مقالات

الانتحار وعلم الامام بالغيب …

نص الشبهة: 

ذكر الكليني في كتاب الكافي: «أن الأئمة يعلمون متى يموتون، وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم» (انظر: «أصول الكافي للكليني» ج1 ص258، وكتاب: الفصول المهمة للحر العاملي ص155.). ثم يذكر المجلسي في كتابه (بحار الأنوار) حديثاً يقول: «لم يكن إمام إلا مات مقتولاً أو مسموماً» (بحار الأنوار ج43 ص364.). فإذا كان الإمام يعلم الغيب كما ذكر الكليني والحر العاملي، فسيعلم ما يقدم له من طعام وشراب، فإن كان مسموماً علم ما فيه من سم وتجنبه، فإن لم يتجنبه مات منتحراً ؛ لأنه يعلم أن الطعام مسموم! فيكون قاتلاً لنفسه. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أن قاتل نفسه في النار! فهل يرضى الشيعة هذا للأئمة؟!

الجواب: 

بسم الله الرحمن الرحيم
وله الحمد، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
وبعد..
فإننا نجيب بما يلي:
أولاً: إن وجود الحديث في كتاب الكافي أو غيره لا يعني اعتقاد الشيعة بمضمونه. لأن للإعتقاد شروطاً عديدة، مثل ثبوت صحته، وعدم وجود معارض له ينفيه.. وعدم مخالفته لكتاب الله سبحانه، أو للبديهات والأوليات، فلا يصح الأخذ بأي حديث مهما كان صحيح السند إذا كان يجوِّز الجمع بين النقيضين، أو الضدين مثلاً..
وإذا كان أمراً اعتقادياً، فقد يحتاج إلى أن يكون متواتراً أيضاً.. و.. و..
فهل اجتمعت هذه الشروط في الأخبار التي أوردها السائل، وطالب الشيعة بمضامينها؟! وبتطبيقاتها؟!
أم أنها لا تزال في دائرة أخبار الآحاد، التي لا توجب علماً ولا عملاً من الناحية الإعتقادية..
مع أن من المعروف والواضح: أن الشيعة لا يصحِّحون كل أحاديث الكافي. بل هم يبحثون في كل حديث وارد فيه، ويتوقفون عند سنده، وعند مضمونه..
ثانياً: لقد أرسل الله أنبياءه للناس، وكانوا يعلمون، أو كان يمكنهم أن يعلموا بما كان يفعله الناس، وكانت أعمال الناس تعرض عليهم، وقد قال تعالى حكاية لقول نبي الله عيسى لقومه:﴿ … وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ … ﴾ 1.
ولكن لم يكن يحق للنبي أن يعاملهم استناداً لما علمه عنهم بهذه الطريقة، التي لا تتوفر لسائر الناس، فلو علم بواسطة جبرئيل، أو الملك الفلاني بأن فلاناً سرق لم يجز له أن يقطع يده.. إلا أن يشهد عليه شاهدان، أو يقرّ هو على نفسه، أو يراه القاضي بنفسه قد فعل ذلك، إذا جوزنا له القضاء بعلمه..
ولو ترافع إليه شخصان اختلفا في أرض، وأعلمه الملك بالمحق منهما، لم يجز له أن يحكم بينهما بغير الإقرار، أو الأيمان والبينات فعليه أن يلتزم بذلك، حتى لو أدت البينة إلى خلاف ما علمه عيسى بواسطة الملك.. فإن المطلوب هو إجراء الحكم الظاهري على الناس..
وهذا ما أشار إليه النبي «صلى الله عليه وآله» حين قال: «إنما أقضي بينكم بالأيمان والبينات، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن أخذت له من أخيه شيئاً، فليعلم أني إنما اقتطعت له قطعة من النار \» 2.
وكذلك الحال إذا علم النبي أو الإمام بالطرق غير العادية أنه سيموت في اليوم أو في الساعة الفلانية، فليس له أن يوظف هذا العلم لمصلحته هو، لأن الله تعالى إنما أعطاه هذا العلم الخاص، ليكون وسيلته إلى هداية الأمة ورعايتها، وليكون وسيلته في شهادته على أمته بين يدي الله تعالى يوم القيامة.. ولكي يكون من وسائل تربيته وإعداده، وصنع مزاياه التي تؤهله لأن يكون شاهداً وقائداً ورائداً..
ثالثاً: إن القتل والسم هو فعل الغير، الذي خلقه الله حراً مختاراً، ولا يليق بالعادل الحكيم أن يعطي بيد ثم يأخذ باليد الأخرى، فيمنح الإنسان الحرية والإختيار، ثم يصادرهما، ويمنعه من الإستفادة منهما، فإن هذا من السفه والظلم الذي لا يصدر من العاقل الحكيم، والعادل الرحيم، حتى مع أشر الخلق وأشقاهم كإبليس، وجنوده.. فكيف بسائر المخلوقات..
من أجل ذلك: لم يمنع الله سبحانه قوم نمرود من فعل كل ما أحبوا فعله في حق إبراهيم «عليه السلام» فجمعوا الحطب، وأضرموا النار، وألقوه فيها، ولكنه تدخل في خارج دائرة اختيارهم، فحال بين النار وبين الإحراق:﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ ﴾ 3.
كما أنه تعالى لم يمنع مشركي مكة من فعل ما أحبوا فعله تجاه رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ولكنه أنبت شجرة السدر على باب الغار، ودعا العنكبوت لتنسج على بابه، والحمامة الوحشية لتبيض هناك، وتحتضن بيضها.. فكانوا هم الذين قرروا الإنصراف عن مواصلة البحث.
رابعاً: إن الإقدام على الموت المعلوم تحققه ليس حراماً دائماً، ولا يكون انتحاراً في جميع الأحوال..
ولذلك قال إسماعيل لأبيه:﴿ … يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ … ﴾ 4. فهو ليس فقط لم يدفع الذبح عن نفسه، بل طلب من أبيه أن ينفذ ما يطلب منه..
مع أنه لو رفض طلب أبيه، ولو بأن يقول له: كيف تستند فيما تقدم عليه إلى مجرد رؤيا، فإن أباه قد لا يقدم على ذبحه، لا سيما وأنه «عليه السلام» قد أرجع الأمر إليه بقوله:﴿ … فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ … ﴾ 4.
فهل يصح أن يقال: إن إسماعيل قد قتل نفسه، فهو في النار؟! وهل يرضى المؤمنون والمسلمون شيعة أو سنة بنسبة هذا الأمر إلى هذا النبي المعصوم؟!
خامساً: بل إن ما دل على أن الأئمة إذا شاؤا علموا، وما دل على أنهم لا يعرفون الموضع الذي يكون فيه خادمهم، ونحو ذلك، لربما يشير إلى أنهم «عليهم السلام» إنما يعلمون من الغيب خصوص ما يحتاجون إليه في إمامتهم العامة للأمة، وفي حفظ الدين، وكل ما له دخل في مسؤولياتهم الخطيرة والكبيرة.. وما يفيد في هداية الناس، وإثبات الحق لهم، ويعلمون أيضاً ما يفيدهم في حفظ خصوصيتهم في الطهارة والنقاء والصفاء، فلا يأكلون ولا يلبسون ولا يستعملون إلا الحلال الواقعي والطاهر الواقعي، ويعلمون أيضاً ما يفيدهم في زيادة معرفتهم بالله تعالى وكمالهم، وما يقربهم إليه، وينيلهم مراتب الرضا والقرب منه.. أما عدا ذلك، مما يرتبط بالأمور المتعلقة بأشخاصهم، ودفع الأذى عنهم، فلا يهتمون لمعرفته.
وكذلك الحال بالنسبة لبعض الأمور التي لا فائدة من العلم بها، كما لو علم وزن كل حبة رمل أو صفتها، إلا إذا احتاج ذلك في مقام التحدي، وإثبات الإمامة، وهداية الناس.
سادساً: بالنسبة إلى الموت بالإختيار نقول:
قد ورد أن ملك الموت دخل على رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وسلَّم عليه، وقال: يا أحمد، إن الله تعالى بعثني إليك لأطيعك، أقبض؟! أم أرجع؟!
فأمره «صلى الله عليه وآله»، فقبض 5. وبمعناه غيره 6.
وهذا معناه: أنه «صلى الله عليه وآله» هو الذي اختار الموت، فهل يمكن أن يقال: إنه «صلى الله عليه وآله» قد أقدم على الإنتحار؟!
وروى أبو داود الطيالسي قال: حدثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم قال: سمعت عروة بن الزبير يحدث عن عائشة قالت: كنا نتحدَّث أن النبي «صلى الله عليه وآله» لا يموت حتى يخير بين الدنيا والآخرة.
قالت: فلما كان مرض رسول الله «صلى الله عليه وآله» الذي مات فيه عرضت له بحة، فسمعته يقول:﴿ … مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ … ﴾ 7. الآية.
قالت عائشة: فعلمنا أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» كان يخيَّر.
أخرجاه من حديث شعبة 8.
قال ابن كثير: وقال الزهري: أخبرني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير في رجال من أهل العلم، أن عائشة قالت: كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» يقول وهو صحيح: «إنه لم يقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يخيَّر».
ثم ذكرت كيف أنه «صلى الله عليه وآله» قد خير حين نزل به الموت.
ثم قال ابن كثير: أخرجاه من غير وجه عن الزهري به 9.
وهناك روايات أخرى تفيد هذا المعنى 10.
فإن اختيار النبي «صلى الله عليه وآله» الموت على الحياة لا يعني أنه قد اختار الإنتحار.
وهذا يفسر لنا المراد من الحديث الذي ذكره السائل من أن الأئمة لا يموتون إلا باختيار منهم.
والحمد لله، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله الطاهرين.. 11.

  • 1. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 49، الصفحة: 56.
  • 2. الكافي ج7 ص414 ودعائم الإسلام ج2 ص518 وتهذيب الأحكام ج6 ص229 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج27 ص232 و (ط دار الإسلامية) ج18 ص169 ومستدرك الوسائل ج17 ص361 و 366 والفصول المهمة للحر العاملي ج2 ص498 وجامع أحاديث الشيعة ج25 ص46 و 92 ومعاني الأخبار ص 279 وراجع: التفسير المنسوب للإمام العسكري (ط مؤسسة الإمام المهدي «عليه السلام» قم) ص673 والسنن الكبرى للبيهقي ج10 ص143 و 149 وصحيح البخاري، وصحيح مسلم ج3 ص1337.
  • 3. القران الكريم: سورة الأنبياء (21)، الآية: 69، الصفحة: 327.
  • 4. a. b. القران الكريم: سورة الصافات (37)، الآية: 102، الصفحة: 449.
  • 5. بحار الأنوار ج22 ص522 وراجع ص504 و 532 و 533 ومناقب آل أبي طالب ج1 ص303 و 306 و (ط المكتبة الحيدرية) ج1 ص204.
  • 6. بحار الأنوار ج22 ص504 و 505 والأنوار البهية ص37 و 38 وروضة الواعظين ص71 و 72 وكتاب الدعاء للطبراني ص367 و 368 وكنز العمال (ط مؤسسة الرسالة) ج7 ص250 و 251 والطبقات الكبرى لابن سعد ج2 ص258 و 259 وتاريخ جرجان ص362 و 363 وإمتاع الأسماع ج14 ص507 وعيون الأثر ج2 ص432 وسبل الهدى والرشاد ج12 ص263 و 264 والسيرة الحلبية ج3 ص472.
  • 7. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 69، الصفحة: 89.
  • 8. السيرة النبوية لابن كثير ج4 ص475 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج5 ص260 ومسند أبي داود الطيالسي ص205 وراجع: مسند ابن راهويه ج2 ص262 والسنن الكبرى للنسائي ج4 ص260 وج6 ص269 و 325 وكتاب الوفاة للنسائي ص49 ومسند أبي يعلى ج8 ص28 والاستذكار ج3 ص85 والتمهيد لابن عبد البر ج24 ص268.
  • 9. السيرة النبوية لابن كثير ج4 ص476 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج5 ص260.
  • 10. السيرة النبوية لابن كثير ج4 ص476 و 477 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج5 ص261 عن مسند أحمد، والنسائي، والبيهقي.
  • 11. ميزان الحق (شبهات.. و ردود)، السيد جعفر مرتضى العاملي، المركز الإسلامي للدراسات، الطبعة الأولى، سنة 1431 هـ ـ 2010 م، الجزء الأول، السؤال رقم (8).
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى