بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف بريّته محمد وآله الطيبين الطاهرين . .
واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين . .
وبعد . .
إنه إذا كانت بعض التشريعات قد اتخذت “القوة” أساساً لها ، ومحوراً ومنطلقاً وبعضها الآخر جعل “المادة” منطلقاً ومحوراً . وبعض ثالث اعتبر ” الحرية المطلقة ” هي المنطلق والأساس . . وهكذا . .
فإن الإسلام . . هذا الدين الخالد ، قد نظر إلى الإنسان نظرة أكثر دقة وشمولاً عندما رفض أن يكون كل ذلك ، وسواه أساساً صالحاً للتشريع ، أو منطلقاً واقعياً للنظم والأحكام . .
ونظر إلى الإنسان بمنظار آخر ، يعطيه هويته بما هو إنسان ، ويلبي احتياجاته بما هو كائن مرتبط بكل ما في هذا العالم ، ويفجر فيه طاقاته ؛ ليعمره ، ويجسد فيه الحياة الفضلى ، والعيش الكريم . .
فكان أن بنى علاقاته على أساس آخر ، يتلاءم مع فطرة الإنسان ، وينسجم مع طاقاته وقدراته . . لا يجحد حق موجود في سبيل تكريس امتياز لموجود آخر ، كما أنه لا يلبي احتياجات طاقة على حساب أي من الطاقات الأخرى .
هذا الأساس يمكن تلخيصه بكلمة واحدة ، وبكلمة واحدة فقط وهي كلمة “الحب” . .
وذلك لأنه إذا كانت علاقة الإنسان بالحياة ، وبكل الموجودات الطبيعية قائمة على أساس ” الحب ، والكره ” . . بل لقد بلغ حبه للدنيا حداً يجعله يهمل أمر الحياة الآخرة ﴿ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ ﴾ 1 كما أن حبه العارم للمادة كان حباً جماً . . إلى غير ذلك مما يؤكد حبه العارم للمادي مما في هذا الوجود ـ إنه إذا كان كذلك ـ فإن من الطبيعي أن يوظف الإسلام شعوره الفطري والطبيعي هذا ، ويوجهه إلى تحقيق الأهداف الخيرة والنبيلة ، وإلى الوصول إلى القيم والكمالات الإنسانية الرفيعة كما أن من الطبيعي أن يكرس هذا الحب في مجالات علاقات الإنسان الأخرى ، التي يهتم الإسلام بالهيمنة عليها ، وضبطها والاستفادة منها لإسعاد الإنسان ، وتأدية دوره البناء في الحياة ، على النحو الأكمل والأشمل والأفضل .
وإذا استثنينا الحديث عن علاقات الإنسان بالطبيعة والكون ، والتي قلنا إنها قائمة على أساس الحب ، فإننا نجد : أن علاقاته في سائر المجالات ـ والتي يلاحظ أن الإسلام قد بناها أيضاً على أساس المودة والحب ـ يمكن رسمها في ثلاث اتجاهات رئيسية :
- علاقات الإنسان أولاً بنفسه .
- علاقاته بربه ، ومعتقداته .
- علاقاته بغيره من بني الإنسان .
ولو أننا حاولنا مراجعة النصوص القرآنية وكذلك نصوص السنة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام لوجدناهما المعين الثر : الذي لا يزال يفيض ويفيض كل آيات المحبة والمودة والحنان ومعانيها ، وللمسنا في كل آية وفي كل قول ذلك الشمول في الحب الذي أراده الإسلام لمختلف شؤون الحياة ومجالاتها . وإذا كان ما لا يدرك كله لا يترك جله . فإننا نكتفي بالإشارة الموجزة لبعض هذه الموارد . وقد نحاول أن نركز بشكل موجز ومحدود على البعض منها ، حينما تقتضيه المناسبة فنقول :
إننا قبل ذلك نود أن نشير إلى أن الإسلام قد جعل العلاقة بين الإنسان ، وبين الحق والخير والإيمان قائمة على الحب . فقد قال تعالى : ﴿ … وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ﴾ 2.
وقال : ﴿ … فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ 3.
وقال : ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ … ﴾ 4.
وفي مقام التأكيد على فطرة الإنسان على حب الخير ، وإن كان ربما تطغى على هذه الفطرة بعض المؤثرات الخارجية ، قال تعالى : ﴿ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ﴾5.
