انبعثت ثورة الإمام الحسين (عليه السّلام) من ضمير الاُمّة الحيّ، ومن وحي الرسالة الإسلاميّة المقدّسة، ومن البيت الذي انطلقت منه الدعوة الإسلاميّة للبشرية جمعاء، البيت الذي حمى الرسالة والرسول ودافع عنهما حتّى استقام عمود الدين. وأحدثت هذه الثورة المباركة في التأريخ الإنساني عاصفة تقوّض الذلّ والاستسلام، وتدكّ عروش الظالمين، وأضحت مشعلاً ينير الدرب لكلّ المخلصين من أجل حياة حرّة كريمة في ظلّ طاعة الله تعالى.
ولا يمكن لأحد أن يغفل عمّا تركته هذه الثورة من آثار في الأيام والسّنوات التي تلتها، رغم كلّ التشويه والتشويش الذي يحاول أن يمنع من سطوع الحقيقة لناشدها. وبالإمكان أن نلحظ بوضوح آثاراً كثيرة لهذه الثورة العظيمة عبر الأجيال وفي حياة الرسالة الإسلاميّة، بالرغم من أنّا لا نحيط علماً بجميعها طبعاً، وأهم تلك الآثار هي:
1 – فضح الاُمويّين وتحطيم الإطار الديني المزيّف
بفعل ثورة الإمام الحسين (عليه السّلام) تكشّفت للناس حقيقة النزعة الاُموية المتسلّطة على الحكم، ونسفت تضحيات الثائرين كلّ الاُطر الدينية المزيّفة التي استطاع الاُمويّون من خلالها تحشيد الجيوش للقضاء على الثورة، مستعينين بحالة غياب الوعي، وشيوع الجهل الذي خلّفته السّقيفة.
ونلمس هذا الزيف في قول مسلم بن عمرو الباهلي يؤنّب مسلم بن عقيل ربيب بيت النبوّة، والعبد الصالح لخروجه على يزيد الفاسق، ويفتخر بموقفه قائلاً: أنا مَنْ عرف الحقّ إذ تركته، ونصح الأُمّة والإمام إذ غششته، وسمع وأطاع إذ عصيته1.
وهذا عمرو بن الحجاج الزبيدي -من قادة الجيش الأموي- يحفّز النّاس لمواجهة الإمام الحسين (عليه السّلام) حين وجد منهم تردّداً وتباطؤاً عن الأوامر قائلاً: يا أهل الكوفة، الزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا ترتابوا في قتل مَنْ مرق من الدين وخالف الإمام2.
فالدين في دعوى الاُمويّين طاعة يزيد ومقاتلة الحسين (عليه السّلام).
ولكن حركة الإمام الحسين (عليه السّلام) ورفضه البيعة وتضحياته الجليلة نبّهت الاُمّة، وأوضحت لها ما طُمس بفعل التضليل؛ فقد وقف الإمام الحسين (عليه السّلام) يخاطبهم ويوضّح مكانته في الرسالة والمجتمع الإسلامي: ” أمّا بعد، فانسبوني فانظروا مَنْ أنا، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم فعاتبوها، وانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟! ألست ابن بنت نبيّكم (صلّى الله عليه وآله)، وابن وصيه وابن عمّه، وأوّل المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء من عند ربّه؟!”.
هذا بالإضافة إلى كلّ الخطب والمحاورات التي جرت في وضع متوتّر حسّاس أوضح للناس مكانة طرفي النزاع. ثمّ ما آلت إليه نتيجة المعركة من بشاعة في السّلوك والفكر؛ فاتّضحت خسّة الاُمويّين ودناءتهم ودجلهم.
وكان الأثر البالغ في مواصلة الثورة الحسينيّة بدون سلاح دمويّ حين واصلت العقيلة زينب بنت أمير المؤمنين (عليه السّلام) فضح الجرائم التي ارتكبها بنو اُميّة، ومن ثمّ توضيح رسالة الإمام الحسين (عليه السّلام).
