1. الإنسان كيان قائم بذاته و شخصية قانونية مستقلة
الحرية المدنية ناتجة عن كون الإنسان شخصية قانونية و مستقلة بطبيعته ، و عن كونه كياناً قائماً بذاته ، له وجوده الخاص و حياته الخاصة به . و سنعالج هذين الحقين تمهيداً لبحث حق الإنسان بالحرية المدنية ، فمن المسلمات في الإسلام و في الشرائع الإلهية عامة ، أن الإنسان له شخصيته القانونية و ذمته المالية المستقلة عن غيرها من الذمم . و حق الإنسان بالإعتراف بشخصيتة و ذمته المستقلة حق طبيعي ، داخل في تكوينه و مقومات فطرته و طبيعة وجوده ، و هو حق لوجود السلطة و المجتمع نفسه ، و بالتالي لا يمكن إنكاره أو تجاهله من المجتمع و السلطة ، بل لابد لهما من التعامل معه و ترتيب كافة الآثار المترتبة على وجوده.
و في عصرنا اعتبر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هذا الحق من الحقوق اللصيقة بالإنسان ، فأعلن الإعتراف بالإنسان كشخصية قانونية مستقلة و كيان قائم بذاته ، له وجوده وحياته الخاصة به ، فقد نصت المادة السادسة من هذا الإعلان على ما يلي :
« لكل إنسان أينما وجد الحق في أن يعترف بشخصيته القانونية » .
و لا نبالغ إذا قلنا إن هذا الحق بالذات هو نقطة انطلاق الإنسان لممارسة كافة حقوقه فهو الأساس المتين الصلب الذي يقف عليه أثناء ممارسته لحقوقه و حرياته ، إذ بدون الإعتراف به يتعذر على الإنسان أن يعامِل ، كما يتعذر التعامل معه .
2. لكل إنسان حياته الخاصة به و هو سيدها بلا منازع
حياة الإنسان الخاصة هي عالمه الخاص به الذي وهبه الله إياه ، و خوّله السلطة التامة بأن يسوسه و يديره على الوجه الذي يراه ، بدون تدخل من غيره ، فلا سلطان لأحد عليه في اختياره لمأكله أو مشربه أو مسكنه أو عمله أو زوجه أو مراسلاته أو عواطفه ، فحرية الإنسان في ذلك مطلقة ضمن حدود قدرته على تحقيق ما يريد ، و لا يقيدها إلا التوجيهات الإلهية التي تضمنتها الشرائع الإلهية . ولم يضع الله سبحانه و تعالى هذه التوجيهات لتصادر حق الإنسان أو لتغل يده عن إدارتها ، بل رحمة بالإنسان لحماية سيادته على حياته الخاصة ، و إرشاداً له ومساعدةً على إدارتها و تنظيمها ، لتمكينه من ممارسة حقوقه المدنية على الوجه الأفضل ، دون أن يصطدم حقه مع حق .
و قد فرضت الشريعة الإسلامية الإلهية على المجتمع و السلطة و الآخرين احترام خصوصية الإنسان في حياته الخاصة ، و الإعتراف بسيادته عليها .
و قد اعترف الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حديثاً بأن لكل إنسان حياته الخاصة ، و أنه لا ينبغي التدخل أو انتهاكها بأي شكل من الأشكال ، فقد نصت المادة « 12 » من هذا الإعلان على ما يلي : « لا يعرّض إنسان لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو أسرته أو مسكنه أو مراسلاته أو الحملات على شرفه أو سمعته ، ولكل شخص الحق في حماية القانون من مثل هذا التدخل أو تلك الحملات » .
3. معنى الحرية المدنية و فروعها
تعني الحرية المدنية عموماً حرية الإنسان في اختيار و تحديد وإدارة الأمور المتعلقة في حياته الخاصة ، و على الوجه الذي يريد وبدون تدخل من الغير مثل :
- الحق بالعمل و حرية الإنسان في اختيار العمل الذي يريده لكسب معيشته .
- الحق بالسكن و حرية الإنسان في اختيار المسكن الذي يريد الإقامة فيه .
- الحق بالزواج و حرية الرجل و المرأة في اختيار الزوج .
- الحق بالتعلم و حرية الإنسان في اختيار العلم الذي يريد أن يتخصص به .
