﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَٰلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ 1.
كلما تقادم الزمان وتتالت الأيام ؛ كلما ازددنا يقيناً وإيماناً بسلامة منهجنا وصواب ديننا ، وتأكدنا أن الذي أتبعه آباؤنا من رسالة الإسلام كان هو الحق المبين .
فالإسلام جاء بخاتم رسالات الله وهي آخر دعوة من السماء الى الأرض ، حيث كانت هذه الدعوة قائمة على أساس وحدة البشرية .
ولقد كانت الأرض يوم نزل جبرائيل الأمين على نبينا الأكرم في غار حراء مجموعة من الأقاليم المتناثرة المتباعدة ؛ لا يصل بينها غير الجمال والسفن الشراعية أو الخيول والمشي على الأقدام ، فما كان أحد يعرف ما خلف هذا الجبل أو ذاك إلاّ بشق الأنفس ، وكان العالم غارقاً في الجهل والتخلف والتمزق . . .
ولكن في ذلك اليوم بعث ربنا سبحانه وتعالى النبي صلى الله عليه وآله للناس كافة نذيراً وبشيراً ، وأعلن بأن البشرية قد خلقت من نفس واحدة ، وقال : ﴿ … وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ 2. فأعلن بذلك وبغيره من النصوص والمواقف الدينية وحدة البشرية وتهافت وتساقط كل الحواجز بين الإنسان والإنسان ، مثل الحواجز القومية واللغوية والعنصرية والجغرافية والطبقية ، بل وحتى الحواجز الدينية ، ليكون الدين كله لله الواحد .
ورغم أن العالم في ذلك اليوم لم يكن عدد سكانه يتجاوز ملايين معدودة ، إلاّ أننا اليوم بدأنا نفهم ما هو سر المنهج الإلهي بهذا الخصوص . فلقد كان الشارع المقدس يهدف إلى تأسيس عالم موحد قائم على أساس الايمان والمعرفة .
واليوم ؛ حيث يتحول العالم إلى قرية صغيرة تحت مظلة التطور العلمي ووسائل الاتصال والمواصلات ووجود الأمواج العابرة للقارات ومحطات التلفاز الدولية ووجود الجامعات العلمية المشتركة ، ولكن رغم كل ذلك ؛ فإن البشرية لا تزال بعيدة عن ذلك الأفق الذي أراده الإسلام .
فالبشرية بعد خوضها للحروب العالمية والإقليمية العديدة ، حيث ذهب ضحيتها عشرات الملايين من الأشخاص وأحرق جراءها المدن ، شكلت مجموعة الدول منظمة دولية جامعة لها دعيت بعصبة الأمم ثم الأمم ، المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان وباقي المنظمات الدولية المتفرعة ، ولكنها لا تبدو إلاّ قطرة من بحار الإسلام العظيمة الذي جاء بما هو أقوى وأفضل وأنجع ، ومن أبرز الأمثلة هو وجود الكعبة التي هي ﴿ … أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا … ﴾ 3.
إن الكعبة المشرفة محور تجمع البشرية ، وهي الأمان لأهل الأرض ، فحينما يريد مليار من الناس الصلاة فإنما يتوجهون الى الكعبة ، وحينما يريدون أن يذبحوا ذبائحهم فإنهم يستقبلون الكعبة ، وحينما يتوسلون الى الله خالقهم فهم يتوجهون الى الكعبة .
لقد شاءت الإرادة الإلهية أن تنزل الرحمة والمغفرة في هذا الوادي المقدس غير ذي الزرع ، وذلك حيث يجتمع الناس لأداء فريضة الحج المباركة ، بعد أن يتجردوا من ملابسهم التى تميزهم عن بعضهم ، وبعد أن حرّم عليهم التظاهر بكل ما من شأنه أن يكون زينة ؛ كحلق الرأس ، أو إصلاح المحاسن ، أو قص الأظفار . . وبعد أن حرم عليهم أيضاً الجدال والفسوق والصيد وإيذاء الهوام وتدمير النبات ، وذلك كله بمعنى تحويل الإنسان الى كائن مسالم تماماً . وعندما يرقى الإنسان الى مستوى السلام هذا ، فإنه يحمل به الاجتماع الى الآخرين .
وها أنا ذا أرى على مد البصر أناساً جاؤوا من كل أطراف الدنيا ، فجاء بعضهم من أواسط افريقيا وبعضهم من أميركا اللاتينية ، وبعضهم من استراليا ، وبعضهم من الشرق الأوسط ، وبعضهم من أوروبا ، وبعضهم من العرب والعجم ، وبعضهم الكبير والصغير ، وبعضهم الغني والفقير . . كلهم قد اجتمعوا في هذا الوادي المقدس مجردين عن ثيابهم وزينتهم في صحراء المحشر منادين : ” لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ” في كتلة متراصة ذائبة في إرادة الله التي شاءت إعادة الانسان الى موقعه وواقعه الطبيعيين في خضم ممارسته وأدائه للمناسك المفروضة عليه ؛ المناسك التي من شأنها إحداث التحول العميق في روح الإنسان .
إن الإسلام أراد من خلال فريضة الحج إزالة الفوارق ورفع الحواجز بين الناس وتحويلهم الى كتلة واحدة ، فسنّ ما سنّ من واجبات ومحرمات وعموم المناسك حتى يتدرب الناس على السلوك القويم ويجتمعوا على القيم الصالحة في مدة الحج المعلومة ، فيكون الناس أمة واحدة . . . وليس مجرد قرية صغيرة كما يحلو للبعض تسميته في زمننا الحاضر .
ولكن القوى الشيطانية المادية سنت القوانين المغايرة لطبيعة الفطرة الإنسانية النـزيهة ، ففرضت الحدود والهوية الشخصية ، وسعت كل جهدها لأن تزيد من الفواصل وتضاعف أشكال الفوارق بين الناس ، لتتسنى لها السيطرة على مقدراتهم .
غير أن القوة الكامنة في فريضة الحج أصلب بكثير مما يخطط له الشيطان المستعمر رغم اصراره المستميت على التفرقة وسوق العالم نحو عبادة المادة ودحض الكرامة الانسانية ؛ هذه النعمة الإلهية العظمى . فالأمة الاسلامية التي تعج بالقومية ؛ هذا الصنم الاستعماري المصطنع ، وتعج بالثقافات والتقاليد الباطلة ، تراها تتلاشى وتتبخر في موسم الحج المبارك ، فيتحسس الإنسان أن الأمة الإسلامية لا تزال أمة واحدة تتنعم بوجود الروح فيها .
أقول : إن هاجس القومية أو العنصرية أو المصلحية شيء أصيل في داخل الإنسان ، ولكن الإسلام أقوى من ذلك بكثير ، حيث اختط للناس سنناً وقوانين تكبح جماح تلك الهواجس والغرائز .
فمن ممنوعات الحج أن ينظر الحاج في المرآة ، لكي يدك ذاته ويدحض الأنانية ويذوب في المجموع .
وممنوع عليه أن يلبس غير لباس الإحرام ، لكي يتساوى الفقير والغني في المنظر .
وممنوع عليه قول الفسوق ، فلا رفث ولا شهوة ولا نظرة الى حرام ، ولا حضور في مجلس عرس ، ولا طيب ، ولا تأفف من رائحة نتنة . . هذه الممنوعات وغيرها تشكل فلسفة من فلسفات الحج القائلة بلزوم أن يتوحد أبناء آدم ما استطاعوا ، وأن يبحثوا ما أوتوا من قوة عن النقاط المشتركة ليجتمعوا عليها ، هذا من جهة .
ومن جهة أخرى ؛ فإن الله سبحانه وتعالى حينما سن فريضة الحج أراد للناس أن يشهدوا منافع لهم ، ولعل أرقى تلك المنافع هي مدارسة شؤون الحياة وتحويل الهموم الى شحنات الأمل . فالمسلمون – في العصر الحاضر خصوصاً – يجدون أنفسهم محاصرين بمختلف أنواع الحصار الفكري والثقافي والسياسي ، وعليه فإن الحج يمثل الفرصة الأفضل لتفريغ ما في الصدور من لوعات ، إذ أن عرفات غنية عن أن يكون فيها المنبر أو المذياع أو الصحيفة ؛ وعرفات بدورها تختلف مطلق الاختلاف عن الأمم المتحدة التي لا يزيد عدد أعضائها على المائتي عضو ، فضلاً عن إن أعضاءها محكومون بأخذ المصالح الاستعمارية والأعرف الدبلوماسية بعين الاعتبار ، فإذا كان الفقير مادياً والمستضعف معنوياً وفكرياً لا صوت لهما في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى ، فإن مواقع الحج كلها أذن صاغية تعجز الجهود السياسية كل العجز عن صناعتها بهذه الطريقة الطوعية . ولك أن تتصور أن دولة ما أو جهة دولية ما تريد إقامة مؤتمر أو تجمع يضم مليوني إنسان – كما يضم موسم الحج – من كل العالم ، فكم يتوجب عليها أن تبذل من الجهود والإمكانات؟ من الطبيعي أن ذلك سيكلفها المليارات من الدولارات ولا ضمانة أبداً لنجاحها فيما تبذله . ولكن الله سبحانه وتعالى جمع هذا العدد الغفير في عرفات وبأموال الناس أنفسهم ، وحسب الإحصاءات فإن الحجاج يصرفون حوالي أحد عشر مليار دولار لدى الموسم ، غير تلك الأموال التي يصرفونها في ذهابهم وإيابهم . . وهم الذين يتمنون أن يرزقهم الله حج الموسم القابل بعيون باكية وقلوب راجية . فهل هذه الطريقة في الجمع والتحشيد أفضل ، أم تلك الطريقة الملتوية المغلفة بالأساليب الدبلوماسية والمصلحية التي تعتمدها الأهداف السياسية في اقامة المؤتمرات والاجتماعات؟!
لقد اجتمع الناس في الحج ومن ثم رجعوا الى بلدانهم وهم مدججين بروح الوحدة ، كما عادوا ومعهم حصيلة في الإصلاح والتغيير مع تجارب جديدة ، كما أنهم قد تزودوا بزاد التقوى . . ذلك لأن أداء مناسك الحج من شأنه أن يكون مدعاة لمن عاد من هذه الفريضة أن يتذكر ما عاهد عليه ربه سبحانه وتعالى من هجر الذنوب وارتكاب الموبقات في كل موقع من مواقع الحج .
توصيات على هامش الحج
إن أداء هذه الفريضة الإلهية ينبغي أن يصدر من الإنسان وهـو في مقتبل عمره وشبابه ، لأنه بذلك يستفيد من انعكاسات هذه الفريضة على نفسه – نظراً لما سيعيشه من سنين قابلة من عمره – أكثر من استفادة الطاعن بالسن ، تماماً كمن يتعلم لغة ما وهو لما يبلغ من العمر سنين مديدة ، إذ أن من المتوقع استفادته استفادة كبيرة ، على العكس ممن يتعلم لغة وهو قد طعن في السن ، إذ لن تتسنى له فرصة الاستفادة المرجوة كما هو المعتاد . وعلى هذا الأساس فإن الشباب المؤمنين مدعوون الى الحرص على اغتنام الفرصة لأداء فريضة الحج وتحصيل التقوى عبرها ، كمحاولة جادة لتعبيد الطريق – طريق الحياة – للوصول الى مرضاة الله سبحانه وتعالى ، هذا أولاً .
أما الوصية الثانية ؛ فهي تتوجه الى الذين لا تسنح لهم فرصة الحج لسبب أو آخر ، حيث ينبغي لهم تشجيع الحجاج وتوديعهم والسؤال عنهم وأداء الخدمة والعرفان لأهاليهم ، ومن ثم المبادرة الى استقبالهم وزيارتهم ، وقد حثت الأحاديث والروايات الواردة عن النبي وأهل بيته عليه وعليهم السلام على زيارة الحاج قبل أن تخالطه الذنوب ، وأن من زار حاجاً فكأنما استلم الحجر الأسود ، وهذا يعني ضرورة أن يضع من لم يحج في حسبانه فضل هذه الفريضة ويتصور الحكمة منها وعظمة من وفق لأدائها . وهذا الأمر بحد ذاته يعتبر مشاركة روحية وعاطفية مع الحجاج ، ليتحول موسم الحج الى مهرجان إيماني يعيشه المؤمنون على اختلاف الفرص المتاحة أمامهم .
أما الوصية الثالثة ؛ فتكمن في أن يتهيأ الحاج فكرياً وعقائدياً لبناء التصور الإيماني الكامل عما سيؤديه من مناسك وما سيصل إليه من مواقع مقدسة ، فالله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم : ﴿ … وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ … ﴾ 4 يضم من المعاني العديدة التي منها هجر الثقافة الضحلة التي قد يتعرض لها هذا الحاج أو ذاك ، فتراه يبحث عن البضاعة الجيدة بدلاً من البحث عن التزود من التقوى ، واستغلال هذه الفرصة الإيمانية العظيمة . إذ الحج أشهر معلومات ؛ أي إن الفرصة فيه محدودة بفترة زمنية معينة غير مفتوحة دوماً . وهذا بالذات ما يدعو الحاج الى أن يجزم النية الى الذهاب لأداء المراسم المقدسة وشهادة المنافع الحقيقية للحج التي أرادها الله له ، لكي يعود الى بلاده حاجاً بالمعنى الصحيح للكلمة . وهذا ما لا يمكن تصور تحققه دون أن يتعرف الحاج على فضل كل عبادة يؤديها ، وكل منسك يقوم به في هذه الفريضة ، وقد قال تبارك وتعالى : ﴿ … وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ … ﴾ 4. أي أن كل استزادة من عمل الخيرات يعتبر خطوة نحو مضاعفة الثواب ، لأن الله مطّلع على النوايا والأعمال 5 .
- 1. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 196 و 197، الصفحة: 30.
- 2. القران الكريم: سورة الحجرات (49)، الآية: 13، الصفحة: 517.
- 3. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 96، الصفحة: 62.
- 4. a. b. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 197، الصفحة: 31.
- 5. كتاب : ” في رحاب بيت الله ” و هو مجموعة من خطب و كلمات ألقاها سماحة آية الله السيد محمد تقي المدرسي في سفرة الحج على حملات الحجاج من أطراف الأرض وأكنافها : الفصل الثاني .