وبعد هذا ، فأما عن علاقات الإنسان بنفسه ، فجعلها قائمة على أساس الحب والمودة مما لا يحتاج إلى بيان ، أو إلى إقامة برهان؛ لأنه أمر فطري جبلِّي ومع ذلك لم يترك له الاختيار في تعامله مع نفسه ، بل منعه الإسلام من كل أمر يضربها وحبب إليه كل أمر ينفعها ويصلحها ، وجعل اعتداءه على نفسه ـ بأي لون من ألوان الاعتداء ـ لا يقل بشاعة وفظاعة عن اعتدائه على الآخرين ، ولعل إطالة الكلام في ذلك ، بعض وضوحه مما لا يحسن ولا يجمل . ولاسيما بملاحظة الآيات القرآنية ، والأحاديث الواردة عن النبي ، وأهل بيته المعصومين ، صلوات الله عليهم أجمعين .
وأما عن علاقاته بربه ، فيكفي أن نشير هنا إلى قوله تعالى : ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ … ﴾ 6.
وقوله عن المؤمنين : ﴿ … وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ … ﴾ 7.
وقوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ 8.
وقد وردت آيات كثيرة تميز الذين يحبهم الله ، عن أولئك الذين لا يحبهم ؛ فهو تعالى يحب التوابين . المحسنين . المطهرين . المتقين . الصابرين ، المتوكلين . الخ . .
ولا يحب المعتدين . الظالمين . الخائنين . المسرفين . المستكبرين . الكافرين . الخ . . وستأتي الآية التي تؤكد على حب الله ورسوله ، والجهاد في سبيله يجب أن يتفوق على كل حب .
وبعد هذا ، فإننا نلاحظ : أنه تعالى لا يقبل من محبيه أن يشاب حبهم له بموالاة أعدائه ، بل لابد من خلوص الحب له ، كما لابد من خلوص الدين له ﴿ … مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ … ﴾ 9. ويدلك على ذلك الكثير من الآيات والروايات ، بل في بعضها عد موالاة أعدائه كفراً وشركاً ، قال تعالى :﴿ … وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ … ﴾ 10.
وقال تعالى : ﴿ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ … ﴾ 11.
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) : “من أحب كافراً فقد أبغض الله ، ومن أبغض كافراً الله فقد أحب الله” 12 .
إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه . .
وقبل أن نمضي في الحديث نود أن نشير إلى أمر جدير بالملاحظة هنا ، وهو أننا نرى أنه تعالى قد بين أن هناك ملازمة بين الاتباع للرسول ، وبين حب الله لهم حيث قال : إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله . .
وذلك لأن الذي يحب الله حقيقة لابد وأن يؤثر حبه على كل شي مما تتعلق به نفس الإنسان من آباء ، وأبناء ، وعشيرة ، ومال ومساكن إلى آخر ما ستأتي الإشارة إليه في الآية 24 من سورة التوبة . .
وإذا اتبعوا الرسول ؛ فإنهم سوف يتصفون بكل الصفات التي يحبها الله ، ويرضاها ويأمر بها من : التقوى ، والعدل ، والإحسان ، والصبر ، والثبات ، والتوكل ، والتوبة والتطهر . . وغير ذلك . . لأن الله بمقتضى نص القرآن الكريم يحب المحسنين . الصابرين ، والتوابين إلى آخر ما تقدمت الإشارة إلى بعض منه . .
بل إن حب الله يجب أن يثمر ويعطي على نطاق أوسع ، فيجب أن يمنع الإنسان من ارتكاب أية معصية على الإطلاق . . قال الصادق عليه السلام : ” ما أحب الله من عصاه ” ثم تمثل فقال :
تعصي الإله وانت تظهر حبه *** هذا لعمري في الفعال بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته *** إن المحـب لمن يحب مطيع 13
كما أنه يجب أن يدفعه حبه هذا للتضحية وبذل المال ، مهما كانت حاجته ماسة إليه وقد مدح الله تعالى أمير المؤمنين وأهل بيته بأنهم : ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴾ 14، لا لشيء إلا لأجل حب الله وابتغاء مرضاته ، ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ 15.
بل لقد اعتبر أن حب الله والرسول يجب أن يتفوق على كل حب ، ويزيد على كل علاقة كما سيأتي بيانه . .
وأما بالنسبة لعلاقة الإنسان بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
فقد بناها الإسلام أيضاً على أساس الحب والمودة .
وقد قال القرآن لموسى : ﴿ … وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي … ﴾ 16.
وقال تعالى : ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ 17.
وفي معنى هذه الآية عدة روايات أخرى . .
فعن الصادق عليه السلام : “لا يمحض رجل الإيمان حتى يكون الله أحب إليه من نفسه ، وأبيه ، وأمه ، وولده ، وأهله ، وماله ، ومن الناس كلهم” 18 .
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أنه قال : “والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه ، وأبويه ، وأهله ، وماله ، وولده ، والناس أجمعين” 18 .
وروى عن عبد الله بن هشام قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب ؛ فقال : لانت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي ؛ فقال صلى الله عليه وآله وسلم : لا يؤمن أحدكم حتى اكون أحب إليه من نفسه . . 19 .
وإذن . . فالإسلام يعتبر محبة الله والرسول ، والجهاد في سبيل الله هي الأهم والأولى في قبال كل الأشياء الأخرى على الإطلاق . . ويعتبر طغيان حب النفس ، والآباء والأبناء والأموال ، والمساكن ـ الخ ـ على حب هؤلاء خروجاً عن الفطرة ، وظلماً للحب الذي كان يجب أن يكون مقدماً ومهيمناً في مختلف شؤون الحياة ومجالاتها .
وإذن فحبه لكل شيء يجب أن يكون بمقدار . . وأن لا يظلم به حباً آخر ، ولا على حساب مودة أخرى ، وإلا فإنه يكون عرضة للعقاب والنكال ولاسيما بالنسبة لحب الله ورسوله والجهاد في سبيله ، لأنه يعتبر ذلك هو الأساس في توجيه كل محبة وتوظيفها فيما فيه خير هذا الإنسان وسعادته .
ومما يدل على أنه يعتبر حب الله هو المعيار والميزان في كل حب ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : “أوثق عرى الإيمان الحب والبغض في الله” 18 .
وعن الصادق عليه السلام : “إن من أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله ، وتبغض في الله وتعطي في الله ، وتمنع في الله عز وجل” 20 .
وعن الصادق أيضاً : “لا يبلغ أحدكم حقيقة الإيمان حتى يحب أبعد الخلق منه في الله ، ويبغض أقرب الخلق منه في الله” 21 .
وأما بالنسبة لعلاقة الإنسان ، بالقائد بعد الرسول علي عليه السلام ، وبالأئمة من بعده ، أئمة الحق صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين . فهي أيضاً قائمة على أساس الحب والمودة . . وذلك لأن هذا الربط العاطفي بالأدلاء على الحق ، والهداة إلى سبيله بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، هو من أهم أسباب تحقق القدوة الحسنة ، والاتباع بإحسان ، الذي يقربنا إلى الله ، ويحببه إلينا ، ويحببنا إليه . .
وقد ورد في أن حب علي عليه السلام إيمان وبغضه كفر روايات كثيرة عنه صلى الله عليه وآله وسلم لا مجال لاستقصائها . .
وورد أيضاً : أن من أحب علياً ، فقد أحب رسول الله ، ومن أحب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم رضي الله تعالى عنه . .
وعن الزهري أنه سمع أنس بن مالك يقول : والله الذي لا إله إلا هو ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : “عنوان صحيفة المؤمن حب علي بن أبي طالب” 22 .
وقال تعالى بالنسبة إلى محبة اهل البيت ومودتهم : ﴿ … قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ … ﴾ 23.
وعن الكشاف ، والثعلبي : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في حديث : “ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفوراً له ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائباً ، ومن مات على حب آل محمد مات مؤمناً مستكمل الإيمان” 24 إلى غير ذلك مما لو أردنا استقصاءه لاحتجنا إلى تأليف خاص ووقت طويل .
بل إن علاقة الإنسان الذي يتيقن بأنه مع الله والله معه بالموت تصير علاقة حبية ، وقد تكرر طلب الله ممن يدعون أنهم أولياء لله من دون الناس تكرر طلبه منهم : أن يتمنوا الموت إن كانوا صادقين .
وأما عن علاقات الإنسان بالآخرين ، فهي أول ما تبدأ بعلاقته بأبويه . . وقد جعل علاقته بهما من جهة ، وعلاقتهما به من الجهة الأخرى قائمة على أساس الحب والمودة أيضاً . .
فأمرهما ببره بعد بر والديهما وجعل له حقوقاً عليهما : كتسميته باسم حسن وتأديبه وتعليمه الكتابة ، والوفاء بالوعد له ، وتعليمه الطهارة ، ومعالم الدين ، والقرآن الكريم ، وإكرام أمه وعدم الإساءة إليها ، لأن ذلك يوجب حزنه إلى غير ذلك مما يضيق المقام عن تعداده . .
ويكفي أن نذكر هنا ما ورد من ان من قبّل ولده كتب الله له حسنة ، وورد أيضاً أن الله ليرحم العبد لشدة حبه لولده . وورد أيضاً الأمر ببر الأولاد بعد بر الوالدين 25 .
بل لقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله : “يلزم الوالدين من عقوق الولد ما يلزم الولد لهما من العقوق” 26 .
وقد نظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى رجل له ابنان ، فقبل أحدهما وترك الآخر ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : “فهلا آسيت بينهما؟!” 27 .
إلى غير ذلك مما يضيق عنه المقام . . أما أوامره لهما بالنسبة إلى الولد ، وهو لا يزال طفلاً بل جنيناً ، بل وحتى قبل ذلك أيضاً فهي مما لا يمكن أن ينكره من له أدنى إطلاع على التعاليم الإسلامية . . وذلك يعكس مدى اهتمام الإسلام بالإنسان وأن يعتبره كل شيء في هذا الكون ، وكل شيء مسخر من أجله وفي سبيله . . حيث لم يترك علاقة الأبوين للإحساس الفطري بالعطف والرحمة الناشئ عن مشاهدتهما لضعفه وعجزه . . بل وضع النظم والقوانين الكفيلة بتنظيم هذه الفطرة واستثمارها على النحو الأفضل والأكمل . .
وخلاصة القول : إنه لابد وأن يكون الأساس هو الحب والمودة ، ولاسيما في مقام تربية الولد وتهذيبه ، أن يشعر بأن ما يلقى إليه صادر عن محبة وإخلاص له ؛ لأن الإنسان بطبيعته يخضع للحق إذا جاءه عن هذا الطريق ، بخلاف ما لو جاءه عن طريق التحديث والغلظة والشدة فإنه سوف ينفر ويبتعد عنه ، ولو كان حقاً . .
وهذا الأسلوب هو الأمثل في تبليغ الرسالة ، ونقل الأفكار والآراء إلى الآخرين وقد قال تعالى مخاطباً رسوله : ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ … ﴾ 28.
وسيأتي قوله تعالى : ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ 29.
ومن الواضح : أنه إذا شعر الطفل بأن أبويه يحترمان آرائه ، ويخلصان له في كل شيء ، فإنه سوف يطمئن لهما ، ويثق بهما ، ولسوف يسهل ذلك له البوح لهما بأسراره ومشاكله ، وما يعانيه ، وينطلق ويعيش معهما على سجيته ، وعلى حسب طبيعته ، من دون تزييف ولا تكلف . . الأمر الذي يمكنهما من معالجة مشاكله ، وتقويم انحرافاته . .
أما إذا اعتقد : أن القصد هو إذلاله ، وتحطيم شخصيته ، فإنه من الطبيعي أن لا يطلعهما على خلجات نفسه ، وأن لا يكشف أمامهما كل أوراقه . .
ومن هنا نلاحظ : أن الكثيرين من أبنائنا يطلعون أصدقاءهم على كل شيء ، ولا يظهرون لآبائهم أي شيء ، وما ذلك إلا لأنهم ينتظرون منهم العقاب على كل خطأ ، واللوم على كل اشتباه .
وإذا ما رأينا بعض الأطفال يظهر لوالده احتراماً ؛ فإن احترامه في الحقيقة ليس له ، وإنما لعصاه . . وهذا في الواقع خوف لا احترام . . حتى إنه بمجرد أن يراه قد فقد عصاه ، وزالت قوته ، فلا يقتصر الأمر على عدم الاعتداد به والالتفات إليه ، بل قد تصل النوبة إلى ما هو أسوأ من ذلك وأشد . . شأن التعامل مع كل الأقوياء أياً كانوا ، وحيثما وجدوا .
وأما إذا لاحظنا علاقة الولد نفسه بأبويه فإننا نجد ، أن الإسلام كان اكثر تاكيداً ، وتشدداً فيهما . . وذلك لأنهما ليسا منه ، ولا يرتبط بهما بنفس الروابط ، وعلى نفس الطريقة . . بخلافهما معه ، حيث إنهما يشعران أنه جزء منهما ، وأنه امتداد لوجودها . . ومن هنا نرى الإسلام يحاول في دعوته إلى محبتهما ، والبر بهما : أن يعلل له ذلك ، ويشير إلى بعض السر في دعوته تلك . . ثم هو يثير فيه عاطفته ، ويشدد على عطفه ، ورحمته لهما ، كما أنه يذكره بما لهما من الفضل عليه ، وبما ضحيا وقدما وقاسياه في سبيله؛ فنرى الله تعالى بعد ان قرن الإحسان إليهما بعبادته ، وعدم الشرك به يقول :
﴿ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا *وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ 30.
وقال تعالى : ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا … ﴾ 31.
وقال تعالى : ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ 32.
إلى غير ذلك من الآيات والروايات الكثيرة الواردة في ذلك . .
وأما الإنسان في حياته الزوجية . .
فلما كان من الواضح : أن الأسرة هي اللبنة الأولى في الهيكل الاجتماعي العام ، واللبنة الأولى في الأسرة هذه هي الزوجان . . فمن الطبيعي أن يهتم الإسلام فيها اهتماماً خاصاً ، ويوليها عناية خاصة .
وما ذلك إلا لإدراكه : أن الأسس التي يقوم عليها بناء الأسرة ، والعلاقات فيها : إذا كانت تجارية مصلحية شخصية ، أو تمليها ظروف سياسية ، أو اجتماعية معينة ، فإن تلك العلاقات سوف تنتهي بانتهاء تلك المصلحة الشخصية ، والبناء سوف ينهار بانتهاء ذلك الظرف المعين ، وتحقيق تلك الأهداف التجارية أو السياسية ، أو غيرها . . ويكون مصير الحياة الزوجية ـ من ثم ـ هو الدمار ، والتلاشي والإنهيار .
ومن هنا كان نهي الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عن زواج كهذا ، الزواج الذي ينطلق من هذه النظرة الضيقة ، وينتهي إلى هذا الواقع المؤلم ، حيث نهى صلى الله عليه وآله وسلم عن نكاح يراد به غير وجه الله والعفة ، نهى عن النكاح للرياء والسمعة . .
وعن جعفر بن محمد عليه السلام أنه قال : ” إذا تزوج الرجل المرأة لحسنها أو لمالها وكِلَ إلى ذلك ، وإن تزوجها لدينها وفضلها رزقه الله الجمال والمال ، قال الله عز وجل : ﴿ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ 33″ 34 .
وعنه عليه السلام : ” أنه نهى أن ينكح الرجل المرأة لمالها أو لجمالها ، وقال : مالها يطغيها ، وجمالها يرديها ، فعليك بذات الدين ” 13 .
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ” من نكح امرأة حلالاً بمال حلال ، غير أنه أراد به فخراً ورياءً وسمعة لم يزده الله بذلك إلا ذلاً وهواناً . . إلى آخر الحديث ” 35 .
وبعد هذا . . فإنا نرى الإسلام في مقابل ذلك قد أرسى قواعد بناء الأسرة على أسس من المحبة والمودة والرحمة . ويكفي أن نذكر هنا قوله تعالى :
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ 36.
فقوله ﴿ … مِنْ أَنْفُسِكُمْ … ﴾ 36هو بمثابة العلة لقوله ﴿ … لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا … ﴾ 36. وذلك لأن المراد ـ وإن كان هو أن المرأة قد خلقت من جنس الرجل ، وليس لها ماهية وحقيقة مختلفة عنه فيصعب التفاهم والإنسجام بينهما ـ إلا أن اختيار كلمة ﴿ … مِنْ أَنْفُسِكُمْ … ﴾ 36 للتعبير عن هذا التوافق في الماهية ، إنما هو ليزيد من إظهار هذا الترابط ، وليؤكد ذلك الإنسجام . . ففيه إِشارة إلى أن كلاً من الرجل والمرأة جزء مكمل لسعادة الآخر ومتمم لراحته . وإذا كان الشيء جزءاً ومكملاً للإنسان فلابد وأن لا يرتاح بدونه وأن يحبه ، ويحافظ عليه بكل ما لديه . . اما لو كان غريباً منفصلاً عنه ؛ فقد يشعر أن بالإمكان الاستغناء عنه .
وملخص القول في القوله : ﴿ … مِنْ أَنْفُسِكُمْ … ﴾ 36أنه إشارة إلى أن كلاً من الزوجين متمم للآخر ، ناقص بدونه ؛ فإذا التأم مع جزئه المكمل له اطمأن وسكن . . ولعل هذا ما يفسر لنا أيضاً ميل كل من الزوجين إلى الآخر ، على اعتبار أن كل فقير ومحتاج يميل إلى ما يزيل فقره ، وترتفع به حاجته . .
ثم إنه تعالى قد عقب ذلك بقوله : ﴿ … وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً … ﴾ 36.
والمودة ـ على ما قيل ـ هي : الحب الظاهر أثره في مقام العمل 37 . أما الرحمة ، فهي : العطف الناشئ عن مشاهدة حرمان الغير ونقصه . الأمر الذي يدفع ذلك الراحم إلى الإقدام على رفع ذلك النقص عنه ، وإنجائه من ذلك الحرمان .
وواضح : أن في حياة الزوجين لابد وأن يشعر كل منهما بما يفقده الآخر ، ويحس بحاجته إلى العون والمساعدة ، فيرحم كل منهما الآخر ، ويوجد الدافع لدى كل منهما ليرفع نواقص الطرف الآخر ، ويعملان في سبيل ذلك كل في مجال اختصاصه ، وفي حدود قدراته . .
وإذا لاحظنا من الناحية الأخرى : أن الحقوق والواجبات ، التي منحها الشارع لكل من الزوجين تجاه شريكه هي مما لا يمكن معه لأي منهما الاستقلال والاكتفاء عن مساعدة شريكه له . . بحيث لو أراد كل منهما أن يلتزم تجاه الآخر ـ فقط ـ بما يجب عليه شرعاً ، لم تقم للحياة الزوجية قائمة . .
وإنما اكتفى فقط بالحث على التعاون والتكافل ، بالمقدار الذي لا يجعل ذلك واجباً شرعياً . . ولا يزيد على أن يجعله وظيفة خلقية . .
إننا إذا لاحظنا ذلك فإننا سوف ندرك : أن الإسلام أراد ان يجعل التعامل بين الزوجين قائماً على أساس التضحية المتبادلة ، التي هي من أهم أسباب توثيق عرى المحبة والإلفة ، وقد أشار (عليه السلام) إلى هذا المعنى عندما قال : ” تهادوا تحابوا ” . .
وقد اشتهرت وشاعت قضية معبرة عن هذا المعنى أيضاً ، وهي قضية الربيع ـ على ما أظن ـ عندما طلب من الخليفة : أن يحب ولده الفضل ؛ فأنكر الخليفة ذلك الطلب منه ، على اعتبار أن الحب ليس أمراً اختيارياً له ، يستطيع أن يمنحه لمن يشاء ، ويمنعه عمن يشاء ؛ فطلب منه الربيع أن يعطي الفضل ويهبه أموالاً وضياعاً ؛ فإنه إذا فعل ذلك فلسوف يحبه حينئذٍِ .
وقال أبو الحسن المدائني : قام رجل إلى أسد بن عبد الله فسأله ؛ فأعرض عنه ، فقال : أما والله ، إن لأسألك من غير حاجة . قال : فما يدعوك إلى مسألتي إذن ؟! قال : ” رأيتك تحب من أعطيته ؛ فأحببت أن تحبني ، فأعطاه عشرة آلاف درهم ” 38 .
ويروون عن صفوان بن أمية ، قال : “أعطاني رسول الله (ص) يوم حنين وإنه لأبغض الناس إلي فمازال يعطيني حتى صار وإنه لأحب الناس إلي” 39 .
وأخيراً . . فإن من المناسب أن نذكر هنا : أنه قد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا نبي الله ، لقد عجبت من أمر ، وإنه لعجب!! إن الرجل ليتزوج المرأة ، وما رآها ، وما رأته قط . . حتى إذا ابتنى به ، أصبحا وما شيء أحب إلى أحدهما من الآخر . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وجعل بينكم مودة ورحمة . .
وأما عن علاقة الإنسان بذوي رحمه . .
فكونها قائمة على أساس المحبة والمودة مما لا يحتاج إلى بيان . . ويكفي أن نذكر هنا : أن الإسلام قد جعل صلة الرحم من الواجبات ، التي يعاقب الإنسان على تركها ، وتجاهلها . .
وأما عن علاقة الإنسان بجيرانه . .
فيكفي أن نذكر أن جبرائيل مازال يوصي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجار ، حتى ظن أنه سيورثه . .
وأما علاقة الإنسان بوطنه . .
ثم تأتي بعد ذلك علاقة الإنسان بوطنه ، التي عبر عنها الإسلام حسبما ورد عنهم ( عليهم السلام ) بأن : ” حب الوطن من الإيمان ” 40 .
وأما عن علاقة المؤمنين بعضهم ببعض في كل مكان . .
فإننا نلاحظ : أن الإسلام قد اعتبر الأمة المؤمنة المسلمة بمثابة أسرة واحدة ، يكون النبي هو المربي لها ، ثم وصيه من بعده . . يلاحظ ذلك كل من راجع آيات القرآن ، وأحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته ( عليهم السلام ) . . فنلاحظ : أن القرآن بعد أن قرر الأخوة بين المؤمنين ، بقوله ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ … ﴾ 41، قد رتب على ذلك أن هذه الأخوة لابد وأن تكون مسؤولة ولابد وأن تنتج وتثمر ، وتؤثر آثارها على الصعيد العملي ، حيث جعل مقتضى هذه الأخوة هو المبادرة للإصلاح بين الأخوة ؛ فقال تعالى : ﴿ … فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ … ﴾ 41.
كما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد نقل عنه أنه قال ” مثل المؤمنين في توادهم ، وتراحمهم وتعاطفهم ، مثل الجسد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” 42 .
وعن الصادق عليه السلام ، أنه قال : “إنما المؤمنون إخوة ، بنو أب وأم؛ وإذا ضرب على رجل منهم عرق ، سهر له الآخرون” 43 .
وعنه عليه السلام : “المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد ؛ إذا اشتكى شيئاً منه ، وجد ألم ذلك في سائر جسده . . إلى آخر الرواية” 13 .
كما انه تعالى جعل المؤمنون بعضهم من بعض ، فقال : ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ … ﴾ 44.
وفي معناها غيرها . . كما أنه تعالى يعتبر غير المؤمنين أيضاً كذلك ولكنهم في مقام العمل والنشاط على العكس منهم حيث قال تعالى ﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ … ﴾ 45.
كما أنه تعالى وصف المؤمنون بأنهم : ﴿ … أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ … ﴾ 46إلى غير ذلك مما يضيق عنه المقام .
وإذا كان الإسلام يعتبر الأمة المسلمة المؤمنة بمنزلة الأسرة الواحدة ، يكون الكل فيها إخوة متحابين متآلفين . . فإنه أيضاً يعتبر النبي ، والوصي بعده بمنزلة الأب ، والمربي لهذه الأسرة الكبيرة ، فقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم قوله : ” أنا وعلي أبوا هذه الأمة ” 47 .
ثم إنه تعالى وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأوصاف التي يجب أن تتوفر في المسؤول عن الأسرة . . فقال عنه : ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ 29.
ويلاحظ هنا مدى التوافق والإنسجام بين هذه الآية وبين الآية المتقدمة من سورة الروم ـ 21 ، والتي وضعت الأساس بناء الأسرة الصغيرة ، التي هي لبنة في الهيكل الاجتماعي الكبير . .
ثم إن ما يلفت نظرنا هنا هو أن هذه الأخوة التي قررها الإسلام ، قررها أخوة مثمرة ، ومنتجة تتحمل مسؤولياتها كاملة كما تقدم بيانه في الآية المتقدمة ، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله : ” ومن أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم ” وفي معناه روايات مستفيضة 48 .
وسئل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : ” من أحب الناس إلى الله ؟ قال : أنفع الناس للناس ” 13 .
وعن أبي عبد الله ( عليه السلام ) : ” المؤمن أخو المؤمن عينه ، ودليله ، لا يخونه ، ولا يظلمه ، ولا يغشه ، ولا يعده فيخلفه ” 49 وفي معناه عدة روايات .
وقد عقد في الكافي فصلاً خاصاً لبيان حق المؤمن على المؤمن ، فلا باس بمراجعة ج 2 ص 135 فما بعدها . .
وأخيراً . . فقد جعل المقياس في معرفة الخير في الإنسان ، هو محبة أهل طاعة الله ، وعدم محبتهم . .
فعن أبي جعفر : ” إذا أردت أن تعلم أن فيك خيراً ، فانظر إلى قلبك ؛ فإن كان يحب اهل طاعة الله عز وجل ، ويبغض اهل معصيته ؛ ففيك خير ، والله يحبك . وإذا كان يبغض أهل طاعة الله ، ويحب أهل معصيته ليس فيك خير ، والله يبغضك ، والمرء مع من أحب ” 50 .
كانت تلك بعض الأمثلة ، التي تظهر بوضوح كيف جعل الحب اساساً للعلاقات في الإسلام .
وخير تعبير عن دور الحب في دين الله وشريعته هنا ، هو التعبير الذي ورد عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام) . .
فعن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث له ، قال : ” يا زياد ، ويحك ، وهل الدين إلا الحب ؛ ألا ترى قول الله ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ … ﴾ 6أو لا ترى قول الله لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم : “حبب إليكم الإيمان ، وزينه في قلوبكم ” وقال : ” يحبون من هاجر إليهم ” فقال : ” الدين هو الحب ، والحب هو الدين ” 51 .