و سنقوم ببحث هذه الحريات تباعاً و بما أمكن من إيجاز :
4. حق الإنسان بالعمل و حريته بإختيار العمل الذي يريده
تعني هذه الحرية حرية الإنسان التامة بإختيار العمل الذي يريده ليكسب من خلاله معيشته و معيشة من يعول ، فمن حقه مثلاً أن يختار التجارة أو الزراعة أو أية حرفة أو مهنة يريدها ، و الأصل أن كل المهن التي تمكن الإنسان من كسب معيشته مباحة له ما لم يكن هنالك نص خاص في الشريعة بحرم مزاولة مهنة محددة بعينها ، كتحريم مزاولة مهنه صناعة الخمر ، حيث إن ضررها أكثر بكثير من نفعها ، فالتحريم يصب في مصلحة الإنسان . و ما عدا هذه الحالات المحدودة فإن حرية الإنسان في الإسلام مطلقة بإختيار العمل أو المهنة التي يريد لكسب معيشته ، وهذا حق طبيعي ثابت للإنسان و سابق لوجود الدولة والمجتمع ، أقرته الشرائع الإلهية و الوضعية على السواء.
1. قد يعمل الإنسان لنفسه بنفسه ، و لا يكون تحت إمرة آخر كأن يمتهن زراعة أرضه ، أو التجارة بماله ، أو صناعة أشياء معينة بآلاته و رأس ماله و إدارته .
2. الصورة الثانية أن يعمل الإنسان عاملاً أو أجيراً لدى غيره من أصحاب المشاريع الخاصة ، فمن واجب العامل في هذه الحالة أن يخلص في عمله كأن المشروع مشروعه الخاص ، و أن يتعامل مع رب عمله باحترام ، و أنْ يطيعه و ينفذ توجيهاته بإخلاص ، لأنه بحكم الزميل و الشريك .
و من واجب الإنسان صاحب العمل أو المشروع أن يعامل الذين يعملون تحت إمرته معاملته لإخوته و شركائه في الإنتاج ، فلا يكلفهم فوق طاقتهم ، بل يتعامل معهم بالرأفة و الرحمة ، و لا يدعهم يعملون اليوم كله بلا انقطاع ، بل يخصص لهم أوقات راحة خلال العمل اليومي ، لتناول طعامهم و أداء صلاتهم و التقاط أنفاسهم ، و يمكنهم من الإستراحة يوماً في الأسبوع على الأقل ، و في المناسبات الدينية .
و من واجبه أن يدفع لهم الأجرة الكافية التي تتلاءم مع جهودهم ، و تسد احتياجاتهم و من يعولون ، و أن يدفع أجرة من يعمل عنده يوماً بيوم قبل أن يجف عرقه ، ما لم ينفق العامل برضاه على أن تكون الأجرة أسبوعياً أو شهرياً أو عند انتهاء الموسم .
و لا ينبغي أن يضيق صاحب المشروع ذرعاً بمن يعملون معه إذا اجتمعوا كفريق و طالبوه بحقوقهم ، أو طالبوه بتحسين وضعهم ، أو بجعل ظروف العمل أفضل ، فمن مصلحة صاحب العمل أن يتصرف عماله كفريق واحد ويقترحوا ما يرونه مناسباً لأن هذا يساعد على زيادة الإنتاج و ينمي المشروع و يحسن وضع من يعملون به ، و يجعلهم يندفعون في عملهم بإخلاص و كأن المشروع ملك لهم .
و يجب أنه تقوم العلاقة بين العامل و رب عمله على التعاون و التسامح و المحبة ، و قد وضح الإمام زين العابدين هذا الحق المتبادل بقوله » تصحبه بالفضل ما وجدت إليه سبيلاً ، و إلا فلا أقل من الإنصاف ، و أن تكرمه كما يكرمك ، و تحفظه كما يحفظك ، و لا يسبقك ما بينك و بينه إلى مكرمة ، فإن سبقك كافأته ، و لا تقصر عما يستحق من المودة ، و تلزم نفسك نصيحته ، و حياطته و معاضدته على طاعة ربه ، و معونته على نفسه ، فيما لا يهم به من معصية ربه ثم تكون عليه رحمة ، و لا تكونن عليه عذاباً » 1 .
و العلاقة بين العامل ورب عمله تشبه العلاقة بين الشريكين ، و قد فرض الإسلام حقوقاً متبادلة على الشريك نحو شريكه ، قال الإمام زين العابدين في بيان هذه الحقوق : « فإن غاب كفيته ، و إن حضر ساويته ، و لا تعزم على حكمك دون حكمه ، و لا تعمل على رأيك دون مناظرته ، و تحفظ عليه ماله ، و تنفي عنه خيانته فيما عز أو هان ، فإنه قد بلغنا أن يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا » 2 .
و لكن ماذا يكون مصير الإنسان العامل إذا فقد عمله أو عجز عن ممارسته ، ولم يكن عنده ما ينفق منه على نفسه و من يعيله ؟ لم يترك الإسلام الإنسان بدون حماية ، لأن المال العام الزائد عن نفقات الدولة مملوك على التساوي بين جميع أفراد المجتمع فهو بمثابة دخل احتياطي لكل واحد من رعايا الدولة الإسلامية . و قد نظمت الشريعة الإسلامية صور عمل الإنسان عند نفسه ، أو أجيراً عند غيره تنظيماً أخرج حرية العمل من التجريد إلى الواقع المحسوس ، و بالرغم من أن هذه الترتيبات وضعت قبل1400 سنة إلا أن التشريعات العالمية المعاصرة ما زالت قاصرة عن بلوغها .
5. حق الإنسان بالعمل في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
يمثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الحد الأدنى الذي ينبغي على الدول الأعضاء أن تبلغه في سعيها لترسيخ حقوق الإنسان ، و هذه مواد الإعلان المتعلقة بحق العمل :
المادة 23. 1 ـ لكل شخص الحق في العمل ، و له حرية اختياره بشروط عادلة و مرضية ، كما أن له الحق في الحماية من البطالة . 2 ـ لكل فرد دون تمييز الحق في أجر متساو للعمل « .3 ـ لكل فرد يقوم بعمل الحق في أجر عادل يكفل له ولأسرته عيشة لائقة بكرامة الإنسان ، تضاف اليه عند اللزوم مسائل أخرى للحماية الإجتماعية .
4ـ لكل شخص الحق في أن ينشئ و ينضم إلى نقابات حماية لمصلحته .
المادة 24 : « لكل شخص الحق في الراحة ، و في أوقات الفراغ ، و لا سيما في تحديد معقول لساعات العمل و في عطلات دورية بأجر » .
المادة25 : 1 ـ ( لكل شخص الحق في مستوى من المعيشة كاف للمحافظة على الصحة و الرفاهية له و لاسرته ، و يتضمن ذلك التغذية و الملبس و المسكن و العناية الطبية و كذلك الخدمات الإجتماعية اللازمة ، و له الحق في تأمين معيشته في حالات البطالة و المرض و العجز و الترمل و الشيوخة و غير ذلك من وسائل العيش نتيجة لظروف خارجة عن إرادته . 2 ـ للأمومة و الطفولة الحق في مساعدة و رعاية خاصتين و ينعم كل الأطفال بنفس الحماية الإجتماعية سواء أكانت ولادتهم ناتجه عن رباط شرعي أو بطريقة غير شرعية ) .
6. حق الإنسان بالسكن و اختيار المسكن الذي يريد
للإنسان الحرية التامة في اختيار المسكن الذي يريد أن يقيم فيه بدون تدخل من أي كان ، فلا يملك أحد الحق بمنعه من ذلك أو الحيلولة بينه وبين ما أراد . و قد تسالمت البشرية على الإعتراف بهذا الحق ، و أقرته كافة الشرائع الإلهية والوضعية على السواء واعتبرته حقاً طبيعياً ، و قد خصص الإسلام أحكاماً تشريعية خاصة لحفظ حق الإنسان في سكنه فجعل له حرمة خاصة ، و حرَّم على الناس كافة بمن فيهم الأنبياء و الرسل الكرام (عليهم السلام) أن يدخلوا بيت إنسان إلا بعد الإستئناس و الإستئذان من و السلام على أهل ذلك المسكن . قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ 3 .
و لا يجوز لأي إنسان أن يدخل بدون إذن على بيت إنسان آخر ، أو يقترب منه بقصد التلصص أو الإساءة لأحد أفراده ، أو لأي سبب آخر غير مشروع ، و من يفعل ذلك فقد أباح دمه . سئل الإمام علي ( عليه السلام ) عن رجل دخل دار آخر للتلصص أو الفجور فقتله صاحب الدار أيقتل به أم لا ؟ فقال ( عليه السلام ) : إعلم أن من دخل دار غيره فقد أهدر دمه و لا يجب عليه شيء » 4 . و « قال الإمام الصادق (عليه السلام) : أيما رجل اطلع على قوم في دارهم ينظر إلى عوراتهم ففقأوا عينه أو جرحوه ، فلا دية عليه لأنه معتدٍ و من اعتدى فاعتدي عليه فلا قودله ».
و يشمل هذا الحق المكان الذي يريد الإقامة فيه أيضاً فله أن يقيم في أي مكان من ديار الإسلام ، بل و في أي مكان في العالم كله . قال الإمام علي (عليه السلام) : « ليس بلد بأحق بك من بلد ، خير البلاد ما حملك » 5 .
و قبل أن تنشأ الدول المعاصرة و تغلق أبواب حدودها كان بإمكان الإنسان أن يقيم في أي مكان في العالم ، ولم تكن قيود على فرار الإنسان من الإضطهاد و الظلم و التجائه إلى بلاد أخرى . كما أن مسألة الجنسية اختراع جديد اخترعته الدولة المعاصرة لتحصر رعاياها و تحددهم تحديداً قاطعاً ، و لأن الجنسية قد انتشرت و شاعت بين جميع الدول ، و أصبح متعذراً على الإنسان أن يدخل حدود أية دولة بدون جواز سفر ، صارت الجنسية على جانب كبير من الأهمية .
7. حرية سكن الإنسان و إقامته في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
المادة125 « لا يعرض أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو أسرته أو مسكنه أو مراسلاته ، أو لحملات على شرفه و سمعته . و لكل شخص الحق في حماية القانون من مثل هذا التدخل أو تلك الحملات » .
المادة 1 / 12 : « لكل فرد حرية التنقل و اختيار محل إقامته داخل حدود كل دولة » .
« 2 / يحق لكل فرد أن يغادر أية بلاد بما في ذلك بلده ، كما يحق له العودة اليه » .
المادة 1 / 14 « لكل فرد الحق في أن يلجأ إلى بلاد أخرى أو يحاول الإلتجاء اليها هرباً من الاضطهاد » . « 2 ـ لا يتنفع بهذا الحق من قدم للمحاكمة في جرائم غير سياسية أو لأعمال تناقض أغراض الأمم المتحدة و مبادئها » .
المادة 1 / 15 « لكل فرد حق التمتع بجنسية ما » .« 2 / لا يجوز حرمان شخص من جنسيته نعسفاً أو إنكار حقه في تغييرها » .
8. حق الزوج و الزوجة في الإختيار
أعطى الله سبحانه و تعالى كل إنسان الحرية التامة أن يتزوج بمن يريد ضمن الأحكام الشرعية ، فليس لأحد أن يجبر إنساناً رجلاً أو أمرأة على الزواج أو تركه ، و هو حق طبيعي وهبه الله تعالى إياه ، و هو سابق لوجود المجتمع و السلطة ، و لا يملك المجتمع و لا السلطة مصادرته أو التدخل فيه . و الأحكام التي وردت في الشرائع الإلهية عامة والشريعة الإسلامية خاصة ، لم يقصد منها تقييد حرية الإنسان ، فقد حثت الشرائع الإنسان على الزواج وتكوين أسرة ، لأن ذلك أساس بقاء الجنس البشري ، و سنة الله في بني آدم ، فقد تزوج النبي ، و تزوج الأئمة الأطهار ، و حثوا على الزواج ، لأنه إحدى سنن الله الخالدة ، و سنتهم و قد صح عنه ( صلى الله عليه و آله ) القول : « من رغب عن سنتي فليس مني » و قد حدد الإمام زين العابدين ، الخطوط العريضة لحقوق الزوجين على بعضهما ، و حقوق الوالد و الوالده على ابنيهما قال (عليه السلام) :
1 ـ « و أما حق رعيتك بملك النكاح فأن تعلم أن الله جعلها مسكناً و مستراحاً و أنساً و واقية ، و كذلك كل واحد منكما ، يجب أن يحمد الله على صاحبه ، و يعلم أن ذلك نعمة منه عليه ، و وجب أن يحسن صحبته نعمة الله و يكرمها و يرفعه بها ، و إن كان حقك عليها أغلظ و طاعتك بها ألزم ، فيما أحبت و كرهت ما لم تكن معصية ، فإن لها حق الرحمة و المؤانسة ، و موضع السكون اليها قضاء اللذة التي لابد من قضائها و ذلك عظيم » 6 .
2ـ و رسم الإمام زين العابدين معالم حقوق الزوجة على ولدها فقال : « و أما حق أمك فأن تعلم أنها حملتك حيث لا يحمل أحد أحداً ، و أطمعتك من ثمرة قلبها ما لا يطعم أحد أحداً ، و أنها وقتك بسمعها و بصرها و يدها و رجلها و شعرها و بشرها و جميع جوارحها ، مستبشرة بذلك ، فرحة مؤابلة « مواظبة » محتملة لما فيه مكروهها و ألمها و ثقلها و غمها ، حتى دفعتك عنها يد القدرة ، و أخرجتك إلى الأرض ، فرضيَتْ أن تشبعك و تجوع ، و تكسوك و تعرى ، و ترويك و تظمى ، و تظلك و تضحى ، و تنعمك ببؤسها ، و تلذذك بالنوم بأرقها ، و كان بطنها لك وعاء ، و حجرها لك جواء ، و ثديها لك سقاء ، و نفسها لك وقاء ، تباشر حر الدنيا و بردها لك و دونك ، فتشكرها على قدر ذلك ، و لا تقدر عليه إلا بعون الله و توفيقه » 7 .
3 ـ ثم بين الإمام حق الرجل الوالد على ابنه بقوله : « و أما حق أبيك فتعلم أنه أصلك ، و أنت فرعه ، و أنك لولاه لم تكن ، فمهما رأيت في نفسك مما يعجبك ، فاعلم أن أباك أصل النعمة عليه فيه ، و احمد الله و اشكره على قدر ذلك » 8 .
4ـ و رسم الإمام معالم حق الولد على والديه فقال : « و أما حق ولدك فتعلم أنه منك و مضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره و شره ، و أنك مسؤول عما وليته من حسن الأدب والدلالة على ربه ، والمعونة له على طاعتك فيه و في نفسه ، فمثاب على ذلك و معاقب فاعمل في أمره عمل المتزين بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا ، المقدر إلى ربه فيما بينك وبينه بحسن القيام عليه و الأخذ له منه » 9 .
5ـ ثم حدد الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) حق الأخ على أخيه بقوله : « و أما حق أخيك فتعلم أنه يدك التي تبسطها ، و ظهرك الذي تلتجئ اليه ، و عزك الذي تعتمد عليه ، و قوتك التي تصول بها ، فلا تتخذه سلاحاً على معصية الله ، ولا عدة للظلم بحق الله ، و لا تدع نصرته على نفسه و معونته على عدوه ، والحول بينه وبين شياطينه ، و تأدية النصيحة اليه و الإقبال عليه في الله ، فإن انقاد لربه و أحسن الإجابة له ، و إلا فليمكن الله آثر عندك و أكرم عليك منه » 10.
9. حرية الزوج و تأسيس أسرة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
المادة 1 / 16 : للرجل و المرأة متى بلغا سن الزواج حق التزوج و تأسيس أسرة ، دون أي قيد بسبب الجنس أو الدين ، و لهما حقوق متساوية ، عند الزواج و أثناء قيامه ، و عند انحلاله .
المادة2 : لا يبرم عقد الزواج إلا برضى الطرفين الرغبين فيالزواج ، رضىً كاملاً لا إكراه فيه .
المادة 3 : الأسرة هي الوحدة الطبيعية الأساسية للمجتمع ، و لها حق التمتع بحماية المجتمع و الدولة .
المادة 12 : لا يعرض أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو أسرته أو مسكنه أو مراسلاته ، أو الحملات على شرفه و سمعته ، و لكل شخص الحق في حماية القانون من مثل هذا التدخل أو تلك الحملات .
المادة 25 / 1 : لكل شخص الحق في مستوى من المعيشة ، كالمحافظة على الصحة والرفاهية له و لأسرته ، و يتضمن ذلك التغذية و الملبس و المسكن والعناية الطيبة اللازمة ، و كذلك الخدمات الإجتماعية اللازمة ، و له الحق في تأمين معيشته في حالات البطالة والعجز والترمل والشيخوخة ، و غير ذلك من فقدان وسائل العيش نتيجة لظروف خارجة عن ارادته . 2 ـ للأمومة و الطفولة الحق في مساعدة ورعاية خاصتين وينعم كل الأطفال بنفس الحماية الإجتماعية سواء أكانت ولادتهم ناتجة عن رباط شرعي أو بطريقة غير شرعية .
10. حق التعلم وحرية الإنسان بإختيار العلم الذي يريده
الإسلام أكثر الأديان اهتماماً بالعلم و تشجيعاً عليه ، و يكفي أن تعلم أن أول سورة من سور القرآن قد أنزلت على النبي ( صلى الله عليه و آله ) استهلت بالقراءة و العلم ، قال تعالى : ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ 11 ﴿ … قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ﴾ 12 . و خصص الرسول ( صلى الله عليه و آله ) الجزء الأكبر من أوقاته طوال حياته المباركة لتعليم الناس ما أنزل اليهم من ربهم ، و هو يشمل كافة شؤون الدين و الدنيا ، و ما يحتاجه الإنسان فيمختلف مواقعه رئيساً كان أم مرؤوساً ، و يفتح أمامه أبواب علم الدنيا و الآخرة ، و قد نجح الرسول الأعظم نجاحاً باهراً في إغداق علمه على الجميع ، فحول المجتمع العربي من مجتمع أمي و جاهلي ، إلى مجتمع من العلماء الذين تخصصوا في مختلف فروع العلم ، و قادوا نهضة علمية مباركة ، فتحت عيون العائلة البشرية على مختلف علوم الدين و الدنيا .
كان مجتمع الرسول كله عبارة عن مدرسة أو معهد أو جامعه كبيرة تتسع للجميع ، و كانت أوقات المسلمين مخصصة بطريقة عفوية لتلقي العلم و تداوله ، و الإستزادة منه لأن الإسلام جعل طلب العلم فريضة على كل مسلم كأية فريضة من الفرائض الدينية قال ( صلى الله عليه و آله ) : « طلب العلم فريضة على كل مسلم ، ألا إن الله يحب بغاة العلم » . و قال ( صلى الله عليه و آله ) « طلب العلم أفضل عند الله من الصلاة و الصيام و الحج و الجهاد في سبيل الله » و قال ( صلى الله عليه و آله ) : « أطلبوا العلم و لو في الصين » . أي أطلبوا العلم أينما كان و لو كان بعيداً كبعد الصين . ولم يبالغ النبي ( صلى الله عليه و آله ) عندما قال : « من أراد الدنيا فعليه بالعلم ، و من أراد الآخرة فعليه بالعلم ، و من أرادهما معاً فعليه بالعلم » .
و قال الإمام علي (عليه السلام) : تعلموا العلم ، فإن تعلمه حسنة ، و مدارسته تسبيح و البحث عنه جهاد ، و تعليمه من لا يعلمه صدقة ، و بذله لأهله قربة ، لأنه معالم الحلال و الحرام و سالك بطالبه سبل الجنة ، و هو أنيس في الوحشة ، و صاحب في الوحدة ، و دليل على السراء و الضراء ، و سلاح على الأعداء ، و زين للأخلاء ، يرفع الله به أقواماً يجعلهم في الخير أئمة يقتدى بهم ، ترمق أعمالهم ، و تقتبس آثارهم ، و ترغب الملائكة في خلتهم ، و يستغفر لهم كل شيء ، حتى حيتان البحور وهوامها ، وسباع البر و أنعامها ، لأن العلم حياة القلوب ، و نور الأبصار من العمى ، و قوة الأبدان من الضعف ، ينزل الله حامله منازل الأخيار ، و يمنحه مجالس الأبرار في الدنيا و الآخرة . بالعلم يطاع الله ويعبد ، و بالعلم يعرف الله و يؤخذ ، و بالعلم توصل الأرحام ، و يعرف الحلال و الحرام ، و العلم إمام العمل ، و العمل تابعه ، يلهمه الله السعداء ، و يحرمه الأشقياء » 13 .
هذه الحوافز المذهلة جعلت للعلم مكانه خاصة في الإسلام و عند المسلمين ، لا تجدها إطلاقاً في أي دين آخر ، و لا عند أتباع أي دين ! و لو أن المسلمين استمروا على نهج رسول الله و نهج الإمام علي ، و عرفوا كيف يستفيدون من هذين النهجين لكان لهم شأن آخر ، و لما ارتدوا على أعقابهم و رجعوا القهقرى بعد أن مكنهم رسول الله من أن يبلغوا عنان السماء و يجالسوا الجوزاء .
كما أن العلم بحار متلاطمة و محيطات مترامية ، و مهما عاش الإنسان فلن يبلغ مداها و لن يحيط بها ، لذلك كانت نظرة الإسلام لحق الإنسان بالتعلم واقعية تتناسب و قدرته قال رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) : « العلم أكثر من أن يحاط به فخذوا من كل علم أحسنه » . و قال الإمام علي ( عليه السلام ) : « العمر قصير و العلم كثير ، فخذوا من كل علم ضروره ، و دعوا فضوله » و قال أيضاً : « خذوا من كل علم أحسنه ، فإن النحل يأخذ من كل زهر أزينه ، فيولد منه جوهران نفيسان ، أحدهما فيه شفاء و الآخر يستضاء به » 14 .
و أثناء حياة الرسول ( صلى الله عليه و آله ) أعد الإمام علياً ( عليه السلام ) و أفضى إليه بعلمي النبوة و الكتاب ، و علمه كل ما أوحاه الله إليه ، و كلفه رسمياً أن يكتب كل ما كان يعلمه ، و عندما سأله الإمام علي إن كان يخاف عليه النسيان ، فكان جواب الرسول : لا أخاف عليك النسيان لأني دعوت الله تعالى أنه يُحفظك و لا ينسيك ، و لكن أكتب لشركائك ! فقال الإمام علي : و من شركائي يا رسول الله ؟ فقال الرسول : الأئمة من ولدك ، و أومأ إلى الحسن ، و قال هذا أولهم ، ثم أومأ إلى الحسين و قال : الأئمة من ولده » 15 .
و عندما انتقل الرسول إلى جوار ربه كان قد علم الإمام علي كل ما أوحاه الله إليه ، و كان كتب بناء على أمر الرسول العلم كله ، ليكون تحت تصرف إمام كل زمان ، حتى يرجع طلاب التخصص العلمي إلى المرجع الشرعي مباشرة .
و بعد انتقال الرسول إلى جوار ربه كان الإمام علي هو الإنسان الوحيد الذي أعلن على رؤوس الأشهاد قائلاً : ( سلوني عن كتاب الله فإنه ليس من آية إلا و قد عرفت بليل نزلت أم بنهار في سهل نزلت أم في جبل ) 16 . و لقد أقسم قائلاً ( والله ما نزلت آية إلا و قد علمت في من نزلت ، و على من نزلت ، و أين نزلت) 17 .
و قال الإمام الصادق : ( إن الله علم رسوله الحلال و الحرام و التأويل و علم رسول الله علمه كله علياً ) 18 . و كل واحد من أئمة أهل بيت كان يرث علمي النبوة و الكتاب ليكون مرجعاً لأهل زمانه ، و مقصداً لطلاب التخصص بالعلوم المختلفة . قال الإمام الصادق : ( إنا والله ما نقول بأهوائنا و لا نقول برأينا ، و لا نقول إلا ما قال ربنا ، أصول عندنا نكنزها كما يكنز هؤلاء ذهبهم و فضتهم و نتوارثها ) .
و عندما سيطرت السلطة بعد وفاة الرسول و عزلت أهل البيت ، أصدرت مرسوماً خلافياً بتغييب سنة الرسول و سيرته ، و حرمت تحت طائلة العقوبة مجرد التحديث و كتابة أي حديث عنه ، فأدان أهل بيت النبوة هذا العمل ، و حثوا الناس على أن يكتبوا أحاديث النبي ، و خاضوا معركة منع التدوين و كانوا ينشرون السنة و العلم بين الناس ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً ، و قد نهل كبار العلماء و أصحاب المذاهب الأربعة من علومهم و تتلمذوا على أيديهم إما مباشرة أو غير مباشرة ، و كذلك الكثير من العلماء بالرغم من محاصرة السلطة الغاصبة لهم .
و في ظل التوجيهات الإسلامية نشأت رابطة قانونية بين العلماء و المتعلمين ، فصارت بينهما حقوق متبادلة . قال الإمام زين العابدين في بيان حقوق العالم على المتعلم : « أما حق سائسك بالعلم فالتعظيم له و التوقير لمجلسه ، و حسن الإستماع إليه و الإقبال عليه ، و المعونة على نفسك فيما لا غنى بك عنه من العلم ، بأن تفرغ له عقلك و تحضره فهمك ، و تزكي له قلبك و تجلي له بصرك ، بترك اللذات و نقص الشهوات ، و أن تعلم أنك فيما ألقى إليك رسوله إلى من لقيك من أهل الجهل ، فلزمك حسن التأدية عنه اليهم ، و لا تخنه في تأدية رسالته و القيام بها عنه إذا تقلدتها » 19 .
و قال في معرض بيان حق المتعلم على العالم : « و أما حق رعيتك بالعلم فأن تعلم أن الله قد جعلك لهم فيما أتاك من العلم ، و ولاك من خزانة الحكمة ، فإن أحسنت فيما ولاك من ذلك ، وقمت به لهم مقام الخازن الشفيق الناصح لمولاه في عبيده ، الصابر المحتسب ، الذي إذا رأى ذا حاجة أخرج له من الأموال التي في يديه ، كنت راشداً و كنت لذلك آملاً معتقداً ، و إلا كنت له خائناً و لخلقه ظالماً ، و لسلب عزه متعرضاً » 20 .
11. حق التعلم و حرية إختيار العلم في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
المادة 1 / 26 : ( لكل شخص الحق في التعلم ، و يجب أن يكون التعليم في مراحله الأولى و الأساسية على الأقل بالمجان ، و أن يكون التعليم الأولي إلزامياً ، و ينبغي أنه يعمم التعليم الفني و المهني ، و أن ييسر القبول للتعليم العالمي على قدم المساواة التامة للجميع ، و على أساس الكفاءة .
( 2 / يجب أن تهدف التربية إلى إنماء شخصية الإنسان إنماء كاملاً و إلى تعزيز احترام الإنسان و الحريات الأساسية ، و تنمية التفاهم و الصداقة بين جميع الشعوب و الجماعات العنصرية أو الدينية ، و إلى زيادة مجهود الأمم المتحدة لحفظ السلام ) .
(3 / للآباء الحق الأول في إختيار نوع تربية أولادهم ) .
المادة 1 / 27 : ” لكل فرد الحق في أن يشترك اشتراكاً حراً في حياة المجتمع الثقافي ، و في الإستمتاع بالفنون و المساهمة في التقدم العلمي و الإستفادة من نتائجه ” .
2 / كل فرد الحق في حماية المصالح الأدبية و المادية المترتبة على إنتاجه العلمي أو الأدبي أو الفني ) 21 .
- 1. رسالة الحقوق الحق ، رقم 23 .
- 2. المرجع السابق الحق ، رقم 22 .
- 3. القران الكريم : سورة النور ( 24 ) ، الآية : 27 و 28 ، الصفحة : 352 .
- 4. مباني تكملة المنهاج : 2 / 85 .
- 5. نهج البلاغه ، علي محمد علي دخيل ، 4 ـ 1 دارالمرتضى / 746 الفقرة 426 .
- 6. رسالة الحقوق المصدر رقم 19 .
- 7. رسالة الحقوق المصدر رقم 21 .
- 8. المرجع السابق المصدر 22 .
- 9. المرجع السابق ، الحق رقم 22 .
- 10. المرجع السابق ، الحق ، رقم 24 .
- 11. القران الكريم : سورة العلق ( 96 ) ، الآيات : 1 – 5 ، الصفحة : 597 .
- 12. القران الكريم : سورة الزمر ( 39 ) ، الآية : 9 ، الصفحة : 459 .
- 13. أشعة من نور الإسلام ـ المجلس الإسلامي في أمريكا للعلامة الشيخ محمدعلي برو : 4 ـ 5 .
- 14. المرجع السابق : 4 .
- 15. الأمالي للشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي : 2 / 56 و معالم المدرستين للعسكري : 2 / 206 و كتابنا « أين سنة الرسول و ماذا فعلوا بها » : 448 .
- 16. طبقات بن سعد ، ترجمة علي : 2 ، ق 20 / 101 ، طبعة أوربا .
- 17. نفس المصدر و راجع كتابنا « أين سنة الرسول و ماذا فعلوا بها » : 448 .
- 18. بصائر الدرجات : 290 و الوسائل : 2 / 291 ، الحديث 2 و 9 و مستدرك الوسائل : 2 / 192 ، الحديث 21 .
- 19. المصدر رقم 15 .
- 20. المصدر رقم 18 .
- 21. كتاب حقوق الإنسان عند أهل بيت النبوة و الفكر المعاصر: الفصل السابع .