علي فاضل الخزاعي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين، وبعد…
من النساء الفاضلات اللواتي رسمن صورة بهية لأمير المؤمنين (عليه السلام) وبيان صفته الجميلة وأوصافه الجليلة ومن البكاءات على أمير المؤمنين (عليه السلام) هي (سودة بنت عمارة بن الأسك الهمدانية، من سيدات نساء العراق، ومن ربات الفصاحة والبيان. ورثت حب الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام من آبائها الكرام)[1]، (شاعرة من شواعر العرب، ذات فصاحة وبيان[2]، وفدت على معاوية بن أبي سفيان فاستأذنت عليه فأذن لها، فلما دخلت عليه سلمت، فقال لها: كيف أنت يا ابنة الأشتر: قالت: بخير! قال لها: أنت القائلة لأخيك:
شهر لفعل أبيك يا ابن عمارة * يوم الطعان وملتقى الأقران
وانصر عليا والحسين ورهطه * واقصد لهند وابنها بهوان
إن الإمام أخا النبي محمد * علم الهدى ومنارة الإيمان
فقُد الجيوش وسر أمام لوائه * قدما بأبيض صارم وسنان
قالت: إي والله، ما مثلي من رغب عن الحق أو اعتذر بالكذب، قال لها: فما حملك على ذلك؟ قالت: حب علي واتباع الحق. قال: فوالله ما أرى عليك من أثر عليّ شيئا. قالت: مات الرأس وبتر الذنب، فدع عنك تذكار ما قد نسي، وإعادة ما مضى، قال: هيهات ما مثل مقام أخيك ينسى وما لقيت من قومك وأخيك. قالت: صدقت – والله – ما كان أخي خفي المقام ذليل المكان ولكن كما قالت الخنساء:
وإن صخرا لتأتم الهداة به * كأنه علم في رأسه نار
وبالله أسأل إعفائي مما استعفيت منه، قال: قد فعلت، فقولي ما حاجتك؟ قالت: إنك أصحبت للناس سيدا، ولأمرهم متقلدا، والله سائلك من أمرنا وما افترض عليك من حقنا، ولا يزال يقوم علينا من ينوء بعزك، ويبطش بسلطانك، فيحصدنا حصد السنبل، ويدوسنا دوس البقر، ويسومنا الخسيسة ويسلبنا الجليلة، هذا بسر بن أرطاة قدم علينا من قبلك. فقتل رجالي، وأخذ مالي، ولولا الطاعة لكان فينا عز ومنعة، فأما عزلته عنا فشكرناك، لا فعرفناك.
فقال معاوية: أتهددني بقومك؟ لقد هممت أن أحملك من قتب أشرس فأردك إليه ينفذ فيك حكمه، فأطرقت تبكي، ثم أنشأت تقول:
صلى الإله على جسم تضمنه قبر * فأصبح فيه العدل مدفونا
قد حالف الحق لا يبغي به بدلا * فصار بالحق والإيمان مقرونا
قال معاوية: ومن ذلك؟ فقالت: علي بن أبي طالب، قال: وما صنع بك حتى صار عندك كذلك؟ قالت: قدمت عليه في رجل ولاه صدقتنا، فكان بيني وبينه ما بين الغث والسمين، فأتيت عليا عليه السلام لأشكو إليه، فوجدته قائما يصلي، فلما نظر إلي انفتل من صلاته ثم قال لي برأفة وتعطف: ألك حاجة؟ فأخبرته الخبر، فبكى ثم قال: اللهم إنك أنت الشاهد علي وعليهم أني لم آمرهم بظلم خلقك، ولا بترك حقك. ثم أخرج من جيبه قطعة كهيئة طرف الجراب فكتب فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم (قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين. بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ)[3] إذا قرأت كتابي فاحتفظ بما في يديك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك والسلام). فعزله، ما خزمه بخزام، ولا ختمه بختام[4].
هذه اطلالة وجيزة على موقف من مواقف إحدى المواليات لأمير المؤمنين (عليه السلام) التي وقفت بوجه الطاغوت وحاججته بفضل امير المؤمنين عليه السلام وبيان عظمته (عليه السلام) أمام معاوية واتباعه بكل فخر، لان معاوية لم يقتصر في تنكيله على السادة من رجال الشيعة، وانما تجاوز ظلمه إلى السيدات من نسائهم، فأشاع فيهم الذعر والإرهاب وقد قابلهن معاوية بمزيد من التوهين والاستخفاف، وأظهر لهن الجبروت والقدرة على الانتقام غير حافل بوهن المرأة وضعفها[5]، ولكن وقفت هذه السيدة بوجه كالبنيان المرصوص. والحمد لله رب العالمين.
الهوامش:
[1] – الأعلام من الصحابة والتابعين، الحاج حسين الشاكري، 12/11.
[2] – ينظر: تاريخ دمشق، ابن عساكر: 69/240.
[3] – قال صاحب الفصول المهمة ابن الصباغ: بان هنالك خلط بين سورة الأعراف: 85. وبين آية 183 من سورة الشعراء في بعض النُسخ من قِبل النسّاخ. والآية التي ذكرها هي: (قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَائَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ في الأْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).
[4] – فتوح ابن أعثم:3 /56 – 57؛ العقد الفريد: 1 /344؛ بلاغات النساء لابن طيفور: 30؛ الفصول المهمة: 130، أعلام النساء لكحالة: 2 /270.
[5] – ينظر: حياة الإمام الحسين، باقر شريف القرشي: 3/ 176.
المصدر: http://inahj.org