جَاءَ رَجُلٌ يَوْماً إِلَى عَلِيِّ 1 بْنِ الْحُسَيْنِ عليه السلام بِرَجُلٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ قَاتِلُ أَبِيهِ فَاعْتَرَفَ، فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصَ، وَ سَأَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ لِيُعْظِمَ اللَّهُ ثَوَابَهُ، فَكَأَنَّ نَفْسَهُ لَمْ تَطِبْ بِذَلِكَ.
فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليه السلام لِلْمُدَّعِي- وَلِيِّ الدَّمِ الْمُسْتَحِقِّ لِلْقِصَاصِ ــ : “إِنْ كُنْتَ تَذْكُرُ لِهَذَا الرَّجُلِ عَلَيْكَ حَقّاً فَهَبْ لَهُ هَذِهِ الْجِنَايَةَ، وَ اغْفِرْ لَهُ هَذَا الذَّنْبَ”.
قَالَ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و آله، لَهُ عَلَيَّ حَقٌّ، وَ لَكِنْ لَمْ يَبْلُغْ (بِهِ) أَنْ أَعْفُوَ لَهُ عَنْ قَتْلِ وَالِدِي.
قَالَ: “فَتُرِيدُ مَا ذَا”؟
قَالَ: أُرِيدُ الْقَوَدَ 2، فَإِنْ أَرَادَ لِحَقِّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَالِحَهُ عَلَى الدِّيَةِ صَالَحْتُهُ وَ عَفَوْتُ عَنْهُ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليه السلام: “فَمَا ذَا حَقُّهُ عَلَيْكَ”؟
قَالَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و آله: لَقَّنَنِي تَوْحِيدَ اللَّهِ وَ نُبُوَّةَ رَسُولِ اللَّهِ، وَ إِمَامَةَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَ الْأَئِمَّةِ عليهم السلام.
فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليه السلام: “فَهَذَا لَا يَفِي بِدَمِ أَبِيكَ! بَلَى وَ اللَّهِ، هَذَا يَفِيَ بِدِمَاءِ أَهْلِ الْأَرْضِ كُلِّهِمْ- مِنَ الْأَوَّلِينَ وَ الْآخِرِينَ سِوَى الْأَنْبِيَاءِ وَ الْأَئِمَّةِ عليهم السلام إِنْ قُتِلُوا فَإِنَّهُ لَا يَفِي بِدِمَائِهِمْ شَيْءٌ، أَ وَ تَقْنَعُ مِنْهُ بِالدِّيَةِ”؟
قَالَ: بَلَى.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليه السلام لِلْقَاتِلِ: “أَ فَتَجْعَلُ لِي ثَوَابَ تَلْقِينِكَ لَهُ حَتَّى أَبْذُلَ لَكَ الدِّيَةَ فَتَنْجُوَ بِهَا مِنَ الْقَتْلِ”؟
قَالَ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و آله، أَنَا مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا، وَ أَنْتَ مُسْتَغْنٍ عَنْهَا فَإِنَّ ذُنُوبِي عَظِيمَةٌ، وَ ذَنْبِي إِلَى هَذَا الْمَقْتُولِ أَيْضاً بَيْنِي وَ بَيْنَهُ، لَا بَيْنِي وَ بَيْنَ وَلِيِّهِ هَذَا.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليه السلام: “فَتَسْتَسْلِمُ لِلْقَتْلِ أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ نُزُولِكَ عَنْ ثَوَابِ هَذَا التَّلْقِينِ”؟
قَالَ: بَلَى يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ.
فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليه السلام لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ: “يَا عَبْدَ اللَّهِ قَابِلْ بَيْنَ ذَنْبِهِ هَذَا إِلَيْكَ، وَ بَيْنَ تَطَوُّلِهِ عَلَيْكَ، قَتَلَ أَبَاكَ فَحَرَمَهُ لَذَّةَ الدُّنْيَا، وَ حَرَمَكَ التَّمَتُّعَ بِهِ فِيهَا، عَلَى أَنَّكَ إِنْ صَبَرْتَ وَ سَلَّمْتَ فَرَفِيقُ أَبِيكَ فِي الْجِنَانِ، وَ لَقَّنَكَ الْإِيمَانَ فَأَوْجَبَ لَكَ بِهِ جَنَّةَ اللَّهِ الدَّائِمَةَ، وَ أَنْقَذَكَ مِنْ عَذَابِهِ الدَّائِمِ، فَإِحْسَانُهُ إِلَيْكَ أَضْعَافُ أَضْعَافِ جِنَايَتِهِ عَلَيْكَ، فَإِمَّا أَنْ تَعْفُوَ عَنْهُ جَزَاءً عَلَى إِحْسَانِهِ إِلَيْكَ! لِأُحَدِّثَكُمَا بِحَدِيثٍ مِنْ فَضْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و آله خَيْرٌ لَكُمَا مِنَ الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا، وَ إِمَّا أَنْ تَأْبَى أَنْ تَعْفُوَ عَنْهُ حَتَّى أَبْذُلَ لَكَ الدِّيَةَ لِتُصَالِحَهُ عَلَيْهَا، ثُمَّ أُحَدِّثُهُ بِالْحَدِيثِ دُونَكَ، وَ لَمَا يَفُوتُكَ مِنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ- خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا لَوِ اعْتَبَرْتَ بِهِ”.
فَقَالَ الْفَتَى: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ: قَدْ عَفَوْتُ عَنْهُ بِلَا دِيَةٍ، وَ لَا شَيْءٍ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَ لِمَسْأَلَتِكَ فِي أَمْرِهِ، فَحَدِّثْنَا يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ بِالْحَدِيثِ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليه السلام: “إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و آله لَمَّا بُعِثَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً، وَ داعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً، جَعَلَتِ الْوُفُودُ تَرِدُ عَلَيْهِ، وَ الْمُنَازِعُونَ يَكْثُرُونَ لَدَيْهِ، فَمِنْ مُرِيدٍ قَاصِدٍ لِلْحَقِّ مُنْصِفٍ مُتَبَيِّنٍ مَا يُورِدُهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله مِنْ آيَاتِهِ وَ يُظْهِرُ لَهُ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ، فَلَا يَلْبَثُ أَنْ يَصِيرَ أَحَبَّ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَيْهِ وَ أَكْرَمَهُمْ عَلَيْهِ، وَ مِنْ مُعَانِدٍ يَجْحَدُ مَا يَعْلَمُ وَ يُكَابِرُهُ فِيمَا، يَفْهَمُ فَيَبُوءُ بِاللَّعْنَةِ عَلَى اللَّعْنَةِ قَدْ صَوَّرَهُ عِنَادُهُ وَ هُوَ مِنَ الْعَالِمِينَ فِي صُورَةِ الْجَاهِلِينَ.
فَكَانَ مِمَّنْ قَصَدَ رَسُولَ اللَّهِ لِمُحَاجَّتِهِ وَ مُنَازَعَتِهِ طَوَائِفُ فِيهِمْ مُعَانِدُونَ مُكَابِرُونَ وَ فِيهِمْ مُنْصِفُونَ مُتَبَيِّنُونَ مُتَفَهِّمُونَ، فَكَانَ مِنْهُمْ سَبْعَةُ نَفَرٍ يَهُودُ وَ خَمْسَةٌ نَصَارَى وَ أَرْبَعَةٌ صَابِئُونَ وَ عَشَرَةٌ مَجُوسٌ وَ عَشَرَةٌ ثَنَوِيَّةٌ وَ عَشَرَةٌ بَرَاهِمَةٌ وَ عَشَرَةٌ دَهْرِيَّةٌ مُعَطِّلَةٌ وَ عِشْرُونَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ جَمَعَهُمْ مَنْزِلٌ قَبْلَ وُرُودِهِمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و آله وَ فِي الْمَنْزِلِ مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ نَفَرٌ، مِنْهُمْ: عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ، وَ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَ بِلَالٌ.
فَاجْتَمَعَ أَصْنَافُ الْكَافِرِينَ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و آله وَ مَا يَدَّعِيهِ مِنَ الْآيَاتِ، وَ يَذْكُرُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ:
إِنَّ مَعَنَا فِي هَذَا الْمَنْزِلِ نَفَراً مِنْ أَصْحَابِهِ، وَ هَلُمُّوا بِنَا إِلَيْهِمْ نَسْأَلُهُمْ عَنْهُ قَبْلَ مُشَاهَدَتِهِ، فَلَعَلَّنَا أَنْ نَقِفَ مِنْ جِهَتِهِمْ عَلَى بَعْضِ أَحْوَالِهِ فِي صِدْقِهِ وَ كِذْبِهِ، فَجَاءُوا إِلَيْهِمْ، فَرَحَّبُوا بِهِمْ وَ قَالُوا: أَنْتُمْ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ؟
قَالُوا: بَلَى، نَحْنُ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَ الْآخِرِينَ، وَ الْمَخْصُوصِ بِأَفْضَلِ الشَّفَاعَاتِ فِي يَوْمِ الدِّينِ، وَ مَنْ لَوْ نَشَرَ اللَّهُ تَعَالَى جَمِيعَ أَنْبِيَائِهِ، فَحَضَرُوهُ لَمْ يَلْقَوْهُ إِلَّا مُسْتَفِيدِينَ مِنْ عُلُومِهِ، آخِذِينَ مِنْ حِكْمَتِهِ، خَتَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ النَّبِيِّينَ، وَ تَمَّمَ بِهِ الْمَكَارِمَ، وَ كَمَّلَ بِهِ الْمَحَاسِنَ، فَقَالُوا: فَبِمَا ذَا أَمَرَكُمْ مُحَمَّدٌ؟
فَقَالُوا: أَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَ أَنْ نُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَ نُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَ نَصِلَ الْأَرْحَامَ، وَ نُنْصِفَ لِلْأَنَامِ، وَ لَا نَأْتِيَ إِلَى عِبَادِ اللَّهِ بِمَا لَا نُحِبُّ أَنْ يَأْتُوا بِهِ إِلَيْنَا، وَ أَنْ نَعْتَقِدَ وَ نَعْتَرِفَ أَنَّ مُحَمَّداً سَيِّدُ الْأَوَّلِينَ وَ الْآخِرِينَ، وَ أَنَّ عَلِيّاً عليه السلام أَخَاهُ سَيِّدُ الْوَصِيِّينَ، وَ أَنَّ الطَّيِّبِينَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ الْمَخْصُوصِينَ بِالْإِمَامَةِ هُمُ الْأَئِمَّةُ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ الَّذِينَ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى طَاعَتَهُمْ وَ أَلْزَمَ مُتَابَعَتَهُمْ وَ مُوَالاتِهِمْ.
فَقَالُوا: يَا هَؤُلَاءِ، هَذِهِ أُمُورٌ لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِحُجَجٍ ظَاهِرَةٍ، وَ دَلَائِلَ بَاهِرَةٍ، وَ أُمُورٌ بَيِّنَةٌ، لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُلْزِمَهَا أَحَداً بِلَا أَمَارَةٍ 3 تَدُلُّ عَلَيْهَا، وَ لَا عَلَامَةٍ صَحِيحَةٍ تَهْدِي إِلَيْهَا، أَ فَرَأَيْتُمْ لَهُ آيَاتٍ بَهَرَتْكُمْ، وَ عَلَامَاتٍ أَلْزَمَتْكُمْ؟
قَالُوا: بَلَى وَ اللَّهِ، لَقَدْ رَأَيْنَا مَا لَا مَحِيصَ عَنْهُ، وَ لَا مَعْدِلَ 4 وَ لَا مَلْجَأَ، وَ لَا مَنْجَى لِجَاحِدِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَ لَا مَوْئِلَ 5 فَعَلِمْنَا أَنَّهُ الْمَخْصُوصُ بِرِسَالاتِ اللَّهِ، الْمُؤَيَّدُ بِآيَاتِ اللَّهِ، الْمُشَرَّفُ بِمَا اخْتَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ.
قَالُوا: فَمَا الَّذِي رَأَيْتُمُوهُ ؟
قَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ: أَمَّا الَّذِي رَأَيْتُهُ أَنَا، فَإِنِّي قَصَدْتُهُ وَ أَنَا فِيهِ شَاكٌّ، فَقُلْتُ: يَا مُحَمَّدُ لَا سَبِيلَ إِلَى التَّصْدِيقِ بِكَ مَعَ اسْتِيلَاءِ الشَّكِّ فِيكَ عَلَى قَلْبِي، فَهَلْ مِنْ دَلَالَةٍ؟
قَالَ: بَلَى.
قُلْتُ: مَا هِيَ؟
قَالَ: إِذَا رَجَعْتَ إِلَى مَنْزِلِكَ فَاسْأَلْ عَنِّي مَا لَقِيتَ مِنَ الْأَحْجَارِ وَ الْأَشْجَارِ، تُصَدِّقُنِي بِرِسَالَتِي، وَ تَشْهَدُ عِنْدَكَ بِنُبُوَّتِي.
فَرَجَعْتُ فَمَا مِنْ حَجَرٍ لَقِيتُهُ، وَ لَا شَجَرٍ رَأَيْتُهُ إِلَّا نَادَيْتُهُ: يَا أَيُّهَا الْحَجَرُ، يَا أَيُّهَا الشَّجَرُ، إِنَّ مُحَمَّداً يَدَّعِي شَهَادَتَكَ بِنُبُوَّتِهِ، وَ تَصْدِيقَكَ لَهُ بِرِسَالَتِهِ، فَبِمَا ذَا تَشْهَدُ لَهُ فَنَطَقَ الْحَجَرُ وَ الشَّجَرُ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً صلى الله عليه و آله رَسُولُ رَبِّنَا” 6 .
- 1. أي الامام علي بن الحسين زين العابدين السجاد عليه السلام رابع أئمة أهل البيت عليهم السلام.
- 2. القَوَد بالتّحريك: القصاص.
- 3. أي علامة.
- 4. يقال: أخذ معدل الباطل: أي طريقه.
- 5. أي ملجأ.
- 6. التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري عليه السلام: 596.