وثمة خلاف بين المؤرخين في من ؟ ومتى ؟ وكيفية إسلام أول دفعة من أهل المدينة .
ولكننا نستطيع أن نؤكد على أن الإسلام قد دخل المدينة على مراحل . فأسلم أولاً : أسعد بن زرارة وذكوان بن عبد القيس ، حينما كان المسلمون محصورين في الشعب ، ثم أسلم خمسة ، أو ثمانية ، أو ستة نفر بعد ذلك ، ثم كانت بيعة العقبة الأولى ، ثم كانت بيعة العقبة الثانية ، وهذا هو ما يظهر من مغلطاي 1 وغيره .
ولذلك فهم يقولون : إن أسعد بن زرارة ، وذكوان بن عبد القيس الخزرجيين قدما مكة في أحد المواسم ، حينما كانت قريش تحاصر الهاشميين في الشعب (شعب أبي طالب) ، بهدف طلب الحلف من عتبة بن ربيعة على الأوس .
فرفض عتبة ذلك ، وقال : بعدت دارنا عن داركم ، ولنا شغل لا نتفرغ لشيء .
فسأله عن هذا الشغل ؛ فأخبره بخروج النبي «صلى الله عليه وآله» فيهم ، وأنه أفسد شبابهم ، وفرق جماعتهم ثم حذره من الاتصال به ، فإنه ساحر يسحره بكلامه .
وأمره إذا أراد الطواف أن يضع القطن في أذنيه ، حتى لا يسمع ما يقوله النبي «صلى الله عليه وآله» ، الذي كان آنئذٍ يجلس في الحجر مع طائفة من بني هاشم .
وكانوا قد خرجوا من شعبهم ليشهدوا الموسم ، وجاء أسعد للطواف ، ورأى النبي «صلى الله عليه وآله» جالساً في الحجر ، فقال في نفسه : ما أجد أجهل مني ، أن يكون هذا الحديث في مكة فلا أتعرفه ، حتى أرجع إلى قومي فأخبرهم ، ثم أخذ القطن من أذنيه فرمى به ، وجاء إلى النبي «صلى الله عليه وآله» ، فسلم عليه ، وكلمه ؛ فعرض عليه «صلى الله عليه وآله» ما جاء به فأسلم ، وأسلم بعده ذكوان .
وفي رواية : أنه لما التقى النبي «صلى الله عليه وآله» بأسعد بن زرارة وذكوان ، قال أسعد للنبي «صلى الله عليه وآله» : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، أنا من أهل يثرب ، من الخزرج ، وبيننا وبين أخوتنا من الأوس حبال مقطوعة ، فإن وصلها الله بك ، ولا أجد أعز منك ، ومعي رجل من قومي ، فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتمم الله لنا أمرنا فيك .
والله يا رسول الله ، لقد كنا نسمع من اليهود خبرك ، ويبشروننا بمخرجك ، ويخبروننا بصفتك ، وأرجو أن يكون دارنا دار هجرتك عندنا ، فقد أعلمنا اليهود ذلك ؛ فالحمد لله الذي ساقني إليك ، والله ما جئت إلا لنطلب الحلف على قومنا ، وقد آتانا الله بأفضل مما أتيت له .
ثم أقبل ذكوان ، فقال له أسعد : هذا رسول الله الذي كانت اليهود تبشرنا به ، وتخبرنا بصفته ؛ فهلم فأسلم ؛ فأسلم ذكوان إلخ 2 .
ثم في سنة إحدى عشرة من النبوة خرج النبي «صلى الله عليه وآله» في الموسم ، يعرض على القبائل دعوته ، ويطلب منهم نصرته ؛ فالتقى على العقبة برهط من الخزرج ؛ فدعاهم إلى الله والإسلام ، وقرأ عليهم القرآن فآمنوا به ، وكانوا ستة نفر ، وهم : أسعد بن زرارة ، وجابر بن عبد الله بن رئاب ، وعوف بن الحارث ورافع بن مالك ، وعقبة وقطبة ابنا عامر .
وقيل : ثمانية نفر وقيل غير ذلك (وثمة اختلاف في أسمائهم ، وذكر أشخاص آخرون مكان بعض من قدمنا أسماءهم ، ولا مجال لتحقيق ذلك) .
ورجع أولئك النفر إلى قومهم في المدينة ، فذكروا لهم رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، ودعوهم إلى الإسلام .
ثم كانت بيعة العقبة الأولى في سنة اثنتي عشرة من البعثة أي قبل الهجرة بسنة 2 .
ولعل أسعد بن زرارة كان قد كتم إسلامه هو وذكوان ، حتى كان لقاء هؤلاء الستة أو الثمانية معه «صلى الله عليه وآله» قبل الهجرة بسنة فاعلنوا ذلك ونحن قبل أن نمضي في الحديث نشير إلى ما يلي :
1 ـ إخبارات أهل الكتاب
يفهم مما تقدم : أن أهل المدينة كانوا يسمعون من اليهود خبر ظهور النبي عن قريب ، وأن ذلك قد جعلهم مهيئين نفسياً لقبول الدين الذي جاء به هذا النبي «صلى الله عليه وآله» .
2 ـ المشاكل بين الأوس والخزرج
لقد كانت ثمة حروب هائلة بين الأوس والخزرج ، كانت آخرها وقعة بعاث التي انتصرت فيها قبيلة الأوس ، حينما كان الهاشميون والنبي «صلى الله عليه وآله» محصورين في شعب أبي طالب .
وكانت الحالة بين القبيلتين صعبة للغاية ، حتى ليذكرون : أنهم ما كانوا يضعون السلاح لا في الليل ولا في النهار 3 مما يعني أنهم يعانون من أقسى الحالات التي يمكن أن يواجهها من يملك إمكانات معيشية محدودة مثلهم .
وحتى لقد كان واضحاً : أنهم كانوا يتطلعون بشوق إلى الخروج من هذه الحالة المأساة .
ويأملون في وصل الحبال المقطوعة فيما بينهم ، كما عبر عنه أسعد بن زرارة ، الذي كان يعمل من أجل عقد حلف مع عتبة بن ربيعة ضد الأوس .
فأهل المدينة إذاً قد ذاقوا مرارة الانحراف والظلم ، وهم يريدون المنقذ الحقيقي لهم ، وقد وجدوه في نبي الإسلام الأعظم «صلى الله عليه وآله» الذي جاءهم بتعاليم الشريعة السهلة السمحاء .
ولذلك فقد قالوا لرسول الله «صلى الله عليه وآله» : «نرجع إلى قومنا ، ونخبرهم بالذي كلمتنا به ، فما أرغبنا فيك .
إنا قد تركنا قومنا على خلاف فيما بينهم ، لا نعلم حياً من العرب بينهم من العداوة ما بينهم ، وسنرجع إليهم بالذي سمعنا منك ، لعل الله يقبل بقلوبهم ، ويصلح بك ذات بينهم ، ويؤلف بين قلوبهم» 4 .
3 ـ تعاليم الشريعة السمحاء
إن تعاليم الإسلام لهي التعاليم الموافقة للفطرة السليمة ، وبلا تعقيد أو إبهام فيها ، فهي بسيطة وسهلة ، لا يحتاج إدراك حقانيتها إلى تفكير عميق ، أو إجهاد في فهم مراميها ، والتكهن بنتائجها .
ولذلك نجد أهل المدينة يدركون بسرعة قدرة هذه الدعوة على حل مشاكلهم ، فيسارعون إلى قبولها ، بمجرد سماعهم لأهدافها ، ومبادئها .
ومن الواضح : أن أهل المدينة كانوا لا يعانون من ظروف أهل مكة ، الذين يحاربون الإسلام لأنهم رأوا فيه خطراً على مصالحهم الشخصية ، وامتيازاتهم الظالمة التي فرضوها لأنفسهم ، وأهوائهم وانحرافاتهم ، كما أوضحناه في غير موضع .
إن أهل المدينة بالإضافة إلى إخبارات اليهود لهم ، قد رأوا منذ اللحظات الأولى في الإسلام وتعاليمه المنقذ لهم ، والمخرج من الظلمات إلى النور ، ومن الموت إلى الحياة ، ورأوا فيه الموافقة للفطرة والعقل السليم ، سواء على صعيد العقائد أو التشريع ، أو على صعيد اتخاذ القرار الاجتماعي والسياسي ، فقد سألوا النبي «صلى الله عليه وآله» عما يدعو إليه ، فقال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، وأدعوكم إلى : ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ 5 .
ولأجل ذلك اعتقدوا بهذه الدعوة ، وحاربوا قريشاً والعرب من أجلها وفي سبيلها .
4 ـ المدنيون والمكيون
إن الوثنية التي كان أهل المدينة يدينون بها لم تستطع أن تحل مشاكلهم الداخلية ، على اختلافها ، ولا حتى أن تخفف من حدتها .
كما أنها لم تكن تجلب لهم امتيازات اجتماعية ، ولا اقتصادية ولا غيرها ، ولذلك فقد ضعفت ووهنت ، وزاد في ضعفها ووهنها مخالفتها للفطرة السليمة ، والعقل القويم .
ثم جاءت إخبارات اليهود لهم بقرب ظهور نبي يخبر عن الله لتزيد من ذلك الضعف والوهن إلى حد بعيد .
وهذا تماماً على عكس الحال في مشركي مكة ؛ فإنهم كانوا يستفيدون من وثنيتهم اجتماعياً واقتصادياً .
وجعلوا من أنفسهم محوراً تلتقي عليه سائر الفئات والقبائل في المنطقة ، وكرسوا لأنفسهم الكثير من الامتيازات الظالمة ، ولم يكونوا على استعداد للتخلي عن هذه الامتيازات من أجل خدمة الحق والإنسان ، بل كانوا يضحون بالإنسان والحق في سبيل امتيازاتهم ، وانحرافاتهم ، ومصالحهم تلك .
هذا ، ولا بد من ملاحظة ما قدمناه حين الكلام على العوامل التي ساعدت على انتصار الإسلام وانتشاره ، لنجد :
أن شخصية الرسول العظيمة ، وأخلاقه الكريمة ، وكونه من أرفع بيت في قريش والعرب ـ ويضيف البعض : رابطة القربى ، التي كانت تربطه ببني النجار الخزرجيين ، عن طريق آمنة بنت وهب ـ 6 .
كل ذلك وسواه مما تقدم قد أسهم في إقبال أهل المدينة على الإسلام ، وتقبل دعوته ، والتضحية في سبيله 7 .
- 1. راجع سيرة مغلطاي ص29 .
- 2. a. b. البحار ج19 ص9 وإعلام الورى ص57 عن علي بن إبراهيم .
- 3. البحار ج19 ص8 و 9 و 10 وإعلام الورى ص55 .
- 4. الثقات لابن حبان ج1 ص90 و91 .
- 5. القران الكريم: سورة الأنعام (6)، الآية: 151 و 152، الصفحة: 148.
- 6. ولكنه تعليل لا شاهد له ، ما دام أن مجرد وجود رابطة كذلك لا توجب ما ذكر .
- 7. الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه و آله) ، العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي ، المركز الإسلامي للدراسات ، الطبعة الخامسة ، سنة 2005 م . ـ 1426 هـ . ق ، الجزء الرابع .