المرحلة الأولى : من الميلاد إلى وفاة الرسول
ولد الإمام الحسن ( عليه السلام ) في منتصف رمضان من السنة الثالثة للهجرة ( 3 هـ ) .
أسماه رسول الله حسناً حيث لم يشأ علي ( عليه السلام ) أن يسبق النبي في تسميته و كان أول من سمي بهذا الاسم . و الحسين اشتق من هذا الاسم أيضا و المروي أن رسول الله ( صلّى الله عليه و آله ) سمى حسناً و حسينا ( رضي الله عنهما ) و اشتق اسم حسين من اسم حسن 1 .
و عن جعفر بن محمد ( عليه السلام ) أن فاطمة ( عليها السلام ) حلقت حسناً و حسيناً يوم سابعهما و وزنت شعرها فتصدقت بوزنه فضة 2 .
لقد عاش الحسن طفولته في أعظم بيوتات التاريخ في ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ … ﴾ 3 و بين أعظم و أطهر خلق الله ؛ رسول الله ( صلّى الله عليه و آله ) و علي ( عليه السلام ) و فاطمة ( عليها السلام ) ثم الحسين ( عليه السلام ) و في كنف أهل البيت ﴿ … إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ 4 .
كانت طفولة فريدة نمت و ترعرعت في أجواء الدين و عبق الرسالة في السنوات السبع الأخيرة من حياة رسول الله ( صلّى الله عليه و آله ) حين وطد أركان الدولة الإسلامية داخل الجزيرة العربية و سقطت جميع حصون الشرك و الكفر و أمنت الدولة الفتية و ثغورها .
عاش الحسن طفولته في ظلال النبوة و هي تتحرك لتعلي كلمة ( لا اله إلا اله محمد رسول الله ) أولى الكلمات التي تناهت إلى سمعه من فم رسول الله و هو وليد ، عاش طفولة غمرها الرسول بفيض من العاطفة والحنان ، فالروايات تحدثنا أن الرسول كان يحمله على عاتقه و هو يقول : « اللهم إني أُحبه فأحبَّه » .
و عن عائشة انه كان يأخذه فيضمه و يقول : « إن هذا ابني و أنا أحبه و أحب من يحبه » .
و رآه رجل و هو يحمله على رقبته فقال : نعم المركب ركبت يا غلام . فقال الرسول : « و نعم الراكب هو » .
و تروي كتب الحديث : أن الحسن كان يأتي جده و هو ساجد فيطيل السجود و الحسن على ظهره فإذا فرغ قال للمصلين : لقد ترحلني الحسن فكرهت أن أعجله .
و للأسف فالتاريخ لا يحدثنا كثيراً عن الحسن في هذه الفترة ربما لصغر سنه ، و لكن الروايات خلدت تلك الكلمات العظيمة التي رسخت حب الحسن في وجدان الأمة و عززت مكانته بين صفوفها :
« الحسن و الحسين ريحانتاي من الدنيا » .
« الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة » .
« الحسن و الحسين إمامان قاما أو قعدا » .
« من أحبني فليحبهما و من أبغضهما أبغضني و من أبغضني أبغضه الله و أدخله النار » .
إضافة إلى آيات الوحي النازلة في تمجيد أهل البيت عموماً و أصحاب الكساء ، فالحسن أحدهم بلا نزاع .
لم تدم هذه الرعاية النبوية الحانية طويلا فلم يبق الحسن مع الرسول سوى سبع سنوات مرت كطيف نسيم لتعصف بقلب الصبي الطاهر أحزان عميقة تتوالى حلقاتها مع وفاة جده ، ثم أمه . . و تلك المظالم التي ستصب على أهل البيت ( عليهم السلام ) .
مات الرسول ولما يبلغ الحسن الثامنة ، مات رسول الله و هو يتوج حفيده بكلمات شامخة في حقه بأنه وريث هيبته و سؤدده « فقد أتت فاطمة ( عليها السلام ) بابنيها إلى رسول الله في شكواه الذي توفي فيه فقالت يا رسول الله هذان ابناك فورثهما شيئاً فقال : أما حسن فله هيبتي و سؤددي و أما حسين فله جرأتي و جودي » 5 .
امتزج حزن الحسن عن جده بحزن أمه الزهراء على أبيها فهي مازالت بعد أبيها معصبة الرأس ناحلة الجسم منهدة الركن باكية العين محترقة القلب يغشى عليها ساعة بعد ساعة .
المرحلة الثانية : الإمام الحسن زمن الخلفاء
امتدت هذه الفترة إلى سنة 35هـ تقريباً عام مقتل عثمان و مبايعة الإمام علي ( عليه السلام ) و لا يسعفنا التاريخ هنا أيضا بمعلومات كثيرة عن الحسن ( عليه السلام ) خاصة في بداية هذه المرحلة التي دامت ( 17 سنة ) تقريباً .
عاش الحسن في بداية هذه الحقبة مع أبويه أحزان رحيل الرسول ( صلّى الله عليه و آله ) و الانقلاب الخطير الذي أقصيَ بموجبه الإمام علي عن الحكم . كان الحسن ( عليه السلام ) شاهداً على تلك الأحداث يمزق قلبه حزن فراق جده ، و الحزن لما أصاب أمه و أباه من ويلات القوم و كأنهم يثأرون من وصي الرسول و بنته ( عليها السلام ) لأجدادهم المشركين و عشائرهم في الجاهلية .
شهد الحسن الهجوم على بيت والديه ، و التنكيل بعلي ( عليه السلام ) و غصب إرث الزهراء . . عاش أجواء المحاصرة لأهل البيت و أنصارهم ، و شهد انقلاب القوم على أعقابهم ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا … ﴾ 6 .
ولم تمض سوى أشهر قليلة حتى توفيت الزهراء ( عليها السلام ) لتكون أول أهل الرسول لحوقاً به كما بشرها النبي على فراش الموت ، مصيبة جديدة تهتز لها الطفولة البريئة و لما تلتئم جراحات فراق رسول الله ( صلّى الله عليه و آله ) ، ضمته الزهراء آخر لحظات حياتها و هي تجود بنفسها و الحسن و الحسين يبكيان فراق أمهما الحبيبة ، يبكيان موتها مظلومة غريبة . و يشارك الحسن أباه و ثلة من أصحابه الخلَّص دفن الزهراء في عتمة الليل عملاً بوصية الزهراء البتول احتجاجاً على الذين ظلموها و غصبوا حقها . . و لا حول و لا قوة إلا بالله العظيم!!
في خلافة أبي بكر يروي المحدثون موقفاً للحسن يعكس بوضوح ما يختزنه الإمام على صغر سنه من رفض و احتجاج : فقد رأى الحسن أبا بكر يخطب من فوق المنبر فيندفع نحوه و هو يقول : « انزل عن منبر أبي فيقول له الخليفة : بأبي أنت يا بن رسول الله لعمري إنه منبر أبيك لا منبر أبي » .
مات الخليفة الأول ولم يتجاوز عمر الحسن عشر سنوات لكنه مع خلافة عمر بن الخطاب بلغ أشده و تخطى سن الطفولة إلى عنفوان الشباب مما يجعلنا ننتظر منه دورا أعظم لكن الحصار المضروب على علي ( عليه السلام ) و آله سيبقى مستمراً . ولم يخض علي ( عليه السلام ) في الحياة السياسية إلا بمقدار الضرورة حيث يتدخّل في الحالات الطارئة التي تشكل خطراً غير عادي على الرسالة و الأمة . هذا الأمر سيجعل الحسن ، حاله حال أبيه على هامش التاريخ الرسمي للخلافة .
و ربما أرجع البعض الأمر إلى الحصار الذي ضربه الخليفة عمر على كبار الصحابة و منعهم من الخروج من المدينة ، و قد كان ألحق الحسن و الحسين و أبا ذر و سلمان بأهل بدر في العطاء ( خمسة آلاف درهم ) . يقول هاشم معروف الحسني : « و من المؤكد أنهما ( أي الحسن و الحسين ) لم يشتركا في المعارك الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب بالرغم من أنها قد بلغت ذروتها في مختلف المناطق و الانتصارات يتلو بعضهما بعضاً و الأموال و الغنائم تتدفق على المدينة من هنا و هناك ولم تظهر بادرة للإمام أبي محمد الحسن طيلة عهد الخليفة الثاني في حين أنه كان في السنين الأخيرة من خلافة ابن الخطاب قد أشرف على العشرين من عمره و هو سن يخوّله الاشتراك في الحروب و الغزوات و لعلّ السبب في ذلك يعود إلى انصراف أمير المؤمنين عن التدخل في شؤون الدولة و الحياة السياسية ، و مما لا شك فيه أن عدم اشتراك الإمام في الحروب و الغزوات لم يكن مرده إلى تقاعس الإمام و حرصه على سلامة نفسه بل كان كما يذهب أكثر الرواة و المؤرخين لان عمر بن الخطاب قد فرض على كثير من أعيان الصحابة ما يشبه الإقامة الجبرية لمصالح سياسية يعود خيرها إليه » 7 .
و تؤكد كتب التاريخ من جهة أخرى مشاركة الحسن في فتح أفريقية بقيادة عبد الله بن نافع و أخيه عقبة في جيش بلغ عشر آلاف مجاهد كما شارك في غزو طبرستان في الجيش الذي جهزه عثمان بقيادة سعيد بن العاص . مع الحسن و عبد الله بن العباس و غيرهم من أجلاء الصحابة .
إزاء عثمان لم يكن للحسن موقف مضاد لموقف أبيه كما تحاول أن توهم بعض الدراسات فالحسن كان رهن إشارة أبيه في محاولاته للإصلاح مهما أمكن و تقريب وجهات النظر بين الثوار و عثمان . و بلغ الإمام علي قصار جهده في الإصلاح لكنه انسحب من الوساطة في الأخير بعد نكول عثمان عن وعوده التي قطعها للثوار و عدم التزامه بما تعهد به عبر وساطة الإمام حتى قال علي ( عليه السلام ) : « والله لقد دافعت عن عثمان حتى خشيت أن أكون آثما » .
و من الحوادث التي تؤكد وحدة الموقف بين الحسن و أبيه توديعه أبي ذر مع أبيه و أخيه الحسين حين نفاه عثمان و امتنع الناس عن توديعه إطاعة لأمر الخليفة و خضوعاً لتهديداته ولم يخرج في وداعه سوى علي و كميل و الحسن و الحسين و عمار .
و وقف مروان بن الحكم يهدد الحسن : « ألا تعلم يا حسن أن الخليفة قد نهى عن وداع أبي ذر و التحدث إليه فإن كنت لا تعلم فاعلم ذلك » و لكن الحسن لم يكترث له و ودع أبا ذر بقول بليغ : « يا عماه لو لا ينبغي للمودع أن يسكت و للمشيع أن ينصرف لقصر الكلام و إن طال الأسف و قد أتى القوم إليك فضع عنك الدنيا بتذكر فراغها و شدة ما اشتد منها برجاء ما بعدها و اصبر حتى تلقى نبيك و يحكم الله بينك و بين القوم بالحق و هو خير الحاكمين » .
المرحلة الثالثة : الإمام الحسن في ظل حكم علي ( عليه السلام )
لم يكن الحسن على خلاف مع أبيه ، بل كان مع علي في كل صغيرة و كبيرة لا يعصى له أمر ، كيف لا و هو الأدرى بإمامته و مكانته و أن « علي مع الحق و الحق مع علي يدور معه حيث دار » .
أما الروايات التي تعلق بها أصحاب هذا الادعاء ، و على رأسهم عميد الأدب العربي فقد روى بعضها البلاذري في الأنساب و الأشراف و هذا يروي عن المدائني المعروف بعدائه لعلي ( عليه السلام ) و آله بسند ينتهي إلى طارق بن شهاب كما رواها ابن أبي الحديد عن طارق بن شهاب أيضاً و رواها الطبري عن سيف ابن عمر الذي أكثر من الرواية عنه في تاريخه 8 . و هو من الضعف بمكان كما هو معروف .
في عهد علي ( عليه السلام ) سعى الحسن كما هو حال الأصحاب الأجلاء من خاصة علي لإنقاذ الخلافة و إصلاح حال الأمة بعدما فعل فيها الانحراف ما فعل . فكان رفيق درب أبيه في كل الحروب و الوقائع : صفين و الجمل و النهروان . . .
ولم يتوقف دوره على القتال بل اعتمد عليه أمير المؤمنين في مهمات أخرى مثل المهمة التي أوكله إياها الإمام علي باستنفار أهل الكوفة للقتال معه في حرب البصرة فسار الحسن ( عليه السلام ) مع عمار بن ياسر و زيد بن حومان و قيس بن سعد و خطب الحسن في الناس و استنفرهم للخروج و كان أبو موسى يثبّط عزائم الناس و يدعو هم لعدم الخروج مدعيا انه سمع رسول الله ( صلّى الله عليه و آله ) يقول : ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم و النائم خير من القاعد فرد عليه عمار بن ياسر و قال : إذا صح! أنك سمعت رسول الله يقول ذلك فقد عناك وحدك فالزم بيتك أما أنا فاشهد الله أن رسول الله قد أمر علياً بقتال الناكثين و سمي لي منهم جماعة و أمره بقتال القاسطين و إن شئت لأقيمن لك شهوداً أن رسول الله ( صلّى الله عليه و آله ) قد نهاك وحدك و حذرك من دخول الفتنة .
و أمر الحسن أبا موسى الأشعري بالتنحي قائلاً : « اعتزل عملنا لا أم لك و تنح عن منبرنا » و دخل مالك الأشتر القصر و أخرج الحرس منه ، و خرج أبو موسى من المسجد و استجاب الناس للحسن و خرج معه للبصرة اثنا عشر ألفاً .
فالحسن كان حاضراً في كل مواقع القتال و إن كان علي يضنّ به و بأخيه الحسين فقد جاء في نهج البلاغة حين رأى الحسن يندفع في المعركة « املكوا عني هذا الغلام لا يهدني فإنني أنفس بهذين ( يعني الحسن و الحسين ) على الموت لئلا ينقطع بهما نسل رسول الله ( صلّى الله عليه و آله ) » 9 .
و تؤكد المصادر الموثوقة أن الحسن بقي إلى جانب والده إلى آخر لحظة و كان يعاني ما يعانيه أبوه من أهل العراق و يتألم لآلامه و متاعبه و هو يرى معاوية يبث دعاته في أنحاء العراق و يغوي السادة و الزعماء بالأموال و المناصب حتى فرق أكثرهم عنه و أصبح أمير المؤمنين يتمنى فراقهم بالموت أو بالقتل ثم يبكي و يقبض لحيته و يقول متى ينبعث أشقاها فيخضب هذه من هذا 10 .
و ينبعث أشقاها فجر التاسع عشر من شهر رمضان ليغتال علياً و هو في أوج الاستعداد لقتال أهل الشام . .
و استشهد الإمام في الحادي والعشرين من رمضان سنة 41هـ ، و قبل وفاته يوصي لابنه الحسن ( عليه السلام ) :
عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال أوصى أمير المؤمنين إلى الحسن و أشهد على وصيته الحسين و محمدا و جميع ولده و رؤساء شيعته و أهل بيته ثم دفع إليه الكتب و السلاح ثم قال لابنه الحسن :
« يا بني أمرني رسول الله أن أوصي إليك و أن أدفع إليك كتبي و سلاحي كما أوصى إلي رسول الله و دفع إليّ كتبه و سلاحه و آمرني أن أمرك إذا حضرك الموت أن تدفعه إلى أخيك الحسين . .
ثم أقبل على ابنه الحسن فقال : يا بني أنت وليّ الأمر و وليّ الدم فإن عفوت فلك و إن قتلت فضربة مكان ضربة و لا تأثم » 11 .
المرحلة الرابعة : من استشهاد أمير المؤمنين إلى عقد الصلح
اجتمع الناس في مسجد الكوفة ينتظرون تأبين الفقيد الغالي علي ( عليه السلام ) ، فقام الحسن ( عليه السلام ) خطيباً : « قد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون و لا يدركه الآخرون بعمل لقد كان يجاهد مع رسول الله ( صلّى الله عليه و آله ) فيسبقه بنفسه و لقد كان يوجهه برايته فيكنفه جبرائيل عن يمينه و ميكائيل عن يساره فلا يرجع حتى يفتح الله عليه و لقد توفي في الليلة التي عرج فيها عيسى بن مريم و التي توفي فيها يوشع بن نون و ما خلف صفراء و لا بيضاء إلا سبعمائة درهم من عطائه أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله ثم خنقته العبرة فبكى و بكى الناس معه قال أيها الناس من عرفني فقد عرفني و من لم يعرفني فأنا الحسن بن محمد ( صلّى الله عليه و آله ) أنا ابن البشير النذير أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه و السراج المنير أنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا و الذين افترض الله مودتهم في كتابه إذ يقول : ﴿ … وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا … ﴾ 12 فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت » 13 .
ثم قام عبيد الله بن العباس بحذاء المنبر في المسجد الجامع و قال بصوته المدوي : « معاشر الناس هذا ابن نبيكم و وصي إمامكم فبايعوه يهدي به الله من اتبع الرضوان سبل السلام و يخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه و يهديهم إلى صراط مستقيم » .
و جاء في الكامل في التاريخ أن أول من بايعه هو قيس بن سعد الأنصاري و قال له : « مدّ يدك على كتاب الله و سنة نبيه و قتال المحلّين فقال الحسن على كتاب الله و سنة رسوله فإنهما يأتيان على كل شرط فبايعه الناس و كان الحسن يشترط عليهم أنكم مطيعون تسالمون من سالمت و تحاربون من حاربت » 14 .
إلى جانب الكوفة بايعت البصرة و المدائن و سائر العراق وبايعه الحجاز و اليمن و فارس ولم يتخلف عن البيعة سوى معاوية و من والاه .
و شرع الحسن في تنظيم أمور الدولة و اتخذ جملة من الإجراءات أهمها : تعيين الولاة و بادر إلى زيادة أفراد الجيش في عطائهم إدراكا منه لما أصاب هذا الجيش من جراحات بعد الحروب العديدة التي خاضها مع الناكثين و المارقين و القاسطين .
و أرسل كتاباً إلى معاوية يدعوه فيه للدخول فيما دخل فيه الناس و إن يدع البغي و يحقن دماء المسلمين و يهدده إن هو أبى بالقتال :
« و اتق الله و دع البغي و احقن دماء المسلمين فو الله مالك خير في أن تلقى الله من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه و ادخل في السلم و الطاعة و لا تنازع الأمر أهله و من هو أحق ليطفئ الله الثائرة بذلك و يجمع الكلمة و يصلح ذات البين . و إن أنت أبيت إلاّ التمادي في غيك سرت إليك بالمسلمين و حاكمتك حتى يحكم الله بيننا و هو خير الحاكمين » 15 .
و ردّ معاوية بردٍّ يعبق علواً و استكباراً رافضاً عروض الحسن بالدخول في البيعة مدّعياً أنه أولى بالخلافة :
« قد علمت أني أطول منك ولاية و أقدم منك لهذه الأمة تجربة و أكثر منك سياسة و أكبر منك فادخل في طاعتي و لك الأمر من بعدي و لك ما في بيت مال العراق من مال بالغاً ما بلغ . . ( إلى أن يقول : ) و الحال بيني و بينك اليوم مثل الحال الذي كنتم عليها أنتم و أبو بكر بعد وفاة النبي ( صلّى الله عليه و آله ) فلو علمت أنك أضبط مني للرعية و أحوط على هذه الأمة و أحسن سياسة و أقوى على جمع الأموال و أكيد للعدو لأجبتك إلى ما دعوتني إليه و رأيتك لذلك أهلا » 16 .
و أرسل معاوية في الآفاق يجمع قواه و يستنفر الجنود ، و ما فتئ يراسل الحسن مرغباً تارة بما يريد من الخراج و أن يكون الأمر له من بعده و مُهدِّداً طوراً آخر بأن يقتل على يد رعاع الناس . .
ولم يغيّر الحسن ( عليه السلام ) موقفه البتة وبقي ثابتاً على خياره ، و كتب له ردّاً يتعالى فيه عن الخوض في التفاصيل قائلاً :
« تركت جوابك خشية البغي عليك و بالله أعوذ من ذلك فاتبع الحق تعلم أني من أهله و عليّ إثم أن أقول فأكذب و السلام » .