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) : ” وهل الإيمان إلا الحب والبغض ؟ ثم تلا هذه الآية : ﴿ … حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ﴾ 2″ 52 .
هذا غيض من فيض ، مما يتعلق بهذا الموضوع . . ونأمل أن نوفق بحثه على النحو الأكمل والأشمل في فرصة أخرى إن شاء الله تعالى . . والله هو الموفق والمسدد .
- 1. القران الكريم: سورة القيامة (75)، الآية: 20 و 21، الصفحة: 578.
- 2. a. b. القران الكريم: سورة الحجرات (49)، الآية: 7، الصفحة: 516.
- 3. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 108، الصفحة: 204.
- 4. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 83، الصفحة: 122.
- 5. القران الكريم: سورة العاديات (100)، الآية: 8، الصفحة: 599.
- 6. a. b. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 31، الصفحة: 54.
- 7. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 165، الصفحة: 25.
- 8. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 54، الصفحة: 117.
- 9. القران الكريم: سورة الأعراف (7)، الآية: 29، الصفحة: 153.
- 10. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 51، الصفحة: 117.
- 11. القران الكريم: سورة المجادلة (58)، الآية: 22، الصفحة: 545.
- 12. سفينة النجاة ج 1 ص 201 .
- 13. a. b. c. d. المصدر السابق .
- 14. القران الكريم: سورة الانسان (76)، الآية: 8، الصفحة: 579.
- 15. القران الكريم: سورة الانسان (76)، الآية: 9، الصفحة: 579.
- 16. القران الكريم: سورة طه (20)، الآية: 39، الصفحة: 314.
- 17. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 24، الصفحة: 190.
- 18. a. b. c. سفينة البحار ج 1 ص 201 .
- 19. الدر المنثور عن أحمد والبخاري .
- 20. تحف العقول ص 358 و 362 وسفينة البحار ج 1 ص 201 .
- 21. أعيان الشيعة ج 4 قسم 2 ص 198 ـ 203 .
- 22. العمدة لابن بطريق ص 193 .
- 23. القران الكريم: سورة الشورى (42)، الآية: 23، الصفحة: 486.
- 24. سفينة البحار ج 1 ص 203 .
- 25. مرآة الكمال للمامقاني ص 31 ـ 32 .
- 26. مكارم الأخلاق ط حجرية ص 133 ومرآة الكمال ص 32 .
- 27. مكارم الأخلاق ص 133 .
- 28. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 159، الصفحة: 71.
- 29. a. b. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 128، الصفحة: 207.
- 30. القران الكريم: سورة الإسراء (17)، الآية: 23 و 24، الصفحة: 284.
- 31. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 36، الصفحة: 84.
- 32. القران الكريم: سورة لقمان (31)، الآية: 14، الصفحة: 412.
- 33. القران الكريم: سورة النور (24)، الآية: 32، الصفحة: 354.
- 34. مستدرك الوسائل ج 2 ص 535 .
- 35. الوسائل ط حجرية ج 3 ص 7 .
- 36. a. b. c. d. e. f. القران الكريم: سورة الروم (30)، الآية: 21، الصفحة: 406.
- 37. كنز الكراجكي .
- 38. لباب الآداب ص 109 .
- 39. مسند أحمد ج 3 ص 401 .
- 40. سفينة البحار ج 2 ص 668 .
- 41. a. b. القران الكريم: سورة الحجرات (49)، الآية: 10، الصفحة: 516.
- 42. صحيح مسلم ج 8 ص 20 ومسند أحمد بن حنبل ج 4 ص 270 و في معناه غيره .
- 43. أصول الكافي ط سنة 1388 ج 2 ص 132 .
- 44. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 71، الصفحة: 198.
- 45. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 67، الصفحة: 197.
- 46. القران الكريم: سورة الفتح (48)، الآية: 29، الصفحة: 515.
- 47. راجع : موقع ولاية الفقيه من نظرية الحكم في الإسلام للمؤلف .
- 48. راجع : أصول الكافي ج 2 ص 131 ط سنة 1388 .
- 49. المصدر السابق ص 132 .
- 50. المحاسن للبرقي ص 209 وسفينة البحار ج 1 ص 201 .
- 51. المحاسن للبرقي ص 208 .
- 52. المحاسن للبرقي ص 208 وسفينة البحار ج 1 ص 201 والكافي .