إنّ جميع المسلمين متّفقون -على اختلاف مذاهبهم وآرائهم- بأنّ الموقف الحسيني كان يمثّل موقفاً إسلامياً شرعيّاً، وأنّ يزيد كان مرتدّاً ومتمردّاً على الإسلام والشّرع الإلهي والموازين الدينية.
2 – إحياء الرسالة الإسلاميّة
لقد كان استشهاد الإمام الحسين (عليه السّلام) هزّة لضمير الاُمّة، وعامل بعث لإرادتها المتخاذلة، وعامل انتباه مستمر للمنحدَر الذي كانت تسير فيه بتوجيه من بني اُميّة، ومَنْ سبقهم من الحكّام الذين لم يحرصوا على وصول الإسلام نقيّاً إلى مَنْ يليهم من الأجيال.
لقد استطاع سبط الرّسول (صلّى الله عليه وآله) أن يُبيّن الموقف النظري والعملي الشّرعي للاُمّة تجاه الانحراف الذي يصيبها حينما يستبدّ بها الطّغاة، فهل انتصر الحسين (عليه السّلام) في تحقيق هذا الهدف؟
لعلّنا نجد الجواب فيما قاله الإمام زين العابدين (عليه السّلام) حينما سأله إبراهيم بن طلحة بن عبد الله قائلاً: مَنْ الغالب؟ قال (عليه السّلام): ” إذا دخل وقتالصلاة فأذّن وأقم تعرف الغالب”3.
لقد كان الحسين (عليه السّلام) هو الغالب إذ تحقق أحد أهم أهدافه السّامية بعد محاولات الجاهليّة لإماتته وإخراجه من معترك الحياة.
3 – الشعور بالإثم وشيوع النقمة على الاُمويّين
اشتعلت شرارة الشّعور بالإثم في نفوس النّاس، وكان يزيدها توهجاً واشتعالاً خطابات الإمام عليّ بن الحسين (عليهما السّلام)، وزينب بنت عليّ بن أبي طالب، وبقية أفراد عائلة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) التي ساقها الطّغاة الاُمويّون كسبايا من كربلاء إلى الكوفة فالشام.
فقد وقفت زينب (عليها السّلام) في أهل الكوفة حين احتشدوا يُحدّقون في موكب رؤوس الشهداء والسّبايا، ويبكون ندماً على ما فرّطوا وما حصل لآل النبيّ (صلّى الله عليه وآله)؛ فأشارت إليهم أن اسكتوا فسكتوا، فقالت:
«أما بعد، يا أهل الكوفة أتبكون؟ فلا سكنت العبرة، ولا هدأت الرّنة، إنّما مثلكم مثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً، تتّخذون أيمانكم دخلاً بينكم، ألا ساء ما تزرون، أي والله، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، فلن ترحضوها بغسل أبداً، وكيف ترحضون قتل سبط خاتم النبوّة، ومعدن الرسالة، ومدار حجّتكم، ومنار محجّتكم، وهو سيد شباب أهل الجّنة؟».
وتكلّم عليّ بن الحسين (عليهما السّلام) فقال: “أيّها النّاس، ناشدتكم الله، هل تعلمون أنّكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه؟ فتبّاً لكم لما قدمتم لأنفسكم، وسوأة لرأيكم! بأيّ عين تنظرون إلى رسول الله إذ يقول لكم: قتلتم عترتي، وانتهكتم حرمتي فلستم من اُمّتي؟” 4.
وروي أيضاً أنّ يزيد بن معاوية فرح فرحاً شديداً، وأكرم عبيد الله بن زياد، ولكن ما لبث أن ندم، ووقع الخلاف بينه وبين ابن زياد حين علم بحال النّاس وسخطهم عليه، ولعنهم وسبّهم5.
ولقد كان الشّعور بالإثم يمثّل موقفاً عاطفياً مفعماً بالحرارة والحيوية والرغبة الشديدة بالانتقام من الحكم الاُموي؛ ممّا دفع بالكثير في الجماعات الإسلاميّة إلى العمل للتكفير عن موقفهم المتخاذل عن نصرة الإمام الحسين (عليه السّلام) بصيغة ثورة مسلحة لمواجهة الحكم الاُموي الظالم.
صحيح إنّه لا يمكننا أن نعتبر موقف المسلمين هذا موقفاً عقلياً نابعاً من إدراك فساد الحكم الاُموي وبعده عن الرسالة الإسلاميّة، إلاّ إنّه كان موقفاً صادقاً يصعب على الحاكمين السّيطرة عليه كالسيطرة على الموقف العقلاني، فكان الحكّام الظلمة وعبر مسيرة العداء لأهل البيت النبوي (عليهم السّلام) يحسبون له ألف حساب.
4 – إحياء إرادة الاُمّة وروح الجهاد فيها 6
كانت ثورة الإمام الحسين (عليه السّلام) السّبب في إحياء الإرادة لدى الجماهير المسلمة وانبعاث الروح النضالية، وهزّة قويّة في ضمير الإنسان المسلم الذي ركن إلى الخنوع والتسليم، عاجزاً عن مواجهة ذاته ومواجهة الحاكم الظالم الذي يعبث بالاُمّة كيف يشاء، مؤطّراً تحرّكه بغطاء ديني يحوكه بالدجل والنفاق، وبأيدي وعّاظ السّلاطين أحياناً، واُخرى بحذقه ومهارته في المكر والحيلة.
فتعلّم الإنسان المسلم من ثورة الحسين (عليه السّلام) أن لا يستسلم ولا يساوم، وأن يصرخ معبّراً عن رأيه ورغبته في حياة أفضل في ظلّ حكم يتمتّع بالشّرعية، أو على الأقل برضى الجماهير.
ونجد انطلاقات عديدة لثورات على الحكم الأموي وإن لم يُكتب لها النجاح إلاّ إنّها توالت حتّى سقط النظام. ورغم أنّ أهدافها كانت متفاوتة إلاّ إنّها كانت تستلهم من معين ثورة الحسين (عليه السّلام)، أو تستعين بالظرف الذي خلقته.
فمن ذلك ثورة التوّابين7 التي كانت ردّة فعل مباشرة للثورة الحسينيّة، وثورة المدينة 8، وثورة المختار الثقفي 9 الذي تمكّن من محاكمة المشاركين في قتل الحسين (عليه السّلام)، ومجازاتهم بأفعالهم الشنيعة وجرائمهم الفضيعة، ثمّ ثورة مطرف بن المغيرة، وثورة ابن الأشعث، وثورة زيد بن عليّ بن الحسين (عليهما السّلام)10، وثورة أبي السّرايا11.
لقد أحيت الثورة الحسينيّة روح الجهاد وأجّجتها، وبقي النبض الثائر في الاُمّة حيّاً رغم توالي الفشل اللاحق ببعض تلكم الثورات، إلاّ إنّ الاُمّة الإسلاميّة أثبتت حيويّتها، وتخلّصت من المسخ الذي كاد أن يطيح بها بأيدي الاُمويّين وأسلافهم12.
- 1. تاريخ الطبري 4 / 281.
- 2. المصدر السابق 4 / 331.
- 3. حياة الإمام الحسين بن علي (عليهما السّلام) 3 / 440 عن أمالي الشيخ الطوسي.
- 4. حياة الإمام الحسين بن علي (عليهما السّلام) 3 / 341 عن مثير الأحزان.
- 5. تأريخ الطبري 4 / 388، تأريخ الخلفاء / 208.
- 6. للمزيد من التفصيل راجع ثورة الحسين ( النظرية، الموقف، النتائج ) – للسيّد محمّد باقر الحكيم / 100.
- 7. تاريخ الطبري 4 / 426، 449.
- 8. المصدر السابق 4 / 464.
- 9. المصدر السابق 4 / 487.
- 10. مقاتل الطالبيين / 135.
- 11. المصدر السابق / 523.
- 12. من کتاب الإمام الحسين (عليه السّلام) سيد الشهداء، تاليف لجنة من الكُتاب بإشراف سماحة السيد منذر الحكيم.