مقالات

التعلق بالدنيا…

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

رُوي عن أمير المؤمنين وقائد الغُرِّ المحجَّلين صلوات الله عليه، أنه قال ـ في المناجاة ـ :

إلهي؛ كفى بي عزًّا أن أكونَ لك عبداً، وكفى بي فخراً أن تكونَ لي ربًّا، أنت كما أُحِبُّ، فاجعلني كما تُحِبُّ. [البحار 74 : 402]

العبوديَّة عِزٌّ، وهي تتجلَّى بطاعة الله تعالى، بينما المعصية ذُلٌّ ومَسكَنةٌ..

في مُناجاة التَّائبين: إلهي؛ ألبستني الخطايا ثوبَ مذلَّتِي، وجلَّلَني التَّباعدُ منك لباسَ مَسْكَنَتِي. [البحار 91 : 142]

ورُوي عن الإمام جعفرٍ الصَّادق عليه السلام، أنَّه قال ـ ضمنَ حديثٍ ـ :

من أخرجه الله من ذُلِّ المعصية إلى عِزِّ التَّقوى، أغناه بلا مال، وأعزَّه بلا عشيرة، وآنسَهُ بلا بَشَرٍ. [أمالي الطوسي، ص201]

وتمثِّل الذُّنوبُ والسيِّئاتُ التي يرتكبها الإنسان مظهرَ فرارٍ للعبدِ من مَولاه..

وحين تختلُّ علاقةُ الإنسان بربِّه ويفرُّ العبدُ من مولاه، ينشغل العبدُ الآبِقُ بعمارة الدُّنيا، ويترك آخرته خراباً، وحينئذٍ يكره الموتَ الذي يمثِّل ـ في نظره ـ رحلةً من العُمران الَّذي تعلَّق قلبُه به، إلى خرابٍ مُوحشٍ لا يحبُّه ولا يرضى العيش فيه.

رُوي أنَّه قيل لأبي ذرٍّ الغِفاري (رض) : ما لنا نكرَهُ الموتَ؟ فقال: لأنَّكم عمَّرتم الدُّنيا وأخربتم الآخرة، فتكرهون أن تُنقَلُوا من عُمرانٍ إلى خرابٍ.

فقيل له: فكيف ترى قُدومَنا على الله؟ فقال: أمَّا المحسن منكم فكالغائب يَقدَم على أهله، وأمَّا المسيء منكم فكالآبق يُرَدُّ على مولاه. [الكافي 2 : 458]

إنَّ الأهل المحبِّين لمن سافر وغاب عنهم، يستقبلونه ـ إذا عاد إليهم ـ بحبٍّ وإكرام، وهو يقدَم عليهم بشوق لأنَّه يعلم ما ينتظره من سرور بلقائهم.

بينما العبد الآبق الفارُّ من سيِّده ومولاه يُرَدُّ ردًّا، ولا يعود باختياره، لأنَّه يتوقَّع أن يعاقبه مولاه على خروجه من ولايته، وتمرُّده عليه، وعصيانه له، فهو يكره لقاء مولاه ويخاف منه، ويتوقَّع أن يواجه الذُّلَّ والخزيَ..

ولهذا السبب يكره الإنسانُ الموتَ ويفرُّ منه..

ولكنَّ الإنسانَ الَّذي يريد أن يفرَّ من سلطان الله تعالى ومملكته، يجد نفسه عاجزاً عن ذلك، لأنَّه مهما هربَ وابتعدَ، فإنه يبقى في مملكة الله تعالى (ولا يمكن الفرار من حكومتك) ، وعن قريب يردُّه الموتُ ـ بأمر الله ـ مقهوراً إلى محكمة عدل الله (وقهر عباده بالموت والفناء) .. وحينئذٍ يدرك العبدُ ـ إذا عاد إلى رُشده ـ أنَّ عليه أن يبادر إلى التوبة قبل الموت، ويعود إلى مولاه قبل الفَوت، ويفرَّ من عدله إلى رحمته، فيقول ـ كما في مُناجاة التوَّابين ـ :

إلهي هل يَرْجِعُ العبدُ الآبِقُ إلَّا إلى مولاه، أم هل يُجِيرُهُ من سَخَطِهِ أحدٌ سواه. [مناجاة التائبين ـ البحار 91 : 142]

وفي الدُّعاء المرويِّ بسند صحيح عن أهل البيت ـ عليهم السلام ـ لقنوت صلاة الوَتر:

يا الله؛ ليس يَرُدُّ غضبَك إلَّا حلمُك، ولا يُنجي من عذابِك إلَّا رحمتُك، ولا يُنجي منك إلَّا التَّضرُّعُ إليك. [من لا يحضره الفقيه 1 : 490]

والله وليُّ التوفيق. والحمدُ لله ربِّ العالمين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى