عن النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله»: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن حبنا أهل البيت)1.
في هذا الحديث النّبوي الشريف يخبر النبي «صلى الله عليه وآله» بأنّ هناك أموراً أربعة لا بد وأن يسأل عنها العبد في يوم القيامة، وهي:
– عن عمره فيما أفناه.
– عن شبابه فيما أبلاه.
– عن ماله من أين كسبه وفيما أنفقه.
– عن حب أهل البيت «عليهم السلام».
فأوّل هذه الأمور الأربعة التي يسأل العبد عنها هو أنّه يسال عن عمره فيما أمضاه وقضاه، وعمر الإنسان هو الفترة التي يعيشها في هذه الحياة الدّنيا، من يوم ولادته وإلى يوم فاته، فإذا ما استثنينا فترة ما قبل التكليف، وهي من يوم الولادة وإلى البلوغ الشرعي، فإن الفترة التي يسأل العبد عنها من عمره هي تلك الفترة من يوم تكليفه بالأحكام الشرعية والفرائض الإلهية وإلى يوم الوفاة.
وعمر المرء رأس مال لديه، عليه أن يستغلّه استغلالاً أمثلاً، فعليه أن يقضي عمره في ممارسة كل عمل صالح ومفيد، يعود عليه وعلى المجتمع بالفائدة، ويكسبه رضا الله سبحانه وتعالى، فمن أمضى عمره كذلك، فيكون قد استغل عمره استغلالاً صحيحاً، أمّا من يقضي عمره في اللهو واللعب وممارسة الأعمال والأفعال غير المفيدة أو التي تعود عليه وعلى الآخرين بالضرر، وفي معصية الله سبحانه وتعالى، فإنه يكون قد ضيّع رأس ماله «عمره» ولم يستغلّه استغلالاً صحيحاً أمثلاً.
وفي حديث عن الإمام الرّضا «عليه السلام» يقول فيه: (اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات: ساعة لمناجاة الله، وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الاخوان والثقات، الذين يعرفونكم عيوبكم ويخلصون لكم في الباطن، وساعة تخلون فيها للذاتكم في غير محرم، وبهذه الساعة تقدرون على الثلاث ساعات)2.
أي عليكم أن تبذلوا قصارى جهدكم لتقسّموا وقتكم من اليوم والليلة إلى أربعة أقسام، قسم منها عليكم تخصيصه لممارسة العبادة (ساعة لمناجاة الله) من صلاة واجبة ومستحبّة ودعاء وقراءة قرآن وغيرها من الأعمال التي تندرج تحت مفهوم العبادة.
ومما ينبغي التنبيه عليه هنا أنّه ليس مراد الإمام «عليه السلام» أن يعطى كل قسم من هذه الأقسام العدد من الساعات الذي يتساوى فيها مع الأقسام الأخرى، ولكن على العبد أن يكون معتدلاً دون إفراط أو تفريط، وبالنسبة إلى الوقت الذي يقضى في العبادة ينبغي أن يكون أكبر مما يقضيه الكثيرون فيها فعلاً، لأنّ الإنسان وكما أنّه يحتاج إلى تغذية الجانب المادي «الجسدي» بالغداء المادي من المأكل والمشرب، فكذلك الجانب المعنوي «الرّوحي» يحتاج إلى غذاء معنوي، ولا يتم هذا الغذاء إلاّ بممارسة الأعمال العبادية، وكلما مارس العبد العبادة بشكل واسع وكبير وبإتقان، كلّما قوي إيمانه وارتفعت درجة تقواه.
ويقول الإمام «عليه السلام»: (وساعة لأمر المعاش)، أي على العبد أن يخصص جزءاً من وقت يومه وليلته لكسب الرّزق، والسعي في مناكب هذه الأرض، وذلك لتوفير أمر معاشه مما يحتاجه لنفقته ونفقة عياله، من مأكل وملبس ومشرب وغيرها من الاحتياجات الضروريّة والكماليّة.
إنّ المجتمعات الإنسانية لا تخلو من وجود ظاهرتين تتعلّقان بمسألة السعي لطلب المعاش وتوفير الاحتياجات الضروريّة والكمالية، وهي:
1-ظاهرة التفريط في السعي لطلب الرّزق والكدّ على العيال والنّفس، حيث تجد بعض الأفراد لا يبذلون أدنى جهد ولا يصرفون شيئاً من وقتهم لذلك، بل تجده خاملاً كسلاناً لا يمارس عملاً، ويعتمد على الآخرين في توفير احتياجاته ومتطلّبات أسرته وعياله، ومثل هؤلاء الأفراد هم مورد ذم من قبل الشريعة الإسلامية، ففي الرّواية عن الإمام الصادق «عليه السلام» أنّه قال: (كفى بالمرء إثماً أن يضيّع من يعوله)3.
وفي رواية عن النبي «صلى الله عليه وآله»: (ملعون ملعون من ألقى كله على الناس، ملعون ملعون من ضيّع من يعول)3.
إنّ الإسلام يحث المسلم على العمل لكسب القوت وتوفير مستلزمات الحياة والاحتياجات العائليّة، ففي الرّواية عن النبي «صلى الله عليه وآله»: (من بات كالاً من طلب الحلال بات مغفوراً له)4.
وعن الإمام الصادق «عليه السلام» قال: (الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله)5.
2-ظاهرة الإفراط في السعي لطلب المال، حيث يقضي البعض الوقت الكبير من يومهم وليلتهم في السعي لطلب المال وجمعه وتخزينه، مع أنّ بعضهم ليس بحاجة ماسة للمال ليصرف في طلبه كل هذا الوقت، لأنّ لديه منه ما يكفيه ويكفي من يعول لسنوات، بل إن بعضهم لديه ما يكفيه مدى حياته ويزيد على ذلك، يدفع هؤلاء لذلك الحرص والجشع وحب المال، ويكون ذلك على حساب أمور أخرى ينبغي للمرء أن يصرف جزءاً من وقته فيها وعليها، كالعبادة والحضور إلى مجالس العلم والذكر والوعظ والإرشاد، وزيارة الأرحام والأصدقاء، وتربية الأبناء، وغير ذلك، وأيضاً على حساب الوقت الذي ينبغي للمسلم أن يصرفه في العمل الإسلامي والنّشاط الديني.
إنّ مثل هؤلاء الأشخاص أيضاً مورد ذمٍّ من قبل الشريعة الإسلامية، فعن النبي «صلى الله عليه وآله» قال: (ما ذئبان جائعان في غنم قد فرقها راعيها، أحدهما في أولها والآخر في آخرها بأفسد فيها من حب المال والشرف في دين المرء المسلم)6.
ويقول الإمام الرّضا «عليه السلام»: (وساعة لمعاشرة الإخوان والثقات، الذين يعرفونكم عيوبكم ويخلصون لكم في الباطن)، أي عليكم أن تخصصوا وقتاً لزيارة الإخوان والأصدقاء والأصحاب، والجلوس معهم والتحدّث إليهم، فلا بدّ للإنسان من أشخاص يجلس معهم، ويتحدّث إليهم ويسامرهم فذلك مما يفرّج الهم، ويذهب بالحزن، ويزيد في توثيق عرى المحبّة والودِّ بين أفراد المجتمع، وجاء الحث الأكيد من الشريعة الإسلامية على زيارة الإخوان، وأن لذلك جزاءً كبيراً وثواباً كثيراً، ففي الرّواية عن الإمام الباقر والصادق «عليهما السلام» قالا: (أيّما مؤمن خرج إلى أخيه يزوره عارفاً بحقه، كتب الله له بكل خطوة حسنة، ومحيت عنه سيئة، ورفعت له درجة، وإذ طرق الباب فتحت له أبواب السماء، فإذا التقيا وتصافحا وتعانقا أقبل الله عليهما بوجهه، ثم باهى بهما الملائكة، فيقول: انظروا إلى عبدي تزاورا وتحابا فيّ، حق عليّ ألاّ أعذبهما بالنار بعد هذا الموقف …)7.
والإمام الرضا «عليه السلام» في كلامه السالف، يحثّ على مجالسة من تتوفر فيهم سمات معيّنة لا مع أي شخص، فلا بد من أن يكونوا مرآة لمن يؤاخيهم ويصاحبهم، يظهرون له عيوبه ويدلونه عليها ليتخلّص منها، ومن أن يكونوا مخلصين لصاحبهم وجليسهم في السر والعلن، في الظاهر والباطن، فعلى المرء أن يصاحب ويجالس ويصادق الصالحين الثقات، فعن أمير المؤمنين «عليه السلام» قال: (من دعاك إلى الدار الباقية، وأعانك على العمل لها، فهو الصديق الشفيق)8.
وسئل النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» فقيل له: (يا رسول الله! أي الجلساء خير؟ قال: من ذكركم بالله رؤيته، وزادكم في علمكم منطقه، وذكركم بالآخرة عمله)9.
إذاً على المسلم أن يجالس الأشخاص الذين تزيد مجالستهم في إيمانه، وتدفعه إلى الورع عن محارم الله، الذين يعينونه على العمل الصالح، ويبتعد عن مجالسة ومصاحبة أصحاب المعاصي، الذين يجرّون صاحبهم وصديقهم إلى اقتراف الذنوب وارتكاب السيّئات ويشجعونه عليها، ففي الرّواية عن النبي «صلى الله عليه وآله» قال: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كمثل صاحب المسك وكير الحداد، لا يعدمك من صاحب المسك إما تشتريه أو تجد ريحه، وكير الحداد يحرق بدنك أو ثوبك أو تجد منه ريحاً خبيثة)10.
وفي يوم القيامة يتبرأ الأصحاب والأخلاء الذين تصاحبوا في الدنيا على الكفر والنّفاق والفجور والفسوق والعصيان من بعضهم البعض، وتنقطع علاقة الخلّة والصداقة بينهم، وتتحوّل إلى عداوة إلاّ الذين تآخوا في الله ولله سبحانه وتعالى، قال تعالى: ﴿ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾ 11.
ويقول الإمام الرضا «عليه السلام» (وساعة تخلون فيها للذاتكم في غير محرم، وبهذه الساعة تقدرون على الثلاث ساعات)، لأنّ الإنسان مكوّن من مجموعة من الغرائز والشهوات، فهي مما يحتاج إلى إشباع أيضاً، فعليه أن يخصص وقتاً لإشباعها والاستمتاع بلذائذ الحياة، والترويح عن النفس، ولكن لا بد أن يكون كل ذلك ضمن الأطر الشرعية، بعيداً عن الحرام، فبذلك يتجدد نشاطه ويصفو ذهنه، فيقوى على ممارسة أعماله وسائر نشاطاته المختلفة بشكل أكبر وأكثر12.
- 1. الخصال، صفحة 253.
- 2. بحار الأنوار 75/321.
- 3. a. b. الكافي 4/12.
- 4. بحار الأنوار 100/2.
- 5. الكافي 5/88.
- 6. بحار الأنوار 70/144.
- 7. الكافي 2/184.
- 8. عيون المواعظ والحكم، صفحة 437.
- 9. بحار الأنوار 71/186.
- 10. صحيح البخاري 3/16.
- 11. القران الكريم: سورة الزخرف (43)، الآية: 67، الصفحة: 494.
- 12. المصدر كتاب “بحوث ومقالات من هدي الإسلام” للشيخ حسن عبد الله العجمي حفظه الله.