ظهر للعيان وثبت أن التطرف الديني هو أخطر أنماط التطرف، ولسنا بحاجة لإثبات هذه الحقيقة العودة إلى التاريخ الإنساني أو الإسلامي في أزمنتهما القديمة أو الوسيطة، فأمامنا اليوم فائض من الوقائع المرئية والمشاهدة المخيفة والمرعبة، والتي لا تكاد تتوقف، ولم تعد تنحصر في أمكنة محددة، كشفت ودلت على مدى تعاظم خطر التطرف الديني.
تعاظم هذا الخطر المنسوب إلى المجال الديني، حصل نتيجة الاقتران بين التطرف والتكفير والإرهاب، ومتى ما اجتمعت هذه الحالات الثلاث وامتزجت كونت مركبا خطيرا للغاية، هو أخطر مركب يمكن أن يظهر ويتشكل في المجال الديني على الإطلاق.
والتغير الذي حصل في هذا الشأن، أن التطرف الديني لم يعد يمثل من جهة حالة فردية يعرف بها الأفراد، ويتحدد بالمجال الفردي وينحصر عليه، فقد تجاوز التطرف الديني الحالة الفردية، وتحول إلى حالة جماعية تعرف به جماعات وتكتلات تنتسب إلى المجال الديني، وتبشر بهذا النمط من التطرف، وتدافع عنه بطريقة متشددة، وصلت إلى حد التدخل في شؤون الآخرين، ومحاولة فرض هذا الخيار وتعميمه في المجتمعات العربية والإسلامية.
ومن جهة ثانية، لم يعد التطرف الديني يتحدد بالمجال الفكري وينحصر عليه، فقد تجاوز هذا الحد، وانتقل من طور الفكر إلى طور الفعل، ومن طور النظر إلى طور الممارسة، وبانت خطورته حين اقترن بالتكفير، وتحول إلى فعل إرهاب وإجرام بات يهدد فعليا أمن واستقرار وسلامة المجتمعات والدول.
ولم يقف التطرف عند هذا الحد، فقد تعاظم ووصل إلى درجة التوحش والعدمية التي تكاد تخرج الإنسان من إنسانيته، وتجعل منه كيانا منزوع الرحمة تتملكه رغبة الفناء، والإسراع إلى طلب العدم، عن طريق اختيار أسوء وأقبح فعل يمكن الإقدام عليه، وهو فعل تفجير النفس، وقتل الآخرين، وسفك الدماء المعصومة، وإزهاق الأرواح البريئة، متخيلا بأن هذا السبيل هو أسرع طريق إلى النعيم، في حين أنه أسرع طريق إلى الجحيم.
ما حدث في هذا الشأن لا يمكن أن يعقل أو يصدق، كيف يعقل أن يقدم شاب في مقتل العمر، ويفجر نفسه بحزام ناسف بإرادته واختياره، وعن سبق إصرار وترصد، وأين! في مساجد المسلمين، وهم في صلاتهم لا شغل لهم إلا عبادة الله سبحانه، هذا الحدث ليس حدثا عاديا على الإطلاق، ولا يصح التعامل معه بطريقة عابرة أبدا، ولا يمكن التهوين به، أو التغافل عنه، أو السكوت عليه، وجعله يمر ويأخذ طريقه إلى المحو والنسيان مع توالي الأيام.
فهذا الحدث الذي ظل وما زال يتكرر بهذا التوحش المرعب، لا بد أن يكون له وقع الصدمة والصدمة العنيفة التي تهزنا من الأعماق وجدانيا وإنسانيا وفكريا ودينيا، وتجعلنا في حالة ذهول مع أنفسنا لا نكاد نصدق ما حصل، وأن نرفع درجة الخطر بأعلى درجاتها، ونعلن حالة الطوارئ الفكرية والدينية، ونكون في وضع استنفار شديد، فالذي حدث لا يقارن أبدا بالكوارث الطبيعية، ولا بالنكبات السياسية، ولا بالنكسات الحربية، ولا بالأوبئة والأمراض الفتاكة وغيرها، فهو أشد خطرا من ذلك، وأعظم فداحة، وأبلغ ألما وتأثيرا.
والمعنيون بهذه الصدمة قبل غيرهم هم الهيئات الدينية، والمجامع الفقهية، والمعاهد والجمعيات والجامعات الدينية، والمنتسبون إلى الخطاب الديني، والمشتغلون بهذا الخطاب بحثا ودراسة، تأليفا وتصنيفا، تدريسا وتعليما، توجيها وتثقيفا، فعلى هؤلاء جميعا تقع المسؤولية العظمى في مواجهة هذه الظاهرة الموصوفة بالتطرف الديني والتي اقترنت بالغلو والتكفير، وتحولت إلى فعل إرهاب وإجرام، وصل به الحال إلى درجة لا يمكن أن تعقل أو تصدق.
لا يكفي من هؤلاء بيانات الإدانة والشجب والاستنكار فهذا هو الموقف السهل والبسيط والرتيب، وإنما المطلوب منهم الإحساس العميق بهذه الصدمة وبأعلى درجاتها، وألا يهدأ لهم بال قبل القيام بدورهم الفعال في مواجهة هذه الظاهرة واقتلاعها من جذورها.
الأمر الذي يتطلب تحويل هذه الظاهرة إلى مادة للنظر والدراسة والفحص والتحليل الديني والتاريخي والفكري والاجتماعي والاقتصادي والنفسي والتربوي، وتشريح هذه الظاهرة وتفكيكها بصورة كاملة ودقيقة بإعمال وتطبيق مختلف مناهج ومنهجيات، وتجارب وخبرات العلوم الاجتماعية والإنسانية، لمعرفة كيف ظهرت هذه الظاهرة في ساحة المسلمين؟ ولماذا امتدت واتسعت ووصلت إلى هذه الدرجة من التوحش المخيف والمرعب؟ وما هي الحلول والمعالجات؟1
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة اليوم، الأحد 12 يوليو 2015م، العدد 15367.