تعدُّ نهضة المسلمين الشيعة في لبنان من أبرز الديناميات التي أدت إلى تحولات بالغة الأهمية في إطار المعادلة اللبنانية الطوائفية، وفي مسار العملية السياسية الداخلية المحكومة بموازين قوى شديدة التعقيد. وقد أفضت هذه النهضة إلى خروج الشيعة من نظامهم القسري المغلق على ضيم، إلى مرحلة من النماء والانفتاح والتجدد والوعي المغامر، في سعي حثيث لإيجاد موطىء قدم بين التجمعين المؤسسين السني والماروني، وفي قوام أبنية الوطن التي لم يرَ الشيعة تاريخياً ما يعزز انتماءهم الوطني إليه ووقوفهم على حصائل خيراته، كما وفي الاستواء والتوازي مع الطوائف اللبنانية الأخرى في المشاركة والتفاعل والقرار بما يحقق دوراً ثابتاً للطائفة الشيعية على بساط الجيولوجيا الطوائفية في لبنان.
وتُعدُّ المرحلة الزمنية ما بين 1959 تاريخ مجيء الإمام موسى الصدر إلى لبنان و1978 تاريخ اختطافه، من المراحل التي تشكّلت تحت وقع متغيرات هائلة عصفت بالوطن العربي، وتميّزت بأحداث متفجرة شهدها لبنان من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه، ولكنها، للمفارقة، أضافت قيمة كبرى للطائفة مشفوعة بفعل هذه المتغيرات والأحداث. وفي هذه الظروف برزت الحركات الإسلامية التي امتدت عمودياً وأفقياً، على طول الخارطة العربية بل وأبعد منها إلى العالم الإسلامي الرحب، وكان للبنان نصيب من هذا التمدد من خلال ظاهرة الإمام موسى الصدر الذي أدخل الإسلام الحركي كقيمة أساسية ضمن مشروع النهوض بطائفته، وسعى لها لتكون شريكاً سويّاً مع بقية الطوائف في ظل دولة عادلة لجميع اللبنانيين، وعمل على استعادة الارتباط بالأمة من خلال أقوى العلائق التي تجمع أبناءها في وحدتهم وتاريخهم وهويتهم الحضارية، وفي تأسيس موقع لشيعة لبنان يتصل ويتفاعل مع المجالين الإيراني والعراقي لما لهذين المجالين من رمزية وخصوصية في وجدان الشيعة عموماً. وراح يضع مفهومات جديدة في سياق مشروعٍ يستند إلى الفكر الإسلامي في تطوير مناهج وآليات الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وفي حل المنازعات الطوائفية التي شكلت عاملاً من عوامل تفجّر الحرب الأهلية اللبنانية التي خاضها الأطراف اللبنانيون تحت عناوين شتى، وكذلك في مواجهة التهديدات والمخاطر الإسرائيلية التي عرّضت لبنان لانفصام عراه المجتمعية والحضارية. في الحقيقة، فإنّ الإمام الصدر قد اقتحم الساحة الشيعية واللبنانية وسط الاختلاج المدّوي لتحولات الداخل والمنطقة، وأثار فيهما زوابع سياسية وفكرية وقدم أطروحات لمعالجة الأزمات اللبنانية المتشعبة على أهواء ومصالح العديد من دول العالم، وحمل قضايا طائفته من العتمة والإغماض إلى الضوء والعلانية.
وقد أتاح له حضوره الفاعل مزيداً من النفوذ والسيطرة على أرض لما تزل بكراً، وتمكّن بجهد منهجي من امتلاك قلوب الجماهير وجذبها إليه من خلال خطاب يتسم بالعقلانية والموضوعية والروحانية والثورية في آن معاً. وهو الأمر الذي عزز من أهميته كشخصية قيادية فذّة نجحت في اكتشاف الآليات والوسائل الكفيلة بتطوير الطائفة الشيعية والانطلاق بها نحو مسارات ومآلات تحديثية على الرغم من عمق وسعة التناقضات التي كانت تحكم لبنان والمنطقة آنذاك، وفي وقت ازدحمت فيه الساحة اللبنانية بالتيارات السياسية التي سعت هي الأخرى لتقديم مراجعات وتصورات ومقاربات تحدد فيها مفهومها في إطار إعادة بناء الوطن. إنّ من السمات البارزة في تجربة الإمام الصدر، ذلك الانتقال الدرامي من مرحلة الرفق في التعاملات السياسية والمؤالفة مع الشرائح الاجتماعية بمختلف مكوناتها أحزاباً وزعامات وفعاليات(سياسات وصل)، إلى مرحلة الانحياز الاجتماعي والجدّية السياسية(سياسات فعل). ومن مرحلة الموقف التسجيلي(توصيف واقع الحرمان وتعداد المشاكل على سبيل المثال)، إلى مرحلة الموقف النضالي الملتزم. ومن مرحلة التنظير الأيديولوجي إلى مرحلة الممارسة السياسية العملية لحيازة صفة العضوية في المجتمع السياسي اللبناني.ولا شك أن زعامة الإمام القيادية شكلت على الدوام عاملاً حاسماً في نوعية التغيير وأنماطه واتجاهاته، وهي من دون مبالغة شكلت “صدمة إيجابية” قادت الطائفة الشيعية ولبنان إلى ولوج لحظات استثنائية في تاريخهما. ويمكننا ملاحظة خمسة أبعاد على الأقل ترسو عليه حركة التغيير هذه: البعد الإيماني، البعد العقلاني الواقعي، البعد المنهجي التنظيمي، البعد الرسالي، البعد العملاني. وفي جميع هذه الأبعاد كان الإمام يسعى إلى تقديم تصور جديد إزاء القيم والاتجاهات الفكرية والسياسية والاقتصادية السائدة، وحول الطائفة والكيان اللبناني وما يجب تبنّيه من أولويات سواء على الصعيد الوطني أو على الصعيد الطائفي الخاص.في الأساس فإنّه يجب قراءة مشروع الإمام الصدر كحلقة من حلقات الصعود الإسلامي في المنطقة وخصوصاً أننا نعتبر أن حركة الإمام مرتبطة بآفاق المشروع التغييري الإسلامي في كل من إيران بقيادة الإمام الخميني، وفي العراق بقيادة الإمام محمد باقر الصدر، وتأكيد الدور الأساس للإمام في التحولات التاريخية التي شهدتها الطائفة الشيعية في عهده.
ونشير إلى أنّ حقيقة صعود الطائفة الشيعية التي سرت في كيان المجتمع اللبناني في صيغ تحولات اجتماعية وسياسية وعسكرية، فتح الطريق لانتقال لبنان من مرحلة تاريخية إلى مرحلة تاريخية أخرى. حيث بدأت بعض الطوائف تتحسس نشوء مخاطر جديدة جدّية على أوضاعها وامتيازاتها، ووضعت نفسها أمام منافسة جيوبوليتيكية ندّية مع الطائفة الشيعية بفعل التطورات الناشئة التي أوجدت ما يصح وصفه بتغييرات هيكلية على المستوى الاجتماعي والسياسي وتحديداً:
- في كل ما يرتبط بالاحتياجات المعيشية (تحسين شروط العيش والظروف الحياتية).
- في كل ما يرتبط بالمؤسسات الأهلية والملية (بناء التشكيلات والتكوينات الطائفية).
- في كل ما يرتبط بالعلاقات الطوائفية والخروج من أجواء الاقصاء والتهميش (بناء الذات الشيعية المستقلة).
- في كل ما يرتبط بتحسين الممارسات وتقوية قدرات الطائفة التنظيمية (بناء الاستقلالية السياسية).
وعلى هذا الأساس فقد سعى التيار الذي تزعمه الإمام موسى الصدرليحقق لنفسه في مستهل حركته، درجة عالية من المشروعية والصدقية والوضوح الإيديولوجي والثقافي, والمقبولية الشعبية التي تُعرِّف الآخرين ببطاقته وهويته وأهدافه، وبدا لاحقاً مهتماً بالانتشار الميداني في الأوساط والفعاليات العامة، وممارسة العمل السياسي لتأكيد وجوده ومشاركته التفاعلية بين عناصر ومفردات النظام. وفي هذا المجال سرّع التيار من إجراءات التكيّف عبر صياغة رؤية مستديمة للعلاقات السياسية والحزبية من شأنها نبذ التصارع والإقصاء والتمايز اللاإنساني الذي يعيق مسار التنوع بين اللبنانيين. وللإشارة فقد انطلق هذا التيار الوافد على الحياة السياسية اللبنانية في تشخيصه للأزمات الداخلية والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية من رؤية ثقافية- فلسفية. فقد أبدى الإمام على وجه الخصوص اهتماماً بالمستندات والمنطلقات الفكرية لإيجاد تحوّل جذري في عقلية اللبنانيين، وعدم الاكتفاء بالتغيير السطحي للبنى الفوقية. والمرتكز الفكري الذي انطلق منه الإمام يقوم على فرضية تقول بأنّ أي تحوّل في الظاهر والبنى الفوقية لا بدَّ أن يستند إلى تحوّل في الأسس والبنى الفكرية التحتية للإنسان، ويحمل الإمام في هذا المجال اعتقاداً راسخاً بتمامية الدين وجامعيته وشموليته في بناء التصورات المعنوية والمادية للإنسان، وبكونه قادراً على حل مشاكل المجتمع وما يشوبه من أزمات وتعقيدات.
إنّ الإمام الصدر تمكّن من إيقاظ الشرارة الساكنة لدى الطائفة الشيعية، ودفع بتياره إلى صدارة الساحة السياسية لتشكيل مشروع وطني ينطلق من الفكر الديني والقيم الدينية على وجه التحديد. وقد شكلت حركة أمل سابقاً، وأمل وحزب الله حالياً أحد أبرز التعبيرات عن هذا الانتماء لمشروعه الذي يزداد تجذراً ونفوذاً وانتشاراً بأشكال وأساليب يُلاحظ فيها تفاوت التجربة الزمنية بين لحظة التأسيس واللحظة الحالية إن لجهة التناول والأداء، أو لجهة المفادات والنتائج العملية. وباعتقادنا أنّ مشروع الصدر سعى إلى تغيير وجه الطائفة بشكل كلي، من خلال عمليات التحديث الفكري والمؤسسي الذي تراكم بشكل كبير ومتسارع مفضياً إلى تحولات أساسية شدّت انتباه الداخل والخارج إلى تضخم دور الطائفة الشيعية ومحوريتها في المعادلات المحلية والإقليمية1.
لمزيد من المعلومات يمكنكم مراجعة الروابط التالية:
- مكانة علي عند الصوفية
- الجامعات العلمية للشيعة
- هل الدروز مسلمون، و ما حكم التعامل معهم؟
- السجل الجامع لسوريا و بلاد الشام
- 1. المصدر: نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2011-05-31 على الصفحة رقم 5 – سياسة، سماحة الشيخ صادق النابلسي حفظه الله.