نور العترة

الإمام العسكري عليه السلام .. دروس وعبر

حياة الإمام الحسن العسكري عليه السلام مليئة كغيره من أئمة أهل البيت عليهم السلام بالدروس والعبر ، بالرغم من شح المصادر التي تتحدث عن الأئمة عليهم السلام منذ إمامة الإمام محمد الجواد عليه السلام. واتصفت حياة الإمام العسكري بالغموض على وجه الخصوص ، فقد عاش عليه السلام ـ بسبب الظروف السياسية المتأزمة آنذاك ـ بصورة يملؤها التكتم والسرية ، وهي ما يعبر عنها المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي في أحد كتبه بـ [ التقية الشديدة ] أو [ أقسى حالات التكتكم ].

الدفاع عن القرآن الكريم

كان الإمام العسكري مدافعاً بقوة عن مكانة القرآن الكريم ، حتى نُسِبَ إليه تفسير في القرآن الكريم. ويروى عنه عليه السلام : « إنّ القرآن يأتي يومَ القيامة بالرّجل الشّاحبِ يقولُ لربّه : يا ربّ ، هذا أظمأتُ نهارَه ، وأسهرتُ ليلَه ، وقوّيت في رحمتك طمعه ، وفسحتُ في رحمتك أمله ، فكن عند ظنّي فيك وظنّه. يقول الله تعالى : اُعطوه المُلكَ بيمينه والخُلد بِشماله ، واقرِنوه بأزواجه من الحور العين ، واكسُوا والديه حلّة لا تقوم لها الدّنيا بما فيها ، فينظر إليهما الخلائق فيعظّمونهما ، وينظران إلى أنفسهما فيعجبان منهما ، فيقولان : يا ربّنا ، أنّى لنا هذه ولَم تَبلُغْها أعمالُنا ؟! فيقول الله عزّ وجلّ : ومع هذا تاج الكرامة ، لم يَرَ مثلَه الرّاؤون ولم يسمع بمثله السّامعون ، ولا يتفكَّر في مثله المتفكّرون ، فيقال : هذا بتعليمكما ولدَكُما القرآن ، وبتبصيركما إيّاه بدين الإسلام ، وبرياضتكما إيّاه على حُبّ محمّد رسول الله وعليّ وليّ الله صلوات الله عليهما ، وتفقيهكما إيّاه بفقههما ».

وممّا يذكر في هذا الصدد أن يعقوب بن إسحاق الكندي المعروف بفيلسوف العرب ، كان قد بدأ في تأليف كتابٍ يدعي فيه وجود تناقضات في القرآن الكريم ، فوصل الخبر إلى الإمام عليه السلام ، فصادف أن دخل على الإمام أحدُ تلامذة الكندي فقال له عليه السلام : أما فيكم رجلٌ رشيد يرَدَعُ أستاذكم عمّا أخذ فيه من تشاغله بالقرآن ؟ فقال التلميذ : نحنُ من تلامذته ، كيف يجوز منّا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره ؟! فقال له عليه السلام : أتؤدّي إليه ما اُلقيه إليك ؟ قال : نعم .قال : فصِرْ إليه ، وتلطَّفْ في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله ، فإذا وقعتِ الأُنسَةُ في ذلك ، فقل : قد حَضَرتْني مسألة أسألكَ عنها. فإنّه يستدعي ذلك منك ، فقل له : إن أتاكَ هذا المتكلم بهذا القرآن ، هل يجوز أن يكون مرادُه بما تكلَّم به منه غير المعاني التي قد ظننتَها أنك ذهبتَ إليها ؟ فإنه سيقول : إنَّهُ من الجائز ؛ لأنه رجلٌ يفهمُ إذا سمعَ ، فإذا أوجب ذلكَ فقلْ له : فما يُدريك لعلَّهُ قد أرادَ غير الذي ذهبتَ أنتَ إليه ، فتكون واضعاً لغير معانيه !

فذهب التلميذ إلى أستاذه وتلطَّفَ إلى أن ألقى عليه هذه المسألة. فقال له: أعِدْ عليَّ ! فأعاد عليه ، فتفكَّر في نفسه ، ورأى ذلك محتمَلاً في اللغة ، وسائغاً في النظر. فقال : أقسمتُ عليكَ إلّا أخبرتَني مِن أين لكَ هذا ؟ فقال : إنّه شيء عَرَضَ بقلبي فأوردتُه عليك ، فقال: كلّا ، ما مِثلك مَن اْهتدى إلى هذا ولا مَن بلغَ هذه المنزلة ، فعرِّفْني مِن أينَ لَكَ هذا ؟ فقال : أمَرَني به أبو محمد « يقصد الإمام العسكري » ،

فقال : الآن جئتَ به وما كانَ ليَخرُجَ مثلُ هذا إلّا مِن ذلكَ البيت.

ثم أمر الكندي بما ألفه ودعا بالنار فأحرف ما ألفه من الكتاب.

