إن أطروحة ولاية الفقيه التي تركت بصماتها بثقل على واقع الفكر السياسي الشيعي لم تكن قيمة نظرية فقط، وإنما شكلت حدثاً نوعياً على مستوى السلوك الحركي الإسلامي العام، وعلامة على تطور البنية الثقافية عامودياً وأفقياً في إبداعٍ موفق على الصعيد العملي بين ما هو عقيدي- إيماني وبين ما هو سياسي.
وبمعنى آخر، إن استنباط مسلكية في الحكم تؤول إلى إفراز آليات واستحداث مؤسسات تهتم بالجوانب الإجتماعية والإقتصادية والسياسية العامة، يعد إنجازاً واعياً داخل الحقل الدراسي الشيعي، وامتداداً حياً وفاعلاً لِمَا كان على عهد رسول الله (ص)، بما يعزز من وجود الإسلام في ساحة الحياة، ويؤكد أصالة حضوره في موازاة الأنظمة السياسية الأخرى التي تَعتبر نفسها نموذجاً ومقياساً للنظام السياسي الكامل.
من هنا، كانت هذه الأطروحة، التي مظهرها الإمام الخميني الراحل بمظهريته الخاصة وأخرجها من حيز القوة إلى حيز الفعل، ومنحها أرجلاً لتسهيل وتسريع حركتها، نقلة نوعية على مستوى العقل الإجتهادي الشيعي. فبعدما كانت النصوص المتعلقة بالحكم والسياسية والسلطة نماذج مدرسية وتنتمي إلى الفقه التجريدي النظري، ولا تخرج عن إطارها الدراسي، أصبحت مع الإمام هندسة، وصيغاً، ومنظومة تقارب مفردات العصر والحداثة وكل ما يتعلق بالإجتماع الإنساني والمعطى السياسي بأبعاده كافة.
يضاف إليه هذا الإتساع في العلاقة بين الفرد- الأمة بالإمام”الولي”، من المبادلات الإجتماعية والدينية الضيقة، إلى الشمولية في وعي الواجبات والحقوق، بما يوائم بين مصالح الأفراد بالمعنى الفردي ومصالح الأمة بالمعنى الإجتماعي العام.
وقد يكون هذا التبلور الخفي في عامود الزمن، والمخاض البطيء في تَفَتُّح هذه النظرية مرده إلى مجموعة من العوامل السياسية والإجتماعية التي رافقت حركة الإجتهاد الديني، مما جعلها تتأخر إلى حين خَطَت الحركة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني خطوات جبارة في ساحات العمل السياسي والجهادي، وجعل خروجها مناسباً ومراعياً لشروط الواقع الجديد، وعاكساً لتطور الموقف الفقهي من المسائل السياسية والإجتماعية من التقليدية الهادئة إلى الثورية الهادرة.
فلم تعد الكوابح التقليدية قادرة أمام المتغيرات المجتمعية والتحولات الدولية،على الصمود أكثر من ذلك. فجاءت أطروحة الإمام معطى دراماتيكي في لحظة تاريخية حاسمة تميز بين نهجين: أحدهما يسعى للتأسي بقيادة رسول الله (ص) الحركية والمنفتحة على الحياة، وأخرى تتمسك بالزهد والورع والإحتياط وهي تنطلق في علاقتها بالسلطة والحكم والسياسة، وهو الأمر الذي أدى إلى عزوف القيادات الدينية عن قضايا المجتمع ومصالح الأمة. ولعل هذا الحذر المبالغ فيه والخوف من الوقوع في الفتنة وشرك الدنيا وحبائلها من قِبَل بعض الفقهاء على مدى عقود طويلة من الزمن، هو الذي قلل من الاهتمام بالسياسة لدى النخب والعامة على حد سواء، وهو الذي أضعف من فرص وجود دولة إسلامية تستند إلى أصالة الدين الإسلامي في الحكم.
وفي هذا كله، حرصتُ على القول أنه، حينما توافر النضج العقلي، وهو حصيلة مراكمات إجتهادية فكرية تأملية في النص الديني، وفي دور الدين بشكل عام، ووظيفته في تفسير الحياة، والإجابة عن التساؤلات والإشكاليات المطروحة فيها، مع الظروف الإجتماعية الملائمة والمتولدة من حراك إيجابي يعبر عن نفسه تارة بالتحرر وتوكيد الذات، وطوراً في تحقيق العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية، وغيرها من الفضائل والقِيَم التي يطمح إليها كل فردٍ واعٍ. حينما توافر كل ذلك، أمكن للإمام الخميني بإرادته القوية إعادة الإسلام إلى ساحة الحياة بحركة تجاوزت الأطر التقليدية التي كانت متَّبَعة عند العديد من الفقهاء الذين سبقوه أو عاصروه.
وعلى هذا، فيجب الإعتراف والإقرار بأن أطروحة ولاية الفقيه هي إحدى نتاجات التعددية الإجتهادية. فلولا ذلك ما بلغنا هذا المبلغ من الفكر السياسي الذي يحتاج اليوم إلى جهد مضاعف لتطوير هذه الأطروحة، من دون أن يكون هناك خروج عن الأصالة الفقهية في كل ما يتصل بالبنية الدينية والسياسية، وفي الوقت نفسه تعبر عن الحيوية في التكيُّف مع التجارب الإنسانية والمحركات الحضارية.
فالتعددية الإجتهادية هي مصدر غناء وإلهام لمركز الولاية والقيادة سواء على مستوى الأحكام الإلهية، أو على مستوى الأحكام الولائية. ومع أن فهمَنا يلحظ بإيجابية تحقق الأعلمية فيما يشمل الأحكام الإلهية والولائية معاً في شخص واحد، فإن عدم إنوجادهما معاً في مستوى واحد وفي شخص واحد لا يلغي مطلقاً موقع الولي، ولا يضعف من رمزيته ودوره ووظيفته، ولا نواجه مشكلة كأداء في انفكاك القيادة عن المرجعية في التقليد. بل على العكس من ذلك، فإننا نفهم المسألة على أساس اعتبار المجتهد في موقع المستشار للولي سواء على صعيد الأحكام الإلهية عند اجتماع المنصبين” المرجعية والقيادة” بالولي. فيشكل إجتهاد المجتهد في موارد الإختلاف مصدراً للولي لتنبيهه إلى بعض الإشارات التي قد تغيب عنه. أو لجهة الأحكام الولائية، فإن المجتهد أيضاً يتعاطى الشؤون العامة ويرصد طبيعة المجريات السياسية التي تتحرك على ساحته، فيقدم على أساس ذلك رؤية متقدمة للأوضاع السياسية والإجتماعية للولي ليصدرَ حكمه النهائي والنافذ الذي يلزمه ويلزم المكلفين كافة.
وبناء على هذا، فإن التعددية الإجتهادية سواء انحصرت القيادة والمرجعية بشخص واحد أو انفصلت عنه، فإنها واقعة في خدمة الولاية، وهي- بمعزل عن كونها مسألة مفتاحية لازدهار وإبداع العقل الإنساني على مختلف الطبقات والمجالات- فإنها تتيح للولي أن يكوِّن صورة أكثر شمولاً عن القضية التي يريد البت بها وفهماً أقرب إكتمالاً1.
- 1. المصدر: جريدةالنهار الأحد 1 كانون الثاني 2006، السنة: 73، العدد: 22542، سماحة الشيخ عفيف النابلسي حفظه الله.