفهم عليك ” وها هي سيوفهم التي سلوها ضد بني أمية في صفين يغمدونها في ركام من التبريرات ثم يسلونها ضد سبط الرسول ، وداعية الوصي، وابن القرآن ، ومثال الايمان !
الناس اليوم بحاجة الى انتفاضة الضمير .. الى زلزال عنيف يهز اعمق مشاعرهم ، ويعيدهم الى وجدانهم الديني ، ويقول لهم ان هذ ه الدنيا العريضة التي اصابوها ليست في الاخرة الا متاع ، وهي ليست عند اولياء الله الا عفطة عنز فأنى يؤفكون ؟
وجاء الامام الحسين عليه السلام الى كربلاء حيث قدر له ان يفجر ثورة الضمير التي تبقى سيفا على رؤوس الظالمين لا ينبو ، وراية لحركة المظلومين لا تنكس ، و وخزا لضمير المتقاعسين لا يفل ، ونورا لدرب المجاهدين لا يخبو .
جاء الامام الحسين عليه السلام ليكون فيصل حق بين دين الله الذي يدعو الى الايمان ومخالفة الهوى ، والشهادة لله في كل موقف ، والصدق في كل موطن ، و بين دين السلاطين الذي يدعو الى تبرير الظلم والى التبعية والاستعباد .. بين دين محمد رسول الله وبين دين ابو سفيان .. بين دين الامام علي ودين معاوية .. بين دين حجر بن عدي وعمر بن حمق وسعيد بن جبير ، وبين دين سمرة بين جندب وشريح القاضي وعمر بن سعد ..
وجاء الامام الحسين عليه السلام ليقول للمسلم اذا كان دم سبط رسول الله رخيصا في سبيل الله فاي دم يبقى غاليا ، واذا كانت حرم رسول الله تسبى من اجل فضح الباطل فاي حرمة لنساء الرجال العاديين ؟
جاء الامام الحسين عليه السلام ليبعث همة عالية في نفوس الامة ، وزخما ثوريا لاهبا ضد الطغاة .
وهكذا كان ، وسقطت راية بني أمية ، وارتفعت راية الاسلام ، ويبقى الوصي ودين الرسول ، وبقيت سننه حتى الان وحتى يوم القيامة .
كان هدف يزيد اشاعة العصبية العنصرية ، ثم العصبية الاموية ، ثم الملك العضوض .
كان هدفه اشاعة ثقافة اللعب بالقرود ، وكان له قرد يدعى انه من شيوخ بني اسرائيل ، وانه مسخ قردا لمعصية ارتكبها ، وكان ولها به الى درجة انه حين مات امر بدفنه وامر الشعراء ووعاظ السلاطين برثائه واقامة العزاء له .
وكان شعار يزيد :
لعبت هاشم بالملك فلا *** خبر جاء ولا وحي نزل ..
وكان هدف السبط الشهيد ان يكون من ابناء الامة رجالا يدافعون عن الحق امام يزيد وطغيانه ، و يستعدون للشهادة في سبيل الله بل يجعلون هذه الشهادة هدفهم الاول ، وهكذا كان .
4 ـ زينب شاهدة النهضة
وهلك يزيد ونهجه ، واستطال الحسين ونهجه ، وصدقت حكمه الصديقة زينب لابن زياد ، بعدما سألها كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك ؟ فقالت : ما رأيت الا جميلا ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا الى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم فانظر لمن الفلج ( اي النصر ) يومئذ ثكلتك أمك يا بن مرجانة 6 وكانت زينب الشاهدة على نهضة السبط الشهيد لانها حملت رسالتها الى الآفاق ، ولان النهضة اساسا كانت تهدف بعث زلزال في الضمائر . فان دم الشهداء كان سيذهب سدى من دون دور الشاهدة العظيمة زينب ، ودور الشاهدين الاخرين معها .
وكانت تلك حكمة حمل الامام الحسين عليه السلام حرمه معه ، وقد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله في رؤياه الصادقة قبيل خروجه من المدينة لقد شاء الله ان يراهن سبايا .
لقد زعمت أمية ان تطواف آل الرسول اسارى في البلاد برفقة رأس السبط الشهيد ورؤوس اصحابه عليه وعليهم السلام انه يثير الرهبة في نفوس معارضيها ، وبالتالي يثبت سلطانها ولم تعرف ان الذي خطط للنهضة تعمد في ان يجعلها نهضة الدم الذي يقهر السيف ، والضمير الذي يغلب الدرهم والدينار . فكانت الرؤوس المقطوعة اكبر شاهد على ظلامة أهل البيت وتجردهم في الله ، وعظيم تضحيتهم في سبيل الدين . وكانت كلمات التقريع والتحدي التي فاضت بها خطب أهل البيت ، وما كان فيها من استهزاء بالطغيان الاموي ، والسخرية من سلطانهم أكبر ثورة ثقافية في الامة .
وهكذا نسمع الامام زين العابدين عندما يسأله ابراهيم بن طلحة ويقول له بعد شهادة ابيه : يا علي بن الحسين من غلب فيجيبه ؟ الامام ويقول : اذا اردت ان تعلم من غلب ودخل وقت الصلاة فأذن ثم اتم 7 .
بلى .. ان بقاء الصلاة وبقاء ذكر النبي في الاذان والاقامة دليل غلبة الاسلام على النفاق بفضل شهادة الامام الحسين عليه السلام .
والواقع ان القدر كان قد هيأ الصديقة زينب لهذا الدور ، وخلال عمرها القصير بعد واقعة الطف زرعت في كل افق من العالم الاسلامي بذور النهضة الحسينية ، وحفرت نهرا متدفقا من العواطف النبيلة تجاه أهل البيت حتى أصبحت لكلمة يالثارات الحسين جرصا خاصا في نفوس المسلمين ، ما ان تنطلق هذه الكلمة حتى يجتمع الناس للنهضة والاستعداد للشهادة .. واصبحت الشهادة في سبيل الله ولمقاومة الطغاة عادة مشروعة للبررة من ابناء الامة كما كان الجهاد في سبيل الله ضد الكفار .
كل ذلك بفضل شهادة الحسين عليه السلام وكلمات الصديقة زينب وسائر اسارى واقعة الطف .
5 ـ صفات الصديقة زينب (ع)
ما الذي قلد زينب الصديقة هذا الدور العظيم ؟ انها صفاتها المثلى التي نذكرها تباعا :
1 ـ الصديقة
عشية يوم عاشوراء نظرت زينب الى أرض طف فاذا بها مثخنة بالجثث الطواهر ، وهي تتناثر فوق مساحة واسعة كالأضاحي ، وقد فصلت الرؤوس وسلبت الاجساد الطاهرة ، وفي جانب اخر رمقت بقايا خيم محترقة ، وثلة من الاطفال المذعورين والنساء المفجوعات يتراكضون على غير هدى واصواتهم ترتفع تارة بالبكاء على ذويهم واخرى ينادون العطش العطش ..
وقد احاط بهذا الوادي جيش لجب انتشى بالنصر وتشبع بروح الهمجية .
ان مجرد تصور هذه الصورة الفجيعة تجعل اكثر الناس حلما ينهار ، ولكن زينب سلام الله عليها حمدت بقيت صامده .. ماذا فعلت ؟ لملمت الاطفال ، وهدأت النساء وصبرتهم ثم قامت لربها تصلي ولعلها كانت تدعوا الله بضراعة لكي يمنحها الصبر والاستقامة وان يتقبل من آل محمد صلى الله عليه وآله ذلك القربان ، كما كان دعاء اخيها الامام الحسين في اللحظات الاخيرة من حياته الكريمة حيث قال :
” اللهم انت متعالي المكان ، عظيم الجبروت ، شديد المحال ، غني عن الخلايق ، عريض الكبرياء ، قادر على ما تشاء ، قريب الرحمة ، صادق الوعد ، سابغ النعمة ، حسن البلاء ، قريب اذا دعيت ، محيط بما خلقت ، قابل التوبة لمن تاب اليك ، قادر على ما اردت ، و مدرك ما طلبت ، وشكور اذا شكرت وذكور اذا ذكرت . ادعوك محتاجا ، وارغب اليك فقيرا ، وافزع اليك خائفا ، وابكي اليك مكروبا واستعين بك ضعيفا واتوكل عليك كافيا احكم بيننا وبين قومنا بالحق فانهم غرونا وخدعونا وخذلونا وغرروا بنا وقتلونا ونحن عترة نبيك وولد حبيبك محمد بن عبد الله الذي اصطفيته بالرسالة وائتمنته على وحيك فاجعل لنا من امرنا فرجا ومخرجا برحمتك يا ارحم الراحمين ” 8 .
ثم قال عليه السلام :
صبرا على قضائك يا رب ، لا اله سواك ، يا غياث المستغيثين ” .
بلى .. هذا الايمان الخالص الذي تجلى في كلمات السبط الشهيد في تلك اللحظات الحاسمة ، وذلك الموقف الذي تجلى عند الصديقة زينب بعد الشهادة طبع المسيرة الحسينية بطابع توحيدي خالص .
ان ابرز صفات زينب كان تصديقها بما جاء في الكتاب وبينه الرسول ، وهكذا تحملت تلك المصائب العظيمة التي احتسبتها عند الله .. ثم عادت سلام الله عليها الى حيث كان المخيم فلما انتصف الليل اخذت تصلي نافلة الليل ، ورمقتها عينا سيد العابدين علي بن الحسين عليه السلام فسألها : عمة لم تصلي صلاتك عن جلوس . قالت زينب : يا بن أخي ، ان رجلاي لا تحملانني .
قبل ايام حينما نزلت قافلة السبط في أرض الطف جلس الامام الحسين أمام خيمته وأخذ يصلح سيفه وهو يتمثل بابيات كانت العرب تنشدها عندما يحس الواحد بالخطر الداهم وهو يقول :
يا دهر اف لك من خليل *** كم لك بالاشراق والاصيل
من صاحب وطالب قتيل *** والـدهر لا يقنـع بالبديل
وانما الامر الى الجليل
وهي وكل هي سالك سبيلي الحياة .
فلما سمعت اخته الصديقة زينب ذلك فصاحت واثكلاه ليت الموت اعدمني .
ثم تجمعت في ذاكرتها مصائبها فقالت : اليوم ماتت أمي فاطمة وابي علي واخي الحسن . يا خليفة الماضين وثمال الباقــين فنــظر اليها الحسين وقال لها : يا أختاه لا يذهبن بحلمك الشيطان ، وترقرقت عيناه بالدموع وقال : لو ترك القطا لنام فقالت يا ويلتاه افتغتصب نفسك اغتصابا فذلك اقرح لقلبي واشد على نفسي ، ثم لطمت وجهها وهوت الى جيبها فشقته وخرت مغشية عليها .
فقال لها الامام الحسين عليه السلام بعد ان افاقت : يا اختاه اتقي الله وتعزي بعزاء الله ، واعلمي ان أهل الارض يموتون واهل السماء لا يبقون وان كل شيء هالك الا وجه الله تعالى الذي خلق الخلق بقدرته ، ويبعث الخلق ويعودون وهو فرد وحده .
ثم قال لها : يا أختاه اني اقسمت عليك فابري قسمي لا تشقي علي جيبا ، ولا تخمشي علي وجها ، ولا تدعي علي بالويل والثبور اذا انا هلكت 9 . ومنذ تلك اللحظة حين عرفت زينب ان مسؤوليتها توجب عليها الصبر جلدت ، واحتسبت الله في صبرها .
2 ـ الصبر
لم يشهد التاريخ امرأة اعظم صبرا من زينب سلام الله عليها .. لقد ذبح ابناءها عون ومحمد ، و قتل عبد الله 10 على مشهد منها فلم تجزع ، ثم استشهد عبر ساعات وامام عينها امامها الحسين واخوتها وابناء اخوتها فصبرت وكانت مثلا في رباطة الجأش والحكمة في تدبير الامور ، وقيادة الموقف الصعب .
انها كانت اسيرة وربما مكبلة ، وكانت قد انهكتها المصائب والمتاعب الروحية والجسدية ، ولكنها كانت تقود المعارضة من موقع الاسر ، كما تدبر شؤون الاسارى له فيا من صبر عظيم لا يمكن ان يناله بشر الا بفضل الله وحسن التوكل عليه .
في عشية عاشوراء حين احرقت بنو أمية خيام أهل البيت ـ عليهم السلام ـ وجاءت زينب الى الامام زين العابدين وكان قد اشتد به المرض فسألته باعتباره اماما مفترض الطاعة بعد الامام الحسين عليه السلام ، سألته عن واجبها فأمرها والنسوة بالفرار . فلما انتشر بقايا آل الرسول في اطراف وادي كربلاء عادت زينب الى خيمة الامام وانقذته من وسط النيران واطمأنت على سلامته ، ثم اخذت هي واختها ام كلثوم بالتفتيش عن النساء والاطفال وجمعتهم تحت خباء نصف محترق .. ان مثل هذا العمل العظيم لا يصدر من امرأة مفجوعة بعشرات المصائب العظيمة ، الا اذا كانت في قمة الصبر ، وما هذا الصبر الا بالله العظيم .
وعندما نودي بآل الرسول بالرحيل من وادي كربلاء ومروا بالاسرى على اجساد ذويهم نكاية بهم ، فألقى الامام زين العابدين نظرة وداع أليمة على جسد ابيه المقطع فاستبد به الحزن ، ورمقته الصديقة زينب واحست ان حجة الله وامام زمانها علي بن الحسين في خطر اذ يكاد الحزن يقضي عليه فادركت الموقف وتوجهت اليه قائلة :
مالي اراك تجود بنفسك يا بقية جدي وابي وأخوتي ؟
فقال الامام زين العابدين عليه السلام : وكيف لا اجزع وأهلع ، وقد ارى سيدي واخوتي وعمومتي وولد عمي واهلي مضرجين بدمائهم مرملين ، بالعراء مسلبين لا يكفنون ولا يوارون ، ولا يعرج عليهم احد ، ولا يقربهم بشر كأنهم أهل بيت من الديلم والخزر .
فقالت : لا يجزعنك ما ترى فوالله ان ذلك بعهد من رسول الله الى جدك وابيك وعمك ، وقد اخذ الله ميثاق اناس من هذه الامة لا تعرفهم فراعنة هذه الارض وهم معروفون في اهل السماوات انهم يجمعون هذه الاعضاء المتفرقة فيوارونها ، وهذه الجسوم المضرجة . وينصبون لهذا الطف علما لقبر ابيك سيد الشهداء لا يدرس اثره ، ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والايام ، ويجتهدن ائمة الكفر واشياع الضلالة في محوه وتطميسه فلا يزداد اثره الا ظهورا ، وامره الا علوا 11 وهكذا بعثت السيدة زينب روح السكينة في قلب الامام سلام الله عليهما .
وعندما ادخل اسارى آل الرسول الى مجلس ابن زياد ، وهو العتل الزنيم ابن المرأة الفاجرة وابوه زياد الذي لم يعرف له اب فقيل زياد بن مرجانة او زياد بن ابيه .
هنالك دخلت زينب متنكرة حيث لبست ارثى ثيابها ، فلما توجه اليها ابن زياد قائلا من هذه المتنكرة ، قيل له انها زينب بنت علي . فأراد ابن زياد ان يتشفى منها فقال : الحمد لله الذي فضحكم وأكذب احدوثتكم .
فقالت : انما يفتضح الفاسق ، ويكذب الفاجر وهو غيرنا .
فقال ابن زياد : كيف رأيت صنع الله بأخيك واهل بيتك .
فقالت ما رأيت الا جميلا ، هولاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا الى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم ، فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك امك يا ابن مرجانة .
فغضب ( ابن زياد ) وكأنه هم بها ، فقال له عمرو بن حريث : انها امرأة ، والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها .
فقال لها ابن زياد : لقد شفي الله قلبي من طاغيتك الحسين والعصاة المردة من اهل بيتك .
فقالت : لعمري لقد قتلت كهلي ، وقطعت فرعي ، واجتثثت اصلي ، فان كان هذا شفاؤك فقد اشتفيت .
فقال ابن زياد : هذه سجاعة ، لعمري لقد كان ابوك سجاعا شاعرا .
فقالت : يا ابن زياد ما للمرأة والسجاعة ، واضافت : وان لي عن السجاعة لشغلا ، واني لاعجب ممن يشتفي بقتل ائمته ، ويعلم انهم منتقمون منه في اخرته 6 . انها رباطة جأش ، و صبر وعلم وحكمة ..
لقد كانت زينب تحس بأنها مسؤولة بالدرجة الاولى عن حفظ الامام علي بن الحسين عليه السلام ثم بقية الاسارى من آل بيت الرسول صلى الله عليه وآله ، وقد قامت بذلك خير قيام .
ففي مجلس يزيد الطاغية عندما طلب أحد الامراء منه فاطمة بنت علي ـ عليه السلام ـ وكانت وضيئة ، وقال : يا يزيد هب لي هذه الجارية فتعلقت باختها زينب ، فدافعت زينب سلام الله عليها عنها ، وتوجهت الى ذلك الشامي وقالت كذبت والله ولعنت ، ماذاك لك ولا له . فغضب يزيد وقال : بل كذبت والله لو شئت لفعلته .
قالت : لا والله ما جعل الله ذلك لك الا ان تخرج من ملتنا ، وتدين بغير ديننا فغضب يزيد ثم قال : اياي تستقبلين بهذا ؟ انما خرج من الدين ابوك واخوك .
فقالت : بدين الله ودين ابي واخي وجدي اهتديت انت وجدك وابوك .
قال ( يزيد ) : كذبت يا عدوة الله قالت : امير يشتم ظالما ويقهر بسلطانه فكأنه لعنه الله استحى فسكت ، فاعاد الشامي لعنه الله فقال : يا امير المؤمنين هب لي هذه الجارية فقال له : اعزب وهب الله لك حتفا قاضيا 12 . هذه صور من صبر الصديقة زينب وشجاعتها وهي صور تعكس عمق ذلك القلب المؤيد بنور الايمان ..
وحين نقرء معا خطاباتها نعرف انها لا تصدر الا عن قلب مطمئن بسكينة الايمان ، واثق بالنصر الالهي موقن باستقامة طريقة وسلامة منهجه .
3 ـ البلاغة
علم واسع ، وحكمة بالغة ، وخطاب فصل ، وشجاعة ربانية ، وادب نافذ ، وتعبير فصيح ، كل ذلك بشكل عناصر بلاغة الصديقة زينب .
لقد كانت بنت ثلاث سنوات حين اصطحبت امها الى مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله حيث خطبت امها بذلك الخطاب الهام الذي جمعت فيه كل قيم الرسالة ومعاني الرفض ، ثم كانت زينب هي التي تروي لنا ذلك الخطاب العظيم .
وروي انه سألها ابوها عن مسألة قالت بكل ثقة : بلى امي قد علمتني اياها .
وقد بلغ من علمها بالله ومعرفته ان اباها امير المؤمنين علي عليه السلام اجلسها واخاها العباس الى جانبيه وهما صغيران فقال للعباس قل : واحد فقال واحد . فقال : قل اثنان ، قال استحي اقول باللسان الذي قلت واحد اثنان . فقبل علي عليه السلام عينيه ، ثم التفت الى زينب وكانت على يساره والعباس عن يمينه فقالت يا ابتاه اتحبنا ؟ قال : نعم يا بني ، اولادنا اكبادنا . فقالت : يا ابتاه حبان لا يجتمعان في قلب ؛ حب الله وحب الاولاد وان كان لابد فالشفقة لنا والحب لله خالصا . فازداد علي بهما حبا 13 . عرفان زينب بالله لم يشذ عن عرفان جدها وابيها وامها والسبطين ، انها عاشت في بيت الوحي ومن ذلك العرفان اوتيت بصيرة في الدين حتى شهد لها الامام بالعقول : انت بحمد الله عالمة غير معلمة ، وفهمة غير مفهمة .
وقد اوصى الامام الحسين عليه السلام الي زينب وكانت في مستوى تحمل اعباء الرسالة بدلالة ان اخاها الحسين اوصى اليها لتكون نائبة عن الامام زين العابدين في تلك الايام العصيبة .
اما حكمتها فكفى دليلا عليها قيادتها للمعارضة في تلك الظروف وبعد تلك الفاجعة العظيمة .
اما خطابها الفصل وكلماتها النافذة فسوف نستعرض معا خطاباتها ، وكفى شهادة على ذلك قول حذيم الاسدي عن خطابها في الكوفة ، فلم ار والله خفرة انطق منها كأنما تنطق وتفرغ عن لسان امير المؤمنين 14 .
6ـ هكذا بلغت زينب رسالة عاشوراء
ان هذه الصفات جعلت زينب الكبرى سلام الله عليها افضل من يحمل رسالة عاشوراء . لكي يوقظ الضمير السابت ، ويهز الوجدان الهامد ، ويفجر طاقات الرفض في امة التوحيد .. وقد قامت زينب بهذا الدور عبر ثلاثة محاور .
الف : الخطاب الجماهيري
وسوف نستعرض باذن الله خطابات زينب (عليها السلام ) الجماهيرية ، والتي كانت ميثاق النهضة ومنشورا لرفض ، وقد ساهمت في اشاعة ادب الشهادة ، وثقافة التحدي في الامة .
باء : اللقاء المباشر
في الكوفة والشام والمدينة ثم بمصر والشام قامت الصديقة بالتحدث الى الناس وتحريضهم على السلطة الاموية وبيان ما جرى عليهم في الطف ، وفلسفة قيام السبط الشهيد في مقاومة السلطة الغاصبة .
ولقد حفظ التاريخ بعض هذه اللقاءات لما فيه من اثارة معينة واعرض عن الباقي ، ونستشهد بما ذكره التاريخ على ما اغفل ذكره .
كانت زينب شريكة منذ بداية القيام الحسيني في التعبئة من اجله ؛ فمثلا يروي البعض انه في ليلة عاشوراء ، وحيث اوكل الامام الحسين مهمة المحافظة على المخيم الى اخيه البطل العباس عليهما السلام وقد كان العباس يراقب الوضع بكل حذر ، فاذا به يرى سوادا بين الخيم فنادى من انت ؟ فاذا به اخته زينب .
قال العباس : ما اخرجك في سواد هذا الليل يا أختاه ؟
قالت : جئت لكي احدثك بحديث ..
قال : الان حلى وقت الحديث .
ثم قصت زينب للعباس كيف ان اباها بعد وفاة امها الصديقة سلام الله عليها سأل اخاه عقيلا بان يدله على بنت ولدتها الفحولة من العرب ، فلما سأله ما تصنع بها ، قال لتلد لي شبلا ينصر ابني الحسين .
ثم اضافت زينب قائلة : ” يا أخي الحرم حرمك ” .
وهنالك انتفض العرق الهاشمي بين عيني العباس وقال : او تشجعيني يا أختاه ، لا نعمن لك عينا .
وهكذا كانت تحرض بريرا حسب بعض الروايات ، واننا لنرى الصديقة زينب حاضرة في كل لحظة من لحظات الملحمة الكبرى الى جنب أخيها الامام الحسين عليه السلام .
وبعد الفاجعة وحينما اسكنت وأهل بيت الرسالة في دار قريبة من دار الامارة بالكوفة أمرت بان لا يدخل عليها الا امرأة سبيت من قبل ، لأنها ذاقت مرارة الاسر مثلها . وهناك قامت بدورها في بث الدعوة ، ولعل السبب في اختيار هذا النوع من النساء لانهن اقرب الى الاستجابة للدعوة ونقل وقائع المآساة الى الجماهير المحرومة ، وهكذا فعلت في الشام والمدينة .
جيم : النياحة
بعد عودة السيدة زينب الى حرم جدها كتب والي يزيد على المدينة المنورة الى يزيد ما يلي :
ان وجودها بين أهل المدينة مهيج للخواطر ، وانها فصيحة عاقلة لبيبة ، وقد عزمت هي ومن معها على القيام للأخذ بثأر الحسين ، فكتب اليه فرق بينها وبين أهلها .
كيف قامت الصديقة بإثارة أهل المدينة ؟
بالنياحة حيث انها اقامت مجالس العزاء ، وكانت هذه المجالس التي لا زالت مستمرة في العالم الاسلامي حتى اليوم ، بمثابة مؤسسة اعلامية تتميز بالتعبئة العاطفية ، و التوعية الدينية الى جانب التزكية والتربية .
لقد كان بكاء السيدة زينب ذات هدف رسالي ، حيث انه لم يكن بكاءا ذليلا ، ولا ندما على ما مضى ولا جزعا من المصائب ، وإنما كان بكاء تحد وايقاظ . وهكذا كانت سائر افعالها التي تبدو في صورة جزع وهلع ك. ان ممارستها جميعا كانت هادفة ؛ مثلا حينما ضربت رأسها بمقدم المحمل لم يكن ذلك مجرد حالة عاطفية ساذجة ، ذلك لانها كانت تلهب حماس اهل الكوفة بخطابها الصاعق . وكانت جماهير اهل الكوفة التي صعقها هول الفاجعة تستمع اليها و تتفاعل معها ، فخشيت السلطة من انتفاضة عارمة فأمرت حامل رأسٍ الامام الحسين عليه السلام ان يقترب من محملها لعلها تسكت . فلما رأته اجهشت بالبكاء وضربت رأسها بمقدم المحمل فانفجر الدم من جبينها ، فاذا بأهل الكوفة يزدادون غضبا على يزيد وابن زياد .
ان زينب الصبورة التي كانت قد شاهدت كل تلك المأساة لم تكن لتجزع من رؤية رأسٍ اخيها بالرغم من هول المأساة على قلبها ، ولكنها كانت تثير اعمق المشاعر الانسانية في الناس ، وكأنها تقول لهم ان المأساة عظيمة وعظيمة الى درجة تستحق شق الرأٍس من اجلها ، او تقول لأعداءها نحن لازلنا مستعدون للتضحية من اجل الله ولا نأبه الموت .
هكذا كان لزينب سلام الله عليها في مقابل كل تصعيد من جانب العدو تحديا فريدا وتصعيدا جديدا ، فلما استخدموا اسلوب الاثارة العاطفية باستعراض الرأٍس الشريف استفادت من اسلوب الاستنهاض بضرب رأٍسها بمقدم المحمل ، وهي تقول :
يا هلالا لما استتم كمـالا *** غاله خسفه فأبدا غروبا
ما توهمت يا شقيق فؤادي *** كان هذا مقدرا مكتوبا 15
ولعل الشيعة تعلموا من زينب سلام الله عليها الكثير من الشعائر الحسينية التي لا زالت تلهب حماس الامة ، وتبقي فاجعة الطف نابضة بالحياة حتى اليوم وكأنها تتجدد في كل عام ..
وفي مجلس الطاغية ابن زياد والطاغوت يزيد كلما تمادى الاعداء في صلفهم لجأت الصديقة زينب الى البكاء فأسكتت اعتى الاعداء ، واجتذبت عاطفة الجمهور .
7 ـ خطابات الصديقة زينب (ع)
في فصل آت سنبين باذن الله آثار النهضة الحسينية ، والتي اكتملت بالدعوة الزينبية ، والتي تمثلت في محاور ابرزها خطاباتها اللاهبة . ومن هنا فدراسة كلمات زينب سلام الله عليها تنفعنا في امرين :
اولا : في فهم السبب الذي جعل تلك الكلمات بالغة التأثير في الامة مما ساهمت في تلك الثورات التي لم تزل مستمرة .
ثانيا : فيما يمكن للخطباء والدعاة الحسينيين ان يستفيدوه من منهج الصديقة زينب في التأثير .
وسوف تتركز دراستنا لكلماتها في خطبتين ، خطبة الكوفة وخطبة الشام ، وسوف نستعرضها بصورة متدرجة ليتسنى لنا دراستهما .
8 ـ زينب تقرع أهل الكوفة
روى حذيم بن شريك الاسدي قال : لما اتى علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام بالنسوة من كربلاء وكان مريضا واذا نساء اهل الكوفة يتدبن مشققات الجيوب والرجال معهن يبكون ، فقال زين العابدين بصوة ضئيل وقد نهكته العله .
ان هؤلاء يبكون فمن قتلنا غيرهم ؟
فأومأت زينب بنت علي بن ابي طالب الى الناس بالسكوت . قال حذيم الاسدي : فلم ار والله خفرة انطق منها كأنما تنطق وتفرغ عن لسان امير المؤمنين ، وقد اشارت الى الناس ان انصتوا فارتدت الانفاس ، وسكنت الاجراس ، ثم قالت بعد حمد الله تعالى والصلاة على رسوله . . 15 .
لقد حمدت زينب ربها فأجملت الثناء عليه وصلت على النبي فأحسنت ذكره ، وكانت تلك البداية الرائعة بصوتها الاخاذ قد اثارت انتباه الجميع ، فخشعت الاصوات وارتدت الانفاس .
1 ـ بعدئذ بدءت بسياط التقريع والتبكيت كأنها الرعد المزمجر ، وذكرتم بانهم نقضوا غزلهم ، وخالفوا وعدهم ، وهدموا بنيانهم اشارة الى انهم عادوا ـ بعد مقتل السبط الشهيد ـ عبيدا لاهل الشام ، بينما كانوا قد ناضلوا طويلا ضدهم ، فقالت سلام الله عليها :
اما بعد يا أهل الكوفة يا أهل الختر 16 والغدر والحدل 17 الا فلا رقأت العبرة 18 ولا هدأت الزخرة ، انما مثلكم مثل التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا تتخذون ايمانكم دخلا بينكم .
2 ـ ثم اخذت تفضح اهل الكوفة وتبين لهم صفاتهم السوئى التي سببت لهم هذه الهزيمة النكراء حتى جعلتهم ايادي اعداءهم يقتلون سيدهم بيدهم ، فقالت سلام الله عليها :
هل فيكم الا الصلف والعجب والشنف 19 والكذب وملق الاماء وغمز الاعداء كمرعى على دمنه 20 او كفضة على ملحودة 21 ، ألا بئس ما قدمت لكم انفسكم ان سخط الله عليكم وفي العذاب انتم خالدون .
3 ـ ثم بالغت في تقريعهم من اجل ايقاظ ضمائرهم ، فقالت وهي تشير الى بكائهم الفارغ من تحمل المسؤولية ، وقالت :
اتبكون على اخي ، اجل والله فابكوا فانكم والله احق بالبكاء . فابكوا كثيرا واضحكوا قليلا . ان عليهم ان يبكوا على انفسهم لا على الامام الحسين لانهم قد ذهبوا بعار الفاجعة فقالت :
فقد بليتم بعارها ومنيتم بشنارها 22 ولن ترحضوها 23 ابدا وانى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة وسيد شباب أهل الجنة .
ثم عادت تبين مدى خسارتهم بقتل سبط النبي ، والذي كان قائدهم في الحرب ، وامامهم في المجتمع (التجمع او الحزب ) ، وكهفهم في السلم ، وبلسمهم عند الجراح ، ومفزعهم عند النوائب ، ومرجعهم عند الاختلاف ، وسندهم عند الاحتجاج ، ومنــار طريقهم عند اختلاف السبل ،فقالت :
وملاذ حربكم ومعاذ حزبكم ومقر سلمكم وآسي 24 كلمتكم ومفزع نازلتكم والمرجع اليه عند مقالتكم وميدرة 25 حججكم ومنار محجتكم .
ثم انذرتهم بعذاب الله قائلة : ” الا ساء ما قدمت لكم انفسكم ، وساء ما تزرون ليوم بعثكم . فتعسا تعسا ، ونكسا نكسا لقد خاب السعي وبنت الايدي وخسرت الصفقة ويؤتم بغضب من الله وضربت عليكم الذلة والمسكنة .
هكذا حملتهم الصديقة كامل المسؤولية عما جرى لكي لا يلقوا بها على القيادات او السلطات او ما اشبه ، وانذرتهم بعاقبة تساهلهم في الدنيا والاخرة . اما في الدنيا فالعار الذي لا يغسل ، واما في الاخرة فالغضب الالهي .
وعادت الصديقة الى بيان عظم الفاجعة وبينت مدى مساسها بصاحب الرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله ، وقالت :
اتدرون ـ ويلكم ـ اي قيد لمحمد فريتم ، واي عهد نكثتم ، واي كريم له ابرزتم ، واي حرمة له هتكتم ، واي دم له سفكتم . لقد جئتم شيئا ادا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هذا لقد جئتم بها شوهاء خرقاء طلاع الارض وملء السماء افعجبتهم ان لم تمطر السماء دما ولعذاب الاخرة اخزى وهم لا ينصرون فلا يستخفنكم المهل فانه عز وجل لا يحفزه البدار ولا يخشى عليه فوت الثار 26 . كلا ان ربك لنا ولهم بالمرصاد ثم انشأت تقول :
ماذا تقولون اذ قال النبي لكم ماذا صنعتم وانتم اخر الامم بأهل بيتي واولادي ومكرمتي منهم اسارى ومنهم ضرجوا بدمهم ما كان ذاك جزائي اذ نصحت لكم ان تخلفوني بسوء في ذوي رحمي اني لأخشى عليكم ان يحل بكم مثل العذاب الذي اودى على ارمثم ولت عنهم 27 .
قال حذيم ( الراوي ) فرأيت الناس حيارى قد ردوا ايديهم في افواههم ، فالتفت الي شيخ الى جانبي يبكي وقد اخضلت لحيته بالبكاء ويده مرفوعة الى السماء ، وهو يقول : بأبي وامي كهولهم خير الكهول ، وشبابهم خير الشباب ، ونسلهم نسل كريم ، وفضلهم فضل عظيم .
هكذا كانت زينب عليها السلام صريحة واضحة مع الجمهور ، فلم تتفوه بنصف كلمة غير الحق استمالة لهم . ولعل السبب في ذلك انهم كانوا يعرفون الحق ولا ينصرونه مثلهم مثل الانصار والمهاجرين الذين خاطبتهم الصديقة فاطمة الزهراء سلام الله عليها بذات النبرة الصاعقة.
وكذلك بذات اللهجة التي كانت في كلمات الامام امير المؤمنين في خطاباتها الاخيرة لاهل الكوفة .
وهذا اهم درس ينبغي ان يتعلم الدعاة الحسينيون من الصديقة زينب الا يداهنوا الباطل طمعا في دنيا او يسكتوا عن حق خوفا من سلطان .. الصراحة والوضوح والا فلا ..
ثم ان الخطاب كاد يكون جامعا لسائر المؤثرات النفسية من عاطفة جياشة الى توعية روحية الى ولاء صادق للقيادة الشرعية ودعوة صريحة اليها ، والى تحميل المستمع المسؤولية المباشرة ، وهذا درس اخر نستفيده من الصديقة للمنبر الحسيني الا يهمل اي جانب من المنهج الرسالي لحساب جانب آخر .
كان اهل الكوفة يبررون خروجهم الى قتال سبط رسول الله صلى الله عليه وآله بالخوف من من جيش الشام وسلطة بني امية ، والصديقة زينب تركت الحديث عن السلطة في خطابها تماما ، بالرغم من انها ركزت عليها في مواجهتها المباشرة لابن زياد الطاغية ، او الطاغوت يزيد . فلماذا لم تتحدث عن ذلك في خطابها الجماهيري ؟
لعلها تركت ذلك عمدا لكي لا يبرر المستمع موقفه بألقاء اللوم على السلطة . كلا .. ان مسؤولية الجبار لا تلغي مسؤولية ادوات سلطته والساكتين عنه والراضين بفعله .
وحين يكون الحديث مع الناس يركز الحديث حول مسؤوليتهم ، بينما حين يكون مع الجبار يبين مسؤوليته ، وهذا من اعظم ركائز البلاغة وهو درس عظيم لاصحاب المنبر الحسيني .
9 ـ زينب تتحدى طغيان يزيد
سبحان الله ؛ كم هي قدرات الانسان اذا توكل على الله واستعان به ؟
امرأة اسيرة مفجوعة قد اثكلت بثمانية عشر رجلا مالهم على وجه الارض من نظير ، وقد سيقت على محامل بلا وطاء ولا غطاء وضربت واهينت واتعبت وارهقت واؤذيت بابداء وجهها وهي اعظم المخدرات امام جماهير المصفقين و .. و ..
وتدخل اليوم على السلطان القاهر ، والعدو الساخر ، والطاغوت المنتصر ، والسفاك المجرم .. تدخل عليه مقيدة هي وابن اخيها العليل واختها وسائر الاسرى المنهوكين بالرحلة المرهقة .
وقد زينت الشام كأي عيد كبير استبشارا بانتصار يزيد ، واحتفل الطاغوت الارعن في قصره فجمع الملأ من قومه لعلهم يرهبون هذه الثلة الباقية من بعد اعظم فاجعة في التاريخ .
هل هناك عامل مادي واحد من عوامل القهر والاذلال بقي خارج المسرح ؟ كلا .. كل الحتميات المادية حسبما يعبرون كانت تدعم طغيان يزيد .
ولكن الله اكبر ، وقوة الروح الايمانية تقهر كل العوامل المادية ، والحق اعلى واعز ، وزينب تمثل اليوم الحق بكل قوته وعزته وجبروته .
وقفت الاسيرة تنظر الى ذلك العرش الزائف بسخرية ، وتنظر الى رأس سيد الشهداء في طست من ذهب بكل فخر واعتزاز ، واخذ يزيد لعنه الله يضرب ثنايا ابي عبد الله بمخصرة كانت في يده وهو يتمثل بأشعار ابن الزجوي وبعد ان اضاف اليه بعض الابيات ويقول :
ليت اشياخي بـبدر شهدوا *** جزع الخزرج عن وقع الاسل
لأهلوا و اسـتهلوا فرحـا *** و لـقالوا يـا يزيد لا تـشل
فجـزيناهـم ببدر مثـلها *** و اقمـنا مثل بـدر فاعتـدل
لست من خندق ان لم انتقم *** من بنـي احمـد ما كان فعل
فقامت زينب وقالت :
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على جدي سيد المرسلين ، صدق الله سبحانه كذلك يقول :
﴿ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون ﴾ 28 .
ثم هشمت رأس الحية بالإستهزاء بسلطانه الزائف والتسامي عن قدراته المادية ببيان قدرة الله التي لا تحد فقالت :
” أظننت يا يزيد حين أخذت علينا أقطار الأرض ، وضيقت علينا آفاق السماء ، فأصبحنا لك في إسار فان اليك سوقا في قطار ، وانت علينا ذو اقتدار . ان بنا من الله هوانا ، وعليك منه كرامة وامتنانا ؟ وان ذلك لعظم خطرك وجلالة قدرك فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك تضرب اصدريك فرحا 29 وتنفض مدرويك مرحا 30 .
حين رأيت الدينا لك مستوسقة ، والامور لديك متسقة وحين صفي لك ملكنا وخلص لك سلطاننا فمهلا مهلا لا تطش جهلا انسيت قول الله ﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا … ﴾ 31 هكذا جاء اول الخطاب في صورة هجمات متلاحقة لا هوادة فيها ضد شخص الطاغوت ، فيها الاستخفاف بسلطانه والاستهزاء بجبروته والتذكير بعظمة الله ، وان معيار القرب منه ليس الحصول على حطام الدنيا او شيء من متاعها الزائل .
ثم ذكرت يزيد بذنبه العظيم الذي لا يمكنه الفرار منه وهو سوق بنات رسول الله سبايا ، واقرعته بأنه ابن الطلقاء وان رسول الله قد عفى عن آبائه بعد فتح مكة بعد ان قدر عليهم وقال لهم كلمته المعروفه : اذهبوا فانتم الطلقاء . فهل من العدل ان يسوق بنات هذا الرسول الكريم عبر عشرات المنازل هاتكا ستورهن وبلا اي حمي ؟
فقالت سلام الله عليها : أمن العدل يابن الطلقاء تخديرك حرائرك وسوقك بنات رسول الله سبايا قد هتكت ستورهن وابديت وجوههن يحدوا بهن الاعداء من بلد الى بلد ويستشرفهن اهل المناقل ، ويبرزن لأهل المناهل ، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد والغائب والشهيد والشريف والوضيع و الدني والرفيع ليس معهن من رجالهن ولي ولا من حماتهن حمي ( حميم ) عتوا منك على الله وجحودا لرسول الله ودفعا لما جاء به من عند الله .
وهكذا قرعته بما يؤنب ضميره بعد ان أزالت عن عينه حجاب السلطة الزائلة التي يفتخر بها ، ثم عرته امام امراء جيشه وولاة حكومته وبينت له انه لا يمت الى الاسلام الذي يحكم باسمه بأية صلة ، ثم قالت :
الا انها نتيجة خلال الكفر ، وضب يجرجر في الصدر لقتلى يوم بدر فلا يستبطىء في بغضنا اهل البيت من كان نظره الينا شنفا وشنآنا واحنا وضغنا يظهر كفره برسوله ، ويفصح ذلك بلسانه وهو يقول فرحا بقتل ولده وسبي ذريته غير متحوب ولا مستعظم .
لاهلوا واستهلوا فرحا *** ولقالوا : يا يزيد لا تشل
منتحيا على ثنايا ابي عبد الله ، وكان مقبل رسول الله ينكثها بمخصرته قد التمع السرور بوجهه .
لقد كان يزيد يحكم باسم الاسلام وها هي الصديقة زينب تفضحه وتبين انه ليس بمسلم ان في قلبه اضغان يوم بدر حين انتصر الدين على الكفر . وهكذا تكون من واجب الخطباء في عصر الردة مسؤولية فضح النفاق وتبصير الامة بحقيقة السلطات الحاكمة ، وفصل ظاهر دينهم القشريعن جوهر الدين الحق .
فأين تقبيل رسول الله لثنايا ابي عبد الله عليه السلام ، واين نكثها بالمخصرة بنشوة القاتل المحترف ؟
ثم اضافت السيدة وهي تبين عظم المصاب :
لعمري لقد نكأت القرحة ، واستأصلت الشأفة باراقتك دم سيد شباب اهل الجنة ، وابن يعسوب العرب وشمس آل عبد المطلب ، وهتفت باشياخك وتقربت بدمه الى الكفرة من اسلافك ثم صرخت بندائك . ولعمري قد ناديتهم لو شهدوك 32 ووشيكا تشهدهم ويشهدوك ، ولتود يمينك ـ كما زعمت ـ شلت بك عن مرفقها ، واحببت امك لم تحملك واباك لم يلدك حين تصير الى سخط الله ومخاصمتك رسول الله .
وهكذا انذرته السيدة زينب بسوء العاقبة ، و نسفت قاعدة العصبية الجاهلية التي نادى بها ، و بينت ان العصبية في النار لان جذورها المتمثلة في تلك الارواح الشريرة وتلك الاعظم البالية الان تحترق في النار وسوف يلحق الله بها كل الذين ينادون بها .
ثم توجهت بالدعاء الى الله بقلب كسير ، وضراعة بلا نظير قائلة :
” اللهم خذ بحقنا ، وانتقم من ظالمنا ، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا ، ونقض ذمامنا ، وقتل حماتنا وهتك عنا سدولنا ” .
وعادت بعد هذا الدعاء القصير والمؤثر الى يزيد توبخه على فعلته الشنيعة غير آبهة بطغيانه وصولجانه فقالت :
” وفعلت فعلتك التي فعلت ، وما فريت الا جلدك ، وما جززت الا لحمك 33 ، وسترد على رسول الله بما تحملت من ذريته وانتهكت من حرمته وسفكت من دماء عترته ولحمته حيث يجمع به شملهم ، ويلم به شعثهم ، و ينتقم من ظالمهم ويأخذ لهم بحقهم من اعدائهم “
بهذه الكلمات بينت السيدة زينب مقام سيد الشهداء في عترة الرسول واظهرت ان قتل الامام الحسين كان بمثابة اعدام العترة كلها لأنه قائدهم وجامع شملهم وحاميهم و .. و ..
ثم جابهته بأقوى كلمات التقريع وقالت سلام الله عليها :
” ولا يستفزنك الفرح بقتله “
﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ 34 ﴿ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ … ﴾ 35 وحسبك بالله وليا وحاكما ، و برسول الله خصيما وبجبرئيل ظهيرا وسيعلم من بوأك ومكنك من رقاب المسلمين (ان ) بئس للظالمين بدلا وانكم شر مكانا واضل سبيلا “وهكذا ذكرت السيدة زينب سلام الله عليها بمسؤولية القادة والاشراف ( الذين كان كثير منهم حاضرين يستمعون اليها ) وحذرتهم من ان تسلط مثل يزيد عليهم نذير شؤم عليهم وانه البديل الاسوء .
زينب سبط الرسالة ، وشبلة علي الطهر ، و بنت الصديقة فاطمة .. و يزيد الفاجر العاهر و مثلها لا تتكلم مع مثله ، ولكنها بينت عذرها في الحديث مع يزيد وقالت :
” وما استصغاري قدرك ، ولا استعظامي تقريعك توهما لانتجاع الخطاب فيك 36 بعد ان تركت عيون المسلمين به عبرى ، و صدورهم عند ذكره حرى فتلك قلوب قاسية ، و نفوس طاغية ، واجسام محشوة بسخط الله ولعنة الرسول قد عشعش فيه الشيطان وفرخ ومن هناك مثلك ما درجونهض 37 .
فالعجب كل العجب لقتل الاتقياء واسباط الانبياء وسليل الاوصياء بايدي الطلقاء الخبيثة ونسل العهرة الفجرة تنطف اكفهم من دمائنا ، وتتحلب افواههم من لحومنا 38 ، و للجثث الزاكية على الجيوب الضاحية 39 تنتابها العواسل وتعفرها الفراعل “هكذا كشفت السيدة عن جوانب من مأساة السبط الشهيد في كلمات مختصرة ولكنها ذات نبرة قوية ثم قالت فلأن اتخذتنا مغنما لتتخذنا وشيكا مغرما حين لاتجد الا ما قدمت يداك وما الله بظلام للعبيد والى الله المشتكى والمعول واليه الملجأ والمؤمل ” .
المرة بعد الاخرى تذكر الصديقة زينب خصمها الطاغي بالله واليوم الاخر وانه سوف يرى جزاء افعاله فاذا بمكاسب الانتصار في الدنيا تصبح عوامل الهزيمة والعذاب ، في الاخرة ، اما دنياه فانها زائلة لا محالة وانما يبقى الحق الذي يتمثل في الرسالة ومن انتسب اليهاالرسول واهل بيته الطاهرين فقالت سلام الله :
” ثم كد كيدك ، واجهد جهدك ، فوالذي شرفنا بالوحي والكتاب ، والنبوة والانتجاب لا تدرك امدنا ، ولا تبلغ غايتنا ولا تمحو ذكرنا ، ولا ترحض عنك عارنا ، وهل رأيك الا فند وايامك الا عدد ، و جمعك الا بدد يوم ينادي المنادي الا لعن الظالم العادي “.
وفي الختام توجهت الى الله سبحانه بالدعاء قائلة :
” والحمد لله الذي حكم لأولياءه بالسعادة ، وختم لاوصياءه ببلوغ الارادة . نقلهم الى الرحمة والرأفة ، والرضوان والمغفرة ، ولم يشق بهم غيرك ، ولا ابتلي بهم سواك ، ونسأله ان يكمل لهم الاجر ، ويجزل لهم الثواب والذخر ، ونسأله حسن الخلافة وجميل الانابة انه رحيم ودود ” .
فقال يزيد مجيبا لها شعرا :
يا صيحة تحمد من صوائح *** ما اهون الموت على النوائح 40
لقد هزت زينب ليس عرش بني امية فقط ، و انما هزت فؤاد يزيد الطاغية ، وجعلته يقول بعد فترة :
لعن الله ( ابن مرجانة ) فانه اخرجه ( يعني الحسين ) واضطره ثم قتله فبغضني بقتله الى المسلمين وزرع لي في قلوبهم العداوة بما استعظموه من قتلي حسينا . ما لي ولابن مرجانة لعنه الله 41 . لقد اهتز يزيد ، واهتز العرش ، وزلزلت الارض تحت اقدام بني امية ، ولكن ذلك لم يكن كافيا . ان فاجعة الطف اعمق اثرا من ذلك ، وان الهدف منها اعظم واخطر . لابد ان تبقى هذه المأساة وخزا في ضمير المتقاعسين ، ونورا لدرب المجاهدين ، وحبا للشهادة في نفوس المؤمنين .
وهكذا نصبت زينب سلام الله عليها مجلس العزاء في الشام ، ثم لما عادت الى المدينة دخلتها هي والامام زين العابدين عليهما السلام وسائر الاسارى بصورة فجيعة ، ثم نصبت السيدة زينب مجالس العزاء ، واخذت النساء يدخلن عليها وهي تصف لهن ما جرى عليهم وتحرض الناس على سلطة يزيد حتى كتب والي المدينة ( عمرو بن سعد الاشدق ) الى يزيد يقول :
ان وجودها بين أهل المدينة مهيج للخواطر ، وانها فصيحة عاقلة لبيبة وقد عزمت هي ومن معها على القيام للاخذ بثأر الحسين .
فكتب اليه يزيد :
فرق بينها وبين اهل المدينة !
وهكذا طلب الوالي من السيدة مغادرة المدينة الى اي جهة شاءت ، فأبت و تحدت اوامر يزيد قائلة : ” قد علم والله ما صار الينا ، قتل خيرنا وسيق الباقون كما تساق الانعام وحملنا على الاقتاب ، فوالله لا خرجنا وان اريقت دماؤنا ” .
الا ان نسوة من الهاشميات تلطفن معها حتى اقتنعت بالخروج من المدينة ، ولعلها سلام الله عليها رأت في الخروج من المدينة فائدة للنهضة . وهكذا اختارت مصر حسب التواريخ حيث الارضية المناسبة لحب اهل البيت ، وقيل ذهبت الى الشام ، وقال البعض انما خرجت بطلب من الامام زين العابدين عليه السلام .
10 ـ الرحلة الاخيرة
وهنا تختلف الروايات التاريخية ؛ هل ذهبت الصديقة الى مصر حيث وافتها المنية أم الى الشام حيث مرقدها اليوم ؟ وانى كانت فان رسالة زينب التاريخية قد اكتملت ، وها هي تحس بثقل الفجائع على قلبها . لقد ضاقت الدنيا بها واشتاقت الى اسلافها .
دعنا نرافق سيدتنا الى مثواها حيث الاخير تقول احدى الروايات التاريخية :
انها خرجت في لمة من نساءها قاصدة مصر حيث شيعة ابيها وحيث الوالي الانصاري مسلمة بن مخلد الانصاري الذي يحترم آل البيت اشد الاحترام .
وحينما بلغ الخبر الوالي خرج في جمع من اشراف مصر يستقبلها ، فلما بدا الركب لهم في غرة شعبان لعام 61 هـ وهي ذات السنة التي استشهد الامام الحسين عليه السلام في مستهلة العاشر من محرم ، استقبلها اشراف مصر بالبكاء والنحيب فها هي زينب ام المصائب والتي اصبح اسمها شعيرة من شعائر البكاء والنياحة .
وسكنت زينب في بيت الوالي وانشغلت بالعبادة وتلاوة القرآن .
ومرت الايام وازدادت الصديقة توغلا في الابتهال والتهجد حتى كان اليوم الرابع عشر من شهر رجب من العام (62) على هذه الرواية ، حيث وافتها المنية ودفنت حيث مرقدها الشريف مزار الشعب المصري . وقبل وفاتها جاءها الوالي وطلب منها ان توصي له بنسخة القرآن التي تقرء فيها فقالت له : انك لا تستفيد منها فلم يعرف سر هذا الكلام ، الا ان الوالي مات في اليوم الثاني من وفاة الصديقة ، و عرف سر كلامها ثم دفن بجوارها حيث اوصى بذلك .
وتقول الرواية الثانية :
ان عبد الله بن جعفر زوج الصديقة لما رأها قد انهد ركنها ، وضعف جسمها رحل بها الى بلاد الشام حيث كانت له ضيعة في اطراف دمشق ، فسكنت هناك برهة من الزمان ثم توفيت ، حيث مرقدها اليوم .
وسواء صحت هذه او تلك الرواية التي تبدو عند اكثر المؤرخين الاصح ، فان مقام السيدة يوجد اليوم في اكثر من بقعة ، والوافدون على هذه المقامات يطلبون الاجر والثواب ، والله سبحانه مجازيهم خير الجزاء في الاخرة ، كما ان استجابة دعواتهم في كل موقع دليل على قبول طاعاتهم .
11 ـ زلزلت الارض
ومضت السيدة زينب لربها قبل ان ترى ثمرات جهادها المضني ، و ثمرات دماء الشهداء من اهل بيتها .. ولكن متى كان عباد الله يجاهدون من اجل انفسهم ؟
ان الهدف الاسمى للمجاهد الحق رضوان الله وان يلقى ربه نقي الجانب من الخضوع للطغاة او السكوت عن الظالمين ، واما الفتح فانه هدف آخر يريده المجاهد لدينه ولأمته قبل ان يريده لنفسه .
بلى بعد وفاة الصديقة زينب بسنة واشهر ثارت المدينة المنورة بقيادة ابن غسيل الملائكة عبد الله بن حنظلة ، وبالرغم من ان يزيد استطاع اخماد الثورة بقسوة بالغة حيث اباح المدينة لقائده الزنيم الذي سمى بحق مسرفا بعد ان كان اسمه مسلم بن عقبة الا ان حصيلته منتلك الوقعة التي سميت بوقعة الحرة لم تكن سوى المزيد من الافتضاح واللعن .. حيث ان عدوه عبد الله بن الزبير قويت شوكته ، لان يزيد امر بعد تلك الواقعة التي كانت في نهاية العام (62) للهجرة بوضع المنجنيق ورمي الكعبة بالحجارة لاخراج ابن الزبير منها ، ففشلت حملته التي وقعت في السنة (63) للهجرة ، وهلك يزيد وغاص البيت الاموي في غمرات المشاكل .
لقد مضت الصديقة زينب الى ربها بعد ان زرعت في الكوفة ايضا بذور المعارضة ، فلم تمر الا بضع سنوات حتى اخضرت واينعت فاذا بانتفاضة التوابين بعد حوالي خمس سنوات من مقتل السبط الشهيد ، والتي كانت بقيادة الصحابي الجليل سليمان بن صرد الخزاعي والذي القى خطابا ألهب حماس الجماهير فقال فيما قال : اما بعد فقد ابتلينا بطول العمر والتعرض لانواع الفتن فنرغب الى ربنا الا يجعلنا ممن يقول له غدا ﴿ … أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ … ﴾ 42 فان امير المؤمنين عليا قال : العمر الذي اعذر الله فيه الى ابن آدم ستون سنة وليس فينا رجل الا وقد بلغه .
ثم اضاف : فما عذرنا عند ربنا وعند لقاء نبينا وقد قتل فينا ولد حبيبه وذريته ونسله . لا والله ، لا عذر دون ان تقتلوا قاتله والموالين عليه او تقتلوا في طلب ذلك 43 . كلمة يا لثارات الحسين اصبحت شعار كل ثائر ، وهكذا نسمع هذا الشعار في ازقة الكوفة ابتداء من السنة (65) للهجرة ، واذا بالالوف من الشيعة الذين اعتبروا انفسهم مقصرين تجاه السبط الشهيد يخرجون من الكوفة الى كربلاء حيث يستغفرون الله عند مزار ابي عبد الله الحسين عليه السلام ثم يتوجهون الى الشام للانتقام من دم الشهيد . وكانت تلك الحملة الفدائية شبيهة في كثير من الوجوه لذات الواقعة التي شهدتها كربلاء في يوم عاشوراء ، لا تهدف الانتصار بل الشهادة دفاعا عن الحق ، واستشهد الصحابي الجليل سليمان بن صرد وثلة منالفقهاء والقراء الصالحين ، وجرت دمائهم الزاكية في ذات القناة التي جرت فيها دماء شهداء الطف حيث روت شجرة الاسلام ، واحيت الضمائر ، واثارت الهمم ، وكانت مقدمة لثورة اخرى اعقبتها بقيادة المختار الثقفي ، والتي استهدفت قتلة الحسين سلام الله عليه واستأصلتهم وبعثت برؤوسهم الى المدينة عند الامام زين العابدين عليه السلام .
وتلاحقت الثورات واصبحت راية السبط الشهيد المصبوغة بالدم الثائر ، والتي رفعتها السيدة زينب اصبحت مرفوعة خفاقة تنضوي تحتها النفوس الابية ولا تزال .
تلك كانت من ثمرات جهاد الصديقة زينب ، فسلام الله عليها وعلى جدها وابيها وامها واخويها .
واليوم يقتدي بالصديقة الطاهرة مئات الملايين من البشر ، حيث يحيون كل عام شعائر السبط الشهيد والتي تزداد كل يوم تألقا وانتشارا .
وانا اسطر هذه الكلمات الاخيرة من هذا الكتاب في يوم التاسع من شهر محرم لعام 1416 للهجرة اي بعد مرور (1355 ) من واقعة الطف ، اجد عاصمة الجمهورية الاسلامية في ايران ( طهران ) وعاصمة العلم (قم ) تشهد مراسيم احياء الذكرى كأعظم مناسبة وطنية او دينية ، وكأن الحدث التاريخي واقع هذا اليوم ، كما نستمع الى نشرات خبرية تطلعنا على مثل ذلك في عشرات الدول ، ولاول مرة تشارك الاجهزة العالمية للاعلام في نشر اخبار العزاء على الحسين 44 يا ايتها الصديقة الطاهرة لك منا سلام واكبار على ما بذلتي من جهد في سبيل رسالة النهضة الحسينية ، وعهدا منا ان نظل اوفياء لهذه النهضة باذن الله ، وما توفيقنا الا بالله عليه توكلنا واليه ننيب 45 .