الإمام العسكري عليه السلام وعاشوراء

وهو كغيره من أئمة أهل البيت عليهم السلام ، يحيون ذكرى عاشوراء ، ويذكرون الناس بالإمام الحسين عليه السلام وفضل البكاء عليه ، وعقاب من رضى بما فعله بنو أمية بالإمام الحسين وأصحابه عليه السلام ، فيقول : « ألا وإنّ الراضيين بقتل الحسين عليه السلام شركاء قتله ، ألا وإنّ قتلته وأعوانهم وأشياعهم والمقتدين بهم براء من دين الله ، وإنّ الله ليأمر ملائكته المقرّبين أن يتلقّوا دموعهم المصبوبة لقتل الحسين إلى الخزّان في الجنان ، فيمزجونها بماء الحيوان فتزيد عذوبتها ، ويلقونها في الهاوية ، ويمزجونها بحميمها وصديدها وغسّاقها وغسلينها فتزيد في شدّة حرارتها وعظيم عذابها ألف ضعفها ، تشدّد على المنقولين إليها من أعداء آل محمّد عذابهم ».

الناس على طبقات

وإذ تختلف الناس في طرقها ومناهجها الدينية ، فإن الإمام العسكري عليه السلام يبين أنه إلى جانب جبهة التمسك بالحق ؛ هناك من ضاع في فلك هذه الحياة ، فلا يعلم من أين يأخذ الحق ، فابتعد عن مصدره المتمثل في أهل البيت عليه السلام ، لأنه اختار الحق من غير بابه ، وأراد النجاة من غير سفينة النجاة ، ونسي أن أهل البيت عليهم السلام كما يقول عنهم الإمام العسكري عليه السلام نفسه : « الفقير معنا خير من الغني مع غيرنا ، والقتل معنا خير من الحياة مع عدونا ، ونحن كهف لمن التجأ إلينا ، ونور لمن استبصر بنا وعصمة لمن اعتصم بنا ، من أحبنا كان معنا في السنام الأعلى ومن انحرف عنا فإلى النار ». وهناك طبقة من الناس لا يهمهم إلا الرد على أهل الحق ، وكيل الاتهامات لهم ، وتشويه صورتهم ، ومحاولة تسقيطهم بدافع الحسد أو المصالح الذاتية ..

إنه عليه السلام يقول : « إنما خاطب الله العاقل. والناس على طبقات : المستبصر على سبيل نجاة ، متمسك بالحق ، متعلق بفرع الأصل ، غير شاك ولا مرتاب ، لا يجد عني ملجأ. وطبقة لم تأخذ الحق من أهله ، فهم كراكب البحر يموج عند موجه ويسكن عند سكونه. وطبقة استحوذ عليهم الشيطان ، شأنهم الرد على أهل الحق ودفع بالباطل حسداً من عند أنفسهم. فدع من ذهب يميناً وشمالاً ، فإن الراعي إذا أراد أن يجمع غنمه جمعها بأهون سعي ».

كيف تنتصر على عدوك ؟

والانتصار على العدو في نظر الإمام عليه السلام ليس بالسلاح أو سوء الخلق ، بل يكون بالورع والكرم والحلم ، حيث يؤدي إلى كثرة الأصدقاء الذين يثنون عليك ، فالتقوى وحسن الطباع والسلم واللاعنف كلها سمات تسمو بالإنسان فتحبب الآخرين إليه ، وكلما ازداد حب الناس في المجتمع إليك زادت قوتك في وجه أعدائك .. إنه يقول : « من كان الورع سجيته ، والكرم طبيعته ، والحلم خلّته ، كثر صديقه والثناء عليه ، وانتصر من أعدائه بحسن الثناء عليه » ، وورد عنه أيضاً : « من كان الورع سجيّته والأفضال حليته ، انتصر من أعدائه بحسن الثناء عليه ، وتحصّن بالذكر الجميل من وصول نقص إليه ».

من وصاياه الجميلة

من جميل وصايا الإمام الحسن العسكري عليه السلام حيث يوصي شيعته بأن يكونوا قدوات حسنة ، مدافعين عن الإسلام وأهل البيت ، بإثبات كل حسن لهم ودفع كل قبيح عنهم ، ولا ينس المرء بأن في تقواه وورعه واجتهاده لله وصدق حديثه وأدائه للأمانة وكثرته للعبادة وحسنه للجوار علواً للإسلام وتكريماً لأهل البيت عليهم السلام .. إنه عليه السلام يقول : « أوصيكم بتقوى الله ، والورع في دينكم ، والاجتهاد لله ، وصدق الحديث ، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم من برّ أو فاجرٍ ، وطول السجود ، وحسن الجوار ، فبهذا جاء محمدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم ..

فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق في حديثه وأدّى الأمانة وحسّن خلقه مع الناس قيل : هذا شيعيّ فيسرّني ذلك.
اتقوا الله وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً ، جرّوا إلينا كل مودة ، وادفعوا عنّا كل قبيح ، فإنّه ما قيل فينا من حسن فنحن أهله ، وما قيل فينا من سوء فما نحن كذلك ، لنا حق في كتاب الله ، وقرابة من رسول الله ، وتطهير من الله لا يدّعيه أحد غيرنا إلّا كذّاب ، اكثروا ذكر الله وذكر الموت وتلاوة القرآن والصلاة على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فإن الصلاة على رسول الله عشر حسنات ، احفظوا ما وصيتكم به واستودعكم الله ، واقرأ عليكم السلام ».

المصدر : مؤسسة السبطين عليهما السلام العالميّة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى