عاشت المجتمعات الغربية أوضاعا مثل أوضاع المجتمعات العربية الآن، وقد عالجوا الأمر بإنشاء عقد يضبط علاقة الحاكم بالشعب وعلاقة الناس مع بعضهم، وقد أطلق المفكرون الغربيون من القرن السابع عشر الميلادي على هذا العقد (العقد الاجتماعي). لأن الشعب هو مصدر السلطة، وكان هناك من يعتقد أن السلطة مصدرها السماء، فهي التي تعين هذا الشخص حاكمًا على هذا الشعب، ونحن المسلمين نرى أن هذا الشيء يكون في حالة المعصوم الذي يختاره الله تعالى لقيادة الناس، أما في غير هذه الحالة فإن السلطة تكون بإرادة الناس، وحتى المعصومون كالأنبياء والأئمة عليهم السلام إنما قادوا الناس بعد أن اقتنع الناس بهم، ولم يأتوا عن طريق انقلاب عسكري، ولم يفرض أحدهم على الناس قوته، ومن ثم يحكمهم بالقهر، الناس يقتنعون فيتبعون. من الناحية الشرعية عليهم واجب الانقياد والطاعة للنبي لكن إذا لم ينقادوا ولم يؤمنوا فهو لا يفرض عليهم سلطته ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ﴾ 1.
الدول الحديثة الآن قائمة على أساس هذا العقد الاجتماعي، والذي يعطي السلطة شرعية داخلية، من الشعب، وباقتناع ورضا، ويمكننا ان نفهم البيعة للإمام أو للحاكم في هذا السياق، فهي ليست مظهراً شكلياً بل هي بمثابة توقيع على هذا العقد.
ويطلق على نصوص هذا العقد عنوان الدستور، يلزم الحاكم بواجباته ووظائفه، ويلزم الرعية بواجباتها ووظائفها تجاه الحاكم، كما ينظم شكل العلاقات داخل المجتمع، هذه الحالة الدستورية هي التي تجلب الاستقرار وتجعل العلاقة سوية في المجتمعات، وإذا لم يكن هناك تصحيح للعلاقة من هذا المدخل، وكانت العلاقة مختلة فإن النتائج هو ما نراه الآن من ثورات وانتفاضات في مختلف البلدان، لماذا لا يتحقق هذا التغيير والتحول في بلاد العرب والمسلمين بسهولة مع ما نراه من ثورة عارمة؟
إن التغيير الذي حصل في الدول الأخرى حتى وصلوا إلى نظام العقد الاجتماعي لم يمر هكذا بسلام، لم يبادر الحكام الأوروبيون مثلاً لتغيير نظام حكمهم لنفحة هداية حلت في قلوبهم، وإنما مرت الشعوب بمخاض عسير حتى ولد هذا الواقع الجديد الذي يعيشونه. وما يجري الآن في كثير من العالم العربي والإسلامي هو مخاض آخر سيولد به واقع جديد إن شاء الله.
نسأل الله تعالى أن يوفق ولاة أمور المسلمين لإصلاح أمورهم لكي يختصروا الزمن والطريق، وحتى لا نقع في كثير من الخسائر والتضحيات. نحن رأينا ما حصل في تونس ومصر، كان الحاكم في البداية يتردد ويتمنع ولكن في الأخير لا يجد أمامه بدًا من الاستجابة، ولو استجاب من البداية لوفر الخسائر والتضحيات ولكانت سمعته أفضل عند شعبه وفي سجلات التاريخ. ما حصل ينبغي أن يكون عبرة حتى يتحقق الأمن والاستقرار فهو مصلحة للجميع، ليس هناك من يرغب في القلاقل والمشاكل ولكن حين يكون هناك خلل في العلاقة فسيكون هناك سعي لإصلاح هذا الخلل.
ما يجري الآن في ليبيا مثلًا والعالم كله يتابع يوميًا ما يحصل هناك، نرى كيف أن عسكرياً نزل على الحكم منذ أربعة عقود من الزمن وأصبح يتعامل مع الناس بتعالٍ وكبرياء، ويسمي نفسه (ملك ملوك افريقيا) و(زعيم العالم الإسلامي)، ويعبر عن نفسه بأنه العز والمجد والشرف، وأن وطنه وشعبه لا قيمة له إلا به! الناس هناك يطالبون بإصلاح هذا الخلل، وأن يكون الحاكم منتخبًا من قبلهم وبإرادتهم، ويكون بينهم وبينه عقد ملزم، ولكنه يصر على ممارسة الاستبداد والديكتاتورية والتفرد، والنتيجة المزيد من الخسائر، وإعطاء فرصة سانحة للدول الغربية الطامعة في خيرات هذه البلاد لتحقيق ما تصبو إليه 2.
- 1. القران الكريم: سورة الغاشية (88)، الآية: 21 و 22، الصفحة: 592.
- 2. الموقع الرسمي لسماحةالشيخ حسن الصفار*جريدة الدار الكويتية 12 / 3 / 2011م. العدد/957.