قبل الحديث عن تفاصيل الآثار العملية المترتبة على الحق في ساحة الفقه والقانون، ينبغي صرف النظر نحو الحديث عن المائز بين مفهومي الحق والحكم، وهل هما ماهيّة واحدة أم ماهيّتان مختلفتان.
اتحاد السنخ واختلاف الآثار
شكَّل السيد الخوئي اتجاهاً آخر مختلفاً عما عليه المشهور، فقد قال بالإتحاد بين الحق والحكم سنخاً، إذ أن كلّاً منهما قِسْم من المجعولات الشرعية ليس إلّا، وغاية ما في الأمر أنهما يختلفان في الأثر، فالأول يَسْقُط بالإسقاط، والثاني لا يسقط بذلك، ولمجرد بيان هذا الفارق لا نحتاج لتقسيم المجعولات الشرعية إلى حق وحكم.
وبتعبير آخر إن المجعولات الشرعية -بجميع أقسامها: التكليفية الإلزامية وغير الإلزامية، والوضعية اللزومية القابلة للفسخ وغير القابلة، والوضعية الترخيصية القابلة للإسقاط وغير القابلة- أمور اعتبارية تختلف في الآثار بشكل واضح، ولكنها بالرغم من ذلك تشترك في تقوُّمِها بالإعتبار المحض، وبهذا اللحاظ هي بأجمعها أحكام شرعية أو عقلائية.
والسبب في اختلافها من حيث الآثار خصوصاً بالنسبة لقبول الإسقاط وعدمه، أن زمام تلك الأمور بيد الشارع فهو الذي يحكم بالحدوث، أو البقاء، أو الإرتفاع ولو كان باختيار أحد المتعاملَين أو كليهما، والمرجع في ذلك في مقام الإثبات الأدلة الشرعية.
ومما يدلِّل على الإتحاد تعريفُ الحق لغةً بالثبوت، فمفهوم الحق يشمل جميع الأمور الثابتة سواء كانت تكوينية أو اعتبارية، والمجعولات الشرعية من تلك الأمور المتصفة بالثبوت، وبهذا اللحاظ يكون الحق شاملاً لجميع المجعولات الشرعية ما يقبل الإسقاط منها وما لا يقبل، كما يشمل كل ما يتصف بالثبوت.
ومفاد كل ذلك أن الحق حكم من الأحكام الشرعية أو العقلائية، كما أن الحكم حق أيضاً لأنه من الأمور الثابتة.
مع ذلك فالسيد الخوئي لم يمنع من اطلاق الحق على الأحكام القابلة للإسقاط من باب الإصطلاح فقط، واستقرب أن يكون هذا النمط من الإطلاق هو السبب المولِّد لإختلاف العلماء في حقيقة الحق والحكم وبيان الفارق بينهما1.
اختلاف مفاهيمي
وإن صح إطلاق عنوان المجعول الشرعي على الحق والحكم في آن، فذلك لا يعني اتحادهما من حيث السنخ واقتصار الإختلاف على الآثار، بل الحق مفهوم مغاير لمفهوم الحكم. هذا ما عليه المشهور.
وقد قرر اليزدي هذا التغاير من حيث المفهوم بأن الحق نوع من السلطنة على شيء، بينما الحكم مجرد جعل الرخصة في فعل شيء أو تركه، أو الحكم بترتب أثر على فعل أو ترك، فالخيار في العقود اللازمة حقٌّ لأن الشارع جعل للمتعاقدين أو أحدهما سلطنة على العقد أو متعلقه، وأما الجواز في العقود الجائزة مجرد رخصة من قبل الشارع في الفسخ والإمضاء من غير أن يكون هناك اعتبار سلطنة لأحد الطرفين أو كليهما.
بالتالي فالشارع إن اعتبر مالكية شخص لأمر وسلطنته على شيء فهو من باب الحق، وإن لم يكن منه إلا مجرد عدم المنع من فعل شيء أو ترتيب الأثر على فعل أو ترك بحيث يكون الشخص مورداً أو محلاً لذلك الحكم فهو من باب الحكم.
وذلك لا يعني أن الحكم بالملكية أو السلطنة ليس من جملة الأحكام، بل هو منها، لكن الفارق أن جعل الشارع الخيار حكمٌ، وأما الخيار بنفسه وهو المجعول فهو حق.
لكن اليزدي وبالرغم من وضوح تفريقه بين الحق والحكم من حيث المفهوم، إلا أنه اعتبر التمييز بينهما من حيث المصداق في غاية الإشكال، ولا يتأتّى ذلك إلا بمراجعة الدليل، كأن يكون ثمة إجماع على كون شيء ما من جملة الحق أو الحكم، أو يكون هناك إشعار في لسان الدليل2.
أما الأصفهاني فقرر التغاير السنخي بين الحق والحكم بصورة أخرى، فسنخ الأحكام التكليفية يتفاوت عن سنخ الحقوق الذي هو من الإعتبارات الوضعية، وذلك أن الأمر والنهي سواء صدرا تبعاً لمصلحة أو مفسدة ملزمة أو ترخيصية، هما مقدمة لتحقق الفعل أو عدم تحققه، ولا يعقل سقوطهما قبل تحقق الفعل أو الترك. أي أنهما ما صدرا عن المولى إلا ليتحقق الفعل أو الترك خارجاً، فلا يعقل سقوطهما قبل ذلك التحقق، فإذا كان للأمر بالفعل مصلحة فلماذا يرفع الأمر، وإذ لم يكن له مصلحة فلماذا يجعل؟
بهذا فمادام الأمر بالفعل منطلق من مصلحة، والنهي عن الفعل منطلق من مفسدة، فلا يمكن ارتفاع الأمر والنهي قبل تحقق الفعل أو الترك، وليس للشارع أيضاً اسقاطهما. هذا ملاك الحكم.
وأما في الحق والملك فلا تحقق لهذا الملاك، فالاعتبار الشرعي لهما لا يُتَرقَّب منه الفعل أو الترك، حتى نقول بعدم سقوطه إلا بتحققهما، بل ثبوت الملكية والحقية يتوقف على التسبب إليه بشيء ما جعله الشارع سبباً لوضع الاعتبار، كالتحجير الذي جعله الشارع سبباً لثبوت الحق أو الملك، وهكذا بالنسبة لسقوط الحق والملك، إذ لابد من التسبب إليه بشيء جعله الشارع سبباً لرفع الاعتبار، كإجازة الشريك لشريكه في بيع حصته، فالشارع جعل الإجازة سبباً لسقوط حق الشفعة.
ففي الحكم ارتفاع الاعتبار الشرعي من الأمر والنهي متوقف على تحقق الفعل والترك، ولهذا لا يمكن تصوّر السقوط بدون الفعل والترك، أما في الحق فلا توقف عليهما، بل التوقف على الإتيان بشيء جعله الشارع سبباً للوضع أو الرفع.
ونلاحظ هنا بأن للشارع حضوراً في مجال الحكم والحق، فكما الحكم أمر اعتباره بيد المعتبِر وهو الحاكم، فالحق والملك أيضاً أمران اعتباريان، وأمر اعتبارهما بيد المعتبر الذي هو الشارع أو العرف الممضى من قبل الشارع3. بالتالي فمجرد كون اعتبار الحكم والحق بيد الشارع لا يجعلهما من سنخ واحد، كما ذهب إلى ذلك السيد الخوئي، بل هما مختلفان بالتقريب المذكور 4.
- 1. مصباح الفقاهة، مصدر سابق، ج2 ص339-341.
- 2. حاشية كتاب المكاسب، مصدر سابق، ج1 ص280.
- 3. حاشية كتاب المكاسب، مصدر سابق، ج1 ص45-46.
- 4. نشرت هذه المقالة في الموقع الرسمي لسماحة الشيخ فيصل العوامي حفظه الله.