و أدرك معاوية أن الحسن مصمم على محاربته فسار نحو العراق ، و بلغ الحسن سير معاوية و أنه وصل جسر منبج فأمر الناس و العمال بالتهيؤ و نادى مناديه في الكوفة يدعوهم للتجمع في المسجد و خطب فيهم الحسن ( عليه السلام ) :
« . . أما بعد فإن الله كتب الجهاد على خلقه و سماه كرهاً ثم قال لأهل الجهاد من المؤمنين : اصبروا إن الله مع الصابرين . . فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون . بلغني إن معاوية بلغه أنا أزمعنا على المسير إليه فتحرك لذلك ، أُخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم بالنخيلة حتى ننظر و تنظروا و نرى و تروا » 17 .
و لكن الناس سكتوا و ما تكلم منهم أحد!! فقام أصحاب الإمام عدي بن حاتم و سعد بن عبادة ، و معقل بن قيس الرياحي و زياد بن صعصعة فأنّبوا الناس على سكوتهم و حرضوهم على الخروج ، و سار الحسن و خرج الناس معه إلى أن بلغوا دير عبد الرحمن ، فأقام به ثلاثاً حتى تجمّع الناس .
و في دير عبد الرحمن انقسم جيش الحسن إلى قسمين حيث أرسل الإمام عبيد الله بن العباس ليلقى معاوية في مسكن و قال له :
« يا بن عم إني باعث إليك اثني عشر ألفاً من فرسان العرب و قراء المصر ، الرجل منهم يزيد الكتيبة فَسِر بهم و ليّن لهم جانبك و سر بهم على شط الفرات حتى تقطع بهم الفرات ثم تصير إلى مسكن ثم امض حتى تستقبل بهم معاوية فإن أنت لقيته فاحبسه حتى آتيك فإني على أثرك و شيك . . و ليكن خبرك عندي كل يوم . . و إذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك فإن فعل فقاتله و ان أُصبت فقيس بن سعد على الناس و إن أُصيب قيس بن سعد فسعيد بن قيس على الناس » 18 .
و سار عبيد الله حتى أتى مسكن ( اسم مكان على نهر دجيل ) و سار الحسن حتى نزل ساباط ( اسم مكان قرب المدائن ) .
و هنا انطلقت مؤامرات معاوية ببث الدعايات و الدعايات المضادة بين شقّي جيش الحسن ؛ و استطاع أن يستميل عبيد الله بن العباس بعد أن بث دعاية في العسكر أن الحسن يكاتب معاوية على الصلح فلما تقتلون أنفسكم؟
لقد انطلت الحيلة على عبيد الله بن العباس الذي أعزاه معاوية بقوله : « إن الحسن راسلني في الصلح و هو مسلم الأمر إليّ فإن دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعاً و إلا دخلت و أنت تابع و لكن إن أجبتني الآن أنا أعطيك ألف ألف درهم أُعجّل لك في هذا الوقت نصفها و إذا دخلتُ الكوفة النصف الآخر » .
و انسلّ عبيد الله بن العباس إلى جيش معاوية و معه بضعة آلاف من جيش الحسن و أصبح الناس ينتظروه للصلاة فلم يجدوه فصلى بهم قيس بن سعد بن عبادة ثم خطب فيهم فثبّتهم و ذكر عبيد الله فنال منه ثم أمرهم بالصبر و النهوض إلى العدو فأجابوه . . و خرج بسر بن أرطأة فصاح يا أهل العراق ويحكم هذا أميركم عندنا قد بايع و إمامكم الحسن قد صالح فعلام تقاتلون أنفسكم فقال لهم قيس بن سعد : اختاروا إما أن تقاتلوا بلا إمام أو تبايعوا بيعة ضلال . فقالوا بل نقاتل بلا إمام . و حاول معاوية استمالة قيس بكل وسيلة فكتب إليه قيس : « والله لا تلقاني أبداً إلا بيني و بينك الرمح » .
ولم تتوقف حدود المؤامرة على جيش مسكن فقد تآمر معاوية على النصف الآخر من الجيش حيث أرسل مبعوثين إلى الحسن حملوا إليه كتب بعض أعيان الكوفة ممن كاتبوا معاوية يطالبونه الأمان و يعدونه تسليم الحسن إليه و كان من مهمة هذا الوفد ترويج دعاية مفادها أن الحسن سيصالح معاوية فاضطرب المعسكر و زاد اضطراباً مع وصول أنباء مسكن فنادى الحسن الصلاة جامعة و خطب في الناس قائلاً :
« أما بعد فو الله أني لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله و منّه و أنا أنصح خلقه لخلقه و ما أصبحت محتملاً على مسلم ضغينة و لا مريد له بسوء و لا غائلة . ألا و إن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة ألا و إني ناظر لكم خير من نظركم لأنفسكم فلا تخالفوا أمري و لا تردوا علي رأي غفر الله لي و لكم و أرشدني لما فيه محبته و رضاه إن شاء الله » 19 .
فنظر الناس بعضهم لبعض ، و قالوا ما نراه إلا يريد الصلح مع معاوية كفر الرجل! و شدوا على فسطاطه و انتهبوه و أخذوا مصلاه من تحته و هموا بقتله لكن خاصة من أنصار الإمام أحاطوا به ، و ركب فرسه و لما بلغ مظلم ساباط قام رجل و قال : « يا حسن أشرك أبوك ثم أشركت أنت » و طعنه بالمعول فوقعت في فخذه . و حُمل الإمام إلى المدائن على سرير و بها سعيد بن مسعود الثقفي واليا عليها من قبله و قد كان علياً ولاه على المدائن فأمّره الحسن عليها ، فأقام عنده يعالج نفسه .
و ازدادت بصيرة الحسن ( عليه السلام ) بخذلان القوم و فساد نيات المحكّمة فيه لما أظهروه من السب و التكفير له و استحلال دمه و نهب أمواله ولم يبق معه من يأمن غوائله إلا خاصة من شيعة أبيه و كتب إليه معاوية في الهدنة و الصلح و أنفذ إليه بكتب أصحابه الذين ضمنوا له فيها الفتك به و تسليمه إليه . . فاشترط له على نفسه في إجابته إلى صلحه شروط كثيرة و عقد له عقوداً كان في الوفاء بها مصالح شاملة فلم يثق الحسن بامتثاله غير أنه لم يجد بدا من إجابته إلى ما التمس من ترك الحرب و إنفاذ الهدنة 20 .
و لما عزم الحسن على الصلح قام فخطب الناس فحمد الله و أثنى عليه و قال :
« إنا والله ما يثنينا شك في أهل الشام و لا ندم و إنما كنا نقاتل أهل الشام بالسلامة و الصبر فشيبت السلامة بالعداوة و الصبر بالجزع و كنتم في مسيركم إلى صفين و دينكم أمام دنياكم و أصبحتم اليوم و دنياكم أمام دينكم ألا و قد أصبحتم بين قتيلين قتيل بصفين تبكون له و قتيل بالنهروان تطلبون ثأره و أما الباقي فخاذل و أما الباكي فثائر ألا و إن معاوية دعانا لأمر ليس فيه عز و لا نصفة فإن أردتم الموت رددناه عليه و حاكمناه إلى الله عز و جل بظبي السيوف و إن أردتم الحياة قبلناه و أخذنا لكم الرضى » .
فناداه الناس من كل جانب البُقيَة ! البُقيَة . . 21
هكذا اختار ما تبقى من الجيش الحياة . . و رضوا بالصلح . . و سيأتي في الفصل اللاحق تفصيل عنه . .
المرحلة الخامسة : من العودة إلى المدينة إلى الاستشهاد
لم يبق الحسن ( عليه السلام ) طويلاً في الكوفة بعد عقد الصلح و غادر نحو المدينة مع الحسين و أهل بيته . و جعل الناس يبكون و يسألونه ما حملك على ما فعلت ؟ فيقول : « كرهت الدنيا و رأيت أهل الكوفة قوماً لا يثق بهم أحد أبداً إلا غلب ، ليس أحد منهم يوافق آخر في رأي و لا هوى ، مختلفين لا نية لهم في خير و لا شر لقد لقي أبي منهم أموراً عظاماً فليت شعري لمن يصلحون بعدي » 22 .
و قبل أن يتجاوز موكب الحسن ( عليه السلام ) الكوفة كثيراً أرسل إليه معاوية أن ارجع لتقاتل طائفة من الخوارج أعلنوا العصيان و التمرّد في جوارها فأبى أن يرجع و كتب إلى معاوية « لو آثرت أن أقاتل أحداً من أهل القبلة لبدأت بقتالك قبل أي أحد من الناس » 23 .
و استقرّ الإمام الحسن بالمدينة و دامت هذه الفترة من سنة ( 41 هـ ) عام الصلح إلى سنة ( 51 هـ ) سنة استشهاده .
و تفرغ الإمام في هذه المرحلة لنشر الإسلام و خدمة دين الله و تعليم أحكامه و تعاليمه . فعن السيوطي في تدريب الراوي أنه « كان بين السلف من الصحابة و التابعين اختلاف كثير في كتابة العلم فكرهها كثير منهم و أباحها طائفة و فعلوها منهم علي و ابنه الحسن » 24 .
و بفضل جهوده المباركة قامت مدرسة علمية بالمدينة : ذكر المؤرخون بعض أعلامها : و منهم ابنه الحسن المثنى و المسيب بن نخبة ، سويد بن غفلة و العلاء ابن عبد الرحمن و الشعبي و هبيرة بن بركم و الأصبغ بن نباتة و جابر بن خلد و أبو الجوزا و عيسى بن مأمون بن زرارة و نفالة بن المأموم و أبو يحيى عمير بن سعيد النخعي و أبو مريم قيس الثقفي و طحرب العجلي و إسحاق بن يسار والد محمد بن إسحاق و عبد الرحمن بن عوف و عمرو بن قيس 25 .
و قد أصبحت يثرب بفضل هؤلاء عاصمة العلم و الدين والأدب و أصبح الإمام الحسن ملاذ الباحثين و الدارسين . ففي تحف العقول ، كتاب من الحسن البصري يسأل الإمام عن اختلافهم في القدر و حيرتهم في الاستطاعة و عقب قائلاً :
« فأخبرنا بالذي عليه رأيك و رأي آبائك ( عليهم السلام ) فإن من علم الله علمكم و أنتم شهداء على الناس و الله الشاهد عليكم ذرية بعضها من بعض و الله سميع عليم » .
فأجاب الحسن ( عليه السلام ) :
« بسم الله الرحمن الرحيم وصل إليّ كتابك و لو لا ما ذكرته من حيرتك و حيرة من مضى قبلك إذا ما أخبرتكم ، أما بعد فمن لم يؤمن بالقدر خيره و شره إن الله يعلمه فقد كفر و من أحال المعاصي على الله فقد فجر . إن الله لم يطع مكرهاً ولم يعص مغلوباً ولم يهمل العباد سدى من المملكة بل هو المالك لما ملّكهم و القادر على ما عليه أقدرهم بل أمرهم تخييرا و نهاهم تحذيرا فإن ائتمروا بالطاعة لم يجدوا عنها صاداً و إن انتهوا إلى معصية فشاء أن يمن عليهم بأن يحول بينهم و بينها فعل و إن لم يفعل فليس هو الذي حملهم عليها جبراً و لا ألزموها كرهاً بل منّ عليهم بأن بصّرهم و عرّفهم و حذّرهم و أمرهم و نهاهم لا جبراً لهم على ما أمرهم به فيكون كالملائكة و لا جبراً لهم على ما نهاهم عنه و لله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين و السلام على من اتبع الهدى » 26 .
هذا إشعاع الحسن العلمي ، و أما الإشعاع الآخر فهو الخلق الرفيع و الآداب المعنوية التي بثها الإمام بين الناس فهيمن على القلوب و فرض احتراماً و إجلالاً على الجميع ، فقد تحدثت كتب الروايات عن قصص تواضعه و إجارته للفارين من بطش معاوية و عماله .
و كان إذا صلى الغداة في مسجد النبي ( صلّى الله عليه و آله ) جلس في مصلاه يذكر الله حتى ترتفع الشمس فيجلس إليه سادة الناس يسألون عن أمور دينهم و يتحدثون بين يديه ، و كان إذا توضأ تغير لونه ، و إذا ذكر الموت أو البعث أو الصراط يبكي حتى يغشى عليه و إذا ذكر الجنة و النار اضطرب اضطراب السليم و سأل الله الجنة و تعوذ من النار . . و قد قاسم الله ماله ثلاث مرات و خرج منه كله مرتين و حج خمساً و عشرين حجة و أن النجائب لتقاد بين يديه و هو ماش على قدميه يقول : « أستحي من ربي أن ألقاه ولم أمش إلى بيته » .
و إذا رآه الناس ترجلوا احتراماً له و إكراماً ، فإذا أعياهم المشي جاء بعضهم إلى الإمام و طلبوا منه أن يركب أو أن يبتعد عن الطريق لأن الناس لا تجرؤ على الركوب و الإمام يسير فينحرف الإمام بمن معه عن جادة الطريق ليركب الناس رواحلهم .
و في الواقع ، المصادر التاريخية لا تسعفنا بكثير من المعلومات عن الحسن في هذه المرحلة أيضاً ، و لكن هناك حدثان لا بد من الإشارة إليهما لقوّة دلالتهما و هما :
الحدث الأول
رفضه ( عليه السلام ) مصاهرة معاوية ، فقد أرسل معاوية إلى عامله في المدينة مروان بن الحكم ليخطب زينب بنت عبد الله بن جعفر لابنه يزيد فأجابه عبد الله إن أمر نساءنا بيد الحسن بن علي فاخطب منه .
فأقبل مروان إلى الإمام فخطب منه ابنة عبد الله فقال ( عليه السلام ) :
اجمع من أردت فجمع مروان الهاشميين و الأمويين في صعيد واحد و خطب فيهم أن أمير المؤمنين معاوية أمرني أن أخطب زينب بنت عبد الله بن جعفر ليزيد ابن معاوية على حكم أبيها في الصداق و قضاء دينه بالغاً ما بلغ .
فقام الإمام الحسن : و نقض كلام مروان . . و قال : « و قد رأينا أن نزوج زينب من ابن عمها القاسم محمد بن جعفر و قد زوجتها منه و جعلت مهرها ضيعتي التي لي بالمدينة » .
ولما بلغ معاوية ذلك قال :
خطبنا إليهم فلم يفعلوا *** و لو خطبوا إلينا لما رددناهم 27
الحدث الثاني
قدوم وفد من الكوفة للإمام يطلبون منه نقض العهد بعد أن أخلّ معاوية بشروطها و الرجوع إلى الحرب و لكن الحسن ( عليه السلام ) ردهم رداً جميلاً موضحاً لهم الاستراتيجية الجديدة التي اعتمد عليها : التريث ما دام معاوية حياً ، و قال لهم : ليكن كل رجل منكم حلساً من أحلاس بيته ما دام معاوية حيا فإن يهلك معاوية و نحن و أنتم أحياء سألنا الله العزيمة على رشدنا و المعونة على أمرنا و ان لا يكلنا إلى أنفسنا فإن الله مع الذين اتقوا و الذين هم محسنون 28 .
و ضاق معاوية ذرعاً بالحسن ( عليه السلام ) الذي يزداد نفوذه الروحي و العلمي يوما بعد آخر في المدينة و في أنحاء العالم الإسلامي . و أحس أن الحسن قد ورطه في هذه الشروط التي طفق ينقضها واحدا بعد آخر و يفضح نفسه أكثر فأكثر . . و قَدَّر أن خطته بتوريث الملك لابنه يزيد لن تمرّ و الحسن موجود فقرّر اغتيال الإمام ، فأوكل معاوية تنفيذ المهمة إلى إحدى زوجات الحسن ( عليه السلام ) و هي جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي التي سقته السم و قد كان معاوية دس إليها أنك إن احتلت في قتل الحسن وجهت إليك بمائة ألف درهم و زوجتك يزيد فكان ذلك الذي بعثها على سمّه فلما مات وفى لها معاوية بالمال و أرسل إليها إنا نحب حياة يزيد لو لا ذلك لوفينا لك تزويجه 29 .
و لما أحس الحسن ( عليه السلام ) ما أصابه و أدرك قرب منيته قال للحسين : « لقد سقيت السم مراراً ما سممت مثل هذه المرة لقد لفظت قطعة من كبدي فجعلت أقلبها بعود معي فقال الحسين : من سقاك؟ فقال أتريد أن تقتله إن يكن هو فالله أشد نقمة منك و إن لم يكن هو فما أحب أن يؤخذ بي بريء » 30 .
و أوصى الحسن حسيناً ؛ و مما جاء في وصيته :
« فإني أوصيك يا حسين بمن خلفت من أهلي و ولدي و أهل بيتك أن تصفح عن مسيئهم و تقبل من محسنهم و تكون لهم خلفاً و والدا و أن تدفنني مع رسول الله ( صلّى الله عليه و آله ) فإني أحق به و ببيته فإن أبوا عليك فأنشدك الله و بالقرابة التي قرب الله منك و الرحم الماسة من رسول الله ( صلّى الله عليه و آله ) ألا يهراق من أمري محجمة من دم حتى تلقى رسول الله فتخصمهم و تخبره لما كان من أمر الناس إلينا » 31 .
و كان تجهيز الحسن و تشييعه في موكب لم تعهد المدينة له مثيلاً حيث تداعى الناس من كل حدب و صوب يودعون ابن رسول الله ( صلّى الله عليه و آله ) حتى قيل إنه لو طرحت إبرة في البقيع حيث دفن الحسن أخيراً لما وقعت إلا على رأس إنسان لشدة الزحام .
و لما همّ الحسين أن يدفن أخاه الحسن كما أوصاه عند جده مُنع من ذلك ، و قيل إن عائشة هي التي بادرت بالمنع ، و تقول مصادر أخرى إن مروان بن الحكم جمع بني أمية و هم بدورهم استنفروا عائشة ، و جاء في شرح النهج : إن عائشة يومذاك ركبت بغلاً و استنفرت مروان بن الحكم و بنو أمية . . و ذلك قول القائل « فيوماً على بغل و يوماً على جمل » .
و قول ابن أخيها القاسم بن محمد : « يا عمة ما غسلنا رؤوسنا من يوم الجمل الأحمر أتريدين أن يقال يوم البغلة الشهباء » 32 .
- 1. ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة ، مؤسسة الأعلمي ط 1 : 16 / 210 .
- 2. م . س : 211 .
- 3. القران الكريم : سورة النور ( 24 ) ، الآية : 36 ، الصفحة : 354 .
- 4. القران الكريم : سورة الأحزاب ( 33 ) ، الآية : 33 ، الصفحة : 422 .
- 5. ابن أبي الحديد شرح النهج : 16 / 211 .
- 6. القران الكريم : سورة آل عمران ( 3 ) ، الآية : 144 ، الصفحة : 68 .
- 7. هاشم معروف الحسني : سيرة الأئمة الاثني عشر : 1 / 534 .
- 8. هاشم معروف الحسني : مصدر سابق : 542 .
- 9. نهج البلاغة : الخطبة 207 من خطب أمير المؤمنين .
- 10. هاشم معروف الحسني : مصدر سابق : 552 .
- 11. الكليني : أصول الكافي ، كتاب الحجة باب الإشارة و النص على الحسن الحديث رقم 5 .
- 12. القران الكريم : سورة الشورى ( 42 ) ، الآية : 23 ، الصفحة : 486 .
- 13. ابن أبي الحديد : شرح النهج : 16 / 224 .
- 14. ابن الأثير : الكامل في التاريخ : 3 / 742 .
- 15. ابن أبي الحديد : شرح النهج : 16 / 227 .
- 16. م س ص 228 .
- 17. م ن : 229 .
- 18. شرح ابن أبي الحديد : مصدر سابق : 230 .
- 19. ابن أبي الحديد : شرح النهج : 16 / 231 .
- 20. المفيد : الإرشاد ، الأعلمي ط 3 1989 : 190 .
- 21. ابن الأثير : الكامل : 3 / 406 .
- 22. ابن الأثير : الكامل : 3 / 407 .
- 23. م ن ص : 308 .
- 24. محسن الأمين : أعيان الشيعة ، دار التعارف 1976 : 1 / 577 .
- 25. باقر شريف القرشي : حياة الإمام الحسن ، دار البلاغة : 280 ( نقلا عن تاريخ ابن عساكر ) .
- 26. البحراني : تحف العقول ، مؤسسة الأعلمي : 166 .
- 27. باقر شريف القرشي : حياة الإمام الحسن ، : 288 .
- 28. راض آل ياسين : صلح الحسن : 302 .
- 29. المسعودي : مروج الذهب : 3 / 5 .
- 30. ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة : 16 / 236 .
- 31. محسن الأمين : أعيان الشيعة : 1 / 585 .
- 32. كتاب صلح الإمام الحسن من منظور آخر للكاتب الاستاذ أسعد بن علي : الفصل الأول .