ما بين منتصف القرن العشرين، وبداية القرن الحادي والعشرين، تغيرت بصورة جذرية علاقة الخطاب الإسلامي بمفهوم التجديد، وتحولت هذه العلاقة من موقف الرفض المطلق، إلى موقف التقبل والاندفاع. لا شك أن هذا التحول بحاجة إلى تحليل وتفسير، وقبل ذلك لابد من تحليل لماذا كان الخطاب الإسلامي يتعامل بمنطق الرفض لمفهوم التجديد؟
لقد مرت على الخطاب الإسلامي مرحلة لم يتقبل فيها الاقتران بكلمة التجديد، الكلمة التي كانت تفسر بخلفيات التآمر والانفلات والتخريب لفكر المسلمين وعقيدتهم وآدابهم. وحسب هذا التصور فإن الغربيين هم الذين اخترعوا مفهوم التجديد، وهم أول من تحدثوا عنه بعد انحلال الخلافة العثمانية، وحاولوا إقناع المسلمين والنخب الفكرية منهم بالذات بهدف أن يكون هذا المفهوم إطاراً يحدد اتجاهات الفهم والنظر للإسلام والفكر الإسلامي، بقصد أن لا يكون الإسلام عقبة في تقبل النموذج الثقافي والقيمي الغربي.
وأبرز الكتابات الغربية التي يستشهد بها في هذا الشأن، هما كتابان، الأول كتاب (الإسلام والتجديد في مصر)، لشارلز آدمز من الجامعة الأميركية في القاهرة، والصادر عام 1933م. والثاني كتاب (الاتجاهات الحديثة في الإسلام) للمستشرق البريطاني هاملتون جيب عضو المجمع العلمي العربي في القاهرة، والصادر في الأربعينيات من القرن العشرين.
ولعلّ أكثر كتاب يعبر عن هذا الطور في علاقة الخطاب الإسلامي بمفهوم التجديد، هو كتاب (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي) للدكتور محمد البهي، الصادر عام 1957م. والذي تحدث فيه عن التجديد في الفكر الإسلامي، وخصص له فصلاً موسعاً في كتابه زادت عدد صفحاته على (170) صفحة، ويقصد بهذا المنحى الاتجاه الفكري الذي يتماهى ويتطابق مع نظم التفكير الغربي، وحسب قوله (فالتجديد في رقعة الشرق الأدنى، منذ بداية القرن العشرين هو محاولة أخذ الطابع الغربي، والأسلوب الغربي في تفكير الغربيين، سواء في تعبيرهم عن الدين، أو في تحديدهم لمفاهيمه، ومفاهيم الحياة التي يعيشونها، أو في تقديرهم للثقافات الشرقية الدينية والإنسانية).
وبعد أن تتبع الدكتور البهي مسارات هذا الاتجاه خلال ما يزيد على نصف قرن، منذ بدايات القرن العشرين إلى أواخر الخمسينيات، ختم كلامه مع نهاية هذا الفصل بقوله (والآن نرى أن التجديد في الفكر الإسلامي في الوقت الحاضر، يعيش في التفكير الغربي الذي خلقه القرن التاسع عشر، وينقل منه ما لا يفيد التوجيه في الشرق الإسلامي. ينقل منه آراء المستشرقين الصليبيين فيما يصور الإسلام على أنه رسالة بشرية لمصلح إنساني، أو قائد ناجح، يرتبط اعتبارها بوقت حياة هذا المصلح، أو ينقل منه آراء بعض المدارس اليسارية والإلحادية ضد الدين عامة).
والنماذج التي تحدث عنها الدكتور البهي وصنفها على هذا الاتجاه، هي محاولة الدكتور طه حسين في كتابيه (في الشعر الجاهلي) الصادر عام 1926م، و(مستقبل الثقافة في مصر) الصادر عام 1938م. ومحاولة الشيخ علي عبد الرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم) الصادر عام 1925م. ومحاولة الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه (خرافة الميتافيزيقا) الصادر عام 1953م، ومحاولة الدكتور مصطفى محمود في كتابه (الله والإنسان) الصادر عام 1955م، وأخيراً محاولة الدكتور خالد محمد خالد في كتابه (من هنا نبدأ) الصادر عام 1950م.
ويتناغم مع هذا الطرح ما يراه الدكتور طارق البشري بعد عدة عقود من الزمن على ذلك الكلام، حيث يرى بأن المحاولات الفكرية التي رفعت شعار التجديد تعمدت إقصاء الفكر الإسلامي، والجدير بالانتباه كما يقول بأن (إقصاء الفكر الإسلامي من قبل النزعة الغربية بدأ بلفظ التجديد. ومن هنا إذاً كان التجديد يقصد به إقصاء الفكر الإسلامي).
ومع أن الخطاب الإسلامي المعاصر قد تجاوز الكثير من تلك الالتباسات والهواجس والرواسب التي أحاطت بمفهوم التجديد في ذلك الطور، إلا أنه ما زالت هناك بعض البقايا، عند بعض الخطاب الإسلامية.
ومشكلة الخطاب الإسلامي في هذا الطور أنه كان متأثراً بصدمتين، صدمة انهيار الخلافة العثمانية في العقد الثالث من القرن العشرين. وصدمة تخلي الدولة العربية الحديثة في مرحلة ما بعد الاستعمارعن الهوية الإسلامية والمرجعية الإسلامية، حينما تبنت هذه الدولة فكرة العلمانية. لذلك لم يكن وارداً في تلك الوضعيات الحديث عن التجديد في داخل الخطاب الإسلامي، ولم يكن مقبولاً أيضاً عند طرحه من خارج الخطاب الإسلامي1.
الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ، العدد